الموازنة اللبنانية «مجمدة» في انتظار «نضوج» مساعي الحريري

توافقات مبدئية لزيادة ضريبتي الاستهلاك والفوائد المصرفية >المصارف مستعدة للتمويل ضمن إصلاح يضبط العجز والدين

جانب من مصرف لبنان (البنك المركزي) («الشرق الأوسط»)
TT

دخل مشروع قانون الموازنة العامة اللبنانية، للعام الحالي، دائرة الجمود القسري بعدما طالت المشاورات، التي يتولاها رئيس الحكومة سعد الحريري شخصيا، الهادفة إلى تأمين المخرج السياسي الملائم لمرور المشروع في مجلس الوزراء. ومن ثم رفعها إلى المجلس النيابي، حيث تلعب تشكيلة الحكومة المؤلفة من القوى السياسية الممثلة للكتل النيابية دورا حاسما في إقرار القانون بشكل سهل وانسيابي.

وتبدو وزيرة المال ريا الحسن عاجزة عن تحديد موعد جديد لطرح المشروع، وتفضل الحديث عن «أسابيع»، كلفظ ملطف لمهلة مفتوحة. خصوصا أن المواعيد التي حددتها سابقا ضاعت في المتاهة السياسية. شأنها شأن الموعد الذي حددته الحكومة ذاتها في بيانها الوزاري، بالتزام تقديم المشروع في نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي.

ووفق تأكيدات الحسن، فإن اقتراح قانون الموازنة جاهز رقميا وفنيا. وبمجرد تلقي «كلمة السر»، أي التوافق السياسي، سيتم ضمه إلى جدول أعمال مجلس الوزراء. وهذا يعني أن المهل الممددة تباعا قد تكون البديل لنقاشات طويلة في الحكومة. فتعود الأمور إلى نصابها ويتحقق «الإنجاز» بإقرار الموازنة الأولى منذ عام 2005. بما يفضي بالتالي إلى طمأنة الأسواق بجدية توجه الحكومة للإصلاح المالي والاقتصادي، حيث تتضمن بنود الموازنة زيادات في الإنفاق الاستثماري وتوجهات لإشراك القطاع الخاص المحلي والخارجي من خلال مشروع قانون عالق أيضا في المجلس النيابي يتيح استثمار السيولة الفائضة في القطاع المصرفي وجذب المزيد منها في حال وجود قنوات مجدية لاستخدامها.

ووفق المعلومات، فإن عقدة الموازنة تكمن في معادلة متناقضة. فالوزارات إجمالا تطلب زيادات في مخصصاتها وزيادات أكبر للاستثمار في إعادة تأهيل البنى التحتية الأساسية، خصوصا الكهرباء والاتصالات والطرق ومشاريع المياه وسواها. بما يزيد الإنفاق في الموازنة بين 2500 و3000 مليار ليرة. وهي مطالب محقة بسبب ترهل المرافق العامة واستمرار الاعتماد على نظام تقنين للكهرباء وهدر الثروة المائية وتخلف بنية شبكات الاتصالات والإنترنت. لكن الإقرار بمشروعية هذه المطالب وأهمية عدم تأخير أي منها، تقابله وزارة المال بأهمية تأمين الموارد الكافية لتغطيتها بما يكفل الحفاظ على عجز بحدود 10 في المائة من الناتج المحلي (نحو 3.5 مليار دولار) وعدم زيادة الدين العام الذي يشكل، بوضعيته القائمة، عبئا ثقيلا على الموازنة حيث تستهلك خدمته (تسديد أقساط مستحقة وفوائد سنوية) نحو 4 مليارات دولار، ويتخطى حجمه 152 في المائة من الناتج المحلي. وهو، إلى جانب المخاطر السياسية، من أهم أسباب تدني التصنيف السيادي الذي يضغط سلبا على تصنيف المؤسسات المصرفية والمالية الناشطة. ووفق تصور وزارة المال، فإن تصحيح المعادلة يقتضي زيادة الضرائب وفي مقدمتها ضريبة الاستهلاك لتغطية جزء من زيادة الإنفاق. وهذا ما ترفضه أطراف سياسية فاعلة في الحكومة والمجلس النيابي متذرعة بعدم قدرة أصحاب المداخيل المتوسطة والمتدنية على تحمل المزيد من الأعباء الضريبية. وكان رفض هذه الأطراف قاطعا لرفع نسبة الضريبة على القيمة المضافة من 10 إلى 15 في المائة بما يزيد إيراداتها بنحو 1000 مليار ليرة، لكن ظهرت ليونة مشروطة بقبول رفعها إلى 12 في المائة فقط بما يؤمن زيادة بنحو 400 مليار ليرة. أما المصدر الثاني الذي تعول عليه الوزارة فهو رفع الضريبة على الفوائد المصرفية من 5 إلى 7 في المائة، مع طروحات لحث القطاع المصرفي على المساهمة في سد جزء من الحاجات المالية للدولة على شكل عطاءات وتمويل. على غرار ما قدمته المصارف ضمن سلة مساعدات وقروض مؤتمر باريس 3، حيث اكتتبت حينها بما يوازي 10 في المائة من إجمالي ودائعها بسندات خزينة بفائدة صفر في المائة لمدة سنتين. ويبدو أن الجهود التي بذلها الرئيس الحريري نجحت في إزالة التحفظات المصرفية المواجهة لاقتراح زيادة ضريبة الفوائد. مما يحقق زيادة لا تقل عن 200 مليار ليرة، بحيث تتخطى واردات الموازنة من هذا البند 500 مليون دولار سنويا ضمن مسار يزيد تبعا لنمو الودائع رغم تأثره نسبيا بانخفاض هيكلية الفوائد. وفي كل حال فإن جباية هذه الواردات تتم من عوائد حسابات المودعين وليس من المصارف التي تدفع بدورها ضريبة الأرباح المحققة. وفي واقع الأمر، فإن إيرادات الضريبة على الفوائد تزداد سنويا دون زيادة نسبتها. فقد بلغت، مع بدء اعتمادها، عام 2003 نحو 96 مليون دولار، وفي 2004 نحو 152 مليون دولار، وفي 2005 نحو 223.5 مليون دولار، وفي 2006 نحو 276.6 مليون دولار، وفي 2007 نحو 289.8 مليون دولار، وفي 2008 بلغت 323 مليون دولار، وفي 2009 نحو 372 مليون دولار. وتخضع لهذه الضريبة كل الحسابات الدائنة، الودائع وسائر الالتزامات المصرفية وتشمل شهادات الإيداع، وسندات الدين والقروض، والتأمينات على الاعتمادات المستندية وعلى الكفالات، كما تخضع حسابات الائتمان وإدارة الأموال.

ويعتبر رئيس جمعية المصارف الدكتور جوزيف طربيه، أن القطاع المصرفي اضطر للاختيار بين تنامي العجز وفرض ضريبة محدودة على الفائدة، وفضّل الابتعاد عن كل ما من شأنه رفع العجز. فمن الأولوية «الاستمرار في الإنجاز، الذي حققه لبنان في العامين الأخيرين، لجهة خفض حجم الدين من الناتج المحلي الإجمالي وخفض العجز العام. لكن الدولة مدعوة أيضا إلى تحديد أولوياتها في الإنفاق العام لأن ليس كل الإنفاق أولويات وإن كنا في حاجة إلى ورشة كبرى بالنسبة إلى موضوع الإصلاح الاقتصادي والمالي والبنى التحتية». ويؤكد أن «ثمة أولويات لتمويل مشاريع التنمية والبنية التحتية وبرمجتها زمنيا قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية والمتعلقة بمشاركة القطاع الخاص في الإنفاق على البنية التحتية عبر الشراكة بين القطاعين. وثمة مشروع جاهز في مجلس النواب، بهذا الخصوص، يجب إقراره لتستطيع الدولة أن تفيد من شراكتها مع القطاع المصرفي القادر حاليا ولديه الرغبة في إنهاض البنية التحتية، لأنها توسّع الاقتصاد وتوفر فرص عمل جديدة، وتمكننا كمصارف تاليا من الإفادة من الازدهار».

أما لجهة المساهمات الموازية، فقد اقترحت جمعية المصارف منح الدولة نحو مليار دولار لقاء تنازلها عن حصتها في مؤسسة ضمان الودائع وتحريرها من التزاماتها حيالها، على أن يتم تقسيم المبلغ إلى 500 مليون دولار مقابل حصة الدولة، إضافة إلى مبلغ مقدر بنحو 150 مليون دولار يتم تقسيطه على ثلاث سنوات إضافة إلى 50 مليون دولار قيمة ما يترتب على الدولة هذه السنة، علما بأن الاقتراح يشمل أيضا تحرير الدولة من المترتبات السنوية بما يؤمن لها وفرا سنويا مستداما.

ويشكل نضوج الاقتراحات الضريبية، مدخلا جديدا لإعادة تفعيل المشاورات ونقل مشروع الموازنة من حيز الإعداد إلى حالة الإقرار الفعلي في الحكومة والمجلس النيابي، على أن يختار الرئيس الحريري التوقيت الأنسب وإعداد الصيغة - المخرج. حيث تأمل الأوساط الاقتصادية والمالية تحقيق اختراق جدي قريب لحالة الجمود السارية. خصوصا مع توفر صيغ تمويلية تغطي زيادة الإنفاق الواردة دون الحاجة إلى مزيد من الاستدانة. ووفق هذا «السيناريو» يقدر أن تبلغ نفقات الموازنة العامة للعام الحالي نحو 12.3 مليار دولار. مقابل إيرادات تبلغ نحو 9.5 مليار دولار. وهذا ما يبقي العجز دون نسبة 30 في المائة. وما يوازي 10 في المائة إلى الناتج المحلي.