الإسترليني يهبط لأدنى مستوياته منذ 14 شهرا.. لكن رُب ضارة نافعة

الجنيه يخسر 11% من قيمته مقابل الدولار في عام

TT

في الوقت الذي هبط فيه سعر اليورو إلى أدنى مستوياته منذ 4 أعوام بسبب الديون الحكومية في اليونان وبعض الدول الأوروبية الأخرى، هبط أيضا سعر الجنيه الإسترليني ولكن لأسباب مختلفة تتعلق أساسا بخوف سوق لندن من خطط الحكومة الجديدة تقليص الإنفاق الحكومي وتشديد الرقابة على الجهاز المصرفي. ورغم أن بريطانيا لم تتخلَّ عن عملتها الجنيه الإسترليني واستبدلته باليورو فإن أزمة الديون الأوروبية أيضا لها تأثير على العملة البريطانية. فضعف الدول الأوروبية وشُح سيولتها يقللان من قدرة هذه الدول على الشراء والتداول في أسواق العملات. كما أن الخطوة التي قامت بها ألمانيا أمس، بشكل مفاجئ، وهي حظر بيع «الأوراق المالية المكشوفة»، قد زادت من حالة التشاؤم العامة في الأسواق المالية مما أثر سلبا على سعر صرف كل من اليورو والجنيه الإسترليني.

أدى ذلك إلى هبوط الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوياته أمام الدولار منذ 14 شهرا ليسير في خطى اليورو الذي هبط بدوره إلى أدنى مستوياته منذ عام 2006. وبذلك تكون العملة البريطانية قد خسرت 11% من قيمتها أمام الدولار منذ بداية هذا العام، لتصبح من أضعف العملات أداء. كما فقد اليورو أكثر من 15% من قيمته منذ مطلع العام. وانخفض سعر الجنيه الإسترليني في تعاملات أمس إلى 1.424 دولار بعد أن كان يبلغ 1.63 دولار في يناير (كانون الثاني) الماضي، بينما تراجع اليورو إلى 1.214 دولار.

وجاءت عمليات البيع الجديدة للإسترليني بعد أن تضررت العملة بالفعل من انتشار المخاوف بشأن إجراءات تشديد السياسة المالية من جانب الحكومة البريطانية الجديدة التي وعدت بخفض 6 مليارات جنيه إسترليني من إنفاقها خلال السنة المالية الحالية. ويرى البعض أن تشديد السياسة المالية في الوقت الحالي قد يؤدي إلى تعطيل الانتعاش الاقتصادي الذي لا يزال يصارع للخروج من أزمة الائتمان الدولية التي ضربت الاقتصادات الغربية على مدى العامين الماضيين. كما أن عاملا آخر زاد من التشاؤم بشأن الجنيه الإسترليني هو أن بنك إنجلترا المركزي قرر الإبقاء على سعر الفائدة الأساسي كما هو (0.5%) رغم ارتفاع نسبة التضخم أول من أمس إلى 3.7%، أي أعلى من جميع التوقعات وأعلى من المعدل المستهدف البالغ 2%. وفوق هذا كله يقول عدد من المستثمرين، مثل آدم كول من قسم التخطيط الاستراتيجي في «رويال بانك أوف سكوتلاند» إن هناك قلقا خفيا من أن الحكومة الحالية قد لا تصمد لمدة 5 سنوات (فترة الدورة البرلمانية) لأنها حكومة ائتلافية بين حزبين لهما وجهتا نظر مختلفتان، وهي المرة الأولى في بريطانيا منذ 70 عاما لحكومة ائتلافية.

غير أن ضعف العملة البريطانية قد أدى إلى تطورين إيجابيين للغاية: ارتفاع الصادرات البريطانية، وإقبال مزيد من المستثمرين الأجانب على شراء الأصول والسندات البريطانية. وحسب إحصاءات بنك إنجلترا المركزي فقد نما القطاع الصناعي بأعلى معدلاته منذ أكثر من 15 عاما. وفي الوقت ذاته تدافع المستثمرون الأجانب على شراء السندات البريطانية بحيث أنفقوا خلال الشهرين الماضيين أكثر مما أنفقوه خلال عام 2009 بأكمله. والسبب في نظر الاقتصاديين واضح، فانخفاض قيمة الجنيه الإسترليني جعل المنتجات البريطانية - الصناعية والورقية - أرخص. كما أن احتفاظ بريطانيا بعملتها وعدم اندماجها في العملة الأوروبية (اليورو) حفظ لها استقلاليتها وحماها الضغوط الضخمة التي يتعرض لها اليورو حاليا بسبب عجز الموازنات الكبير في عدد من الدول الأوروبية الضعيفة مثل اليونان وإسبانيا. ويحاجّ كثير من الاقتصاديين بأن زيادة الصادرات البريطانية تُعتبر عاملا أهم لإنعاش الاقتصاد وتوسع الشركات في أعمالها ومن ثم استيعاب أعداد أكبر من العاملين وبالتالي تقليل العطالة ورفع ثقة المستهلك في الحالة الاقتصادية، مما سينعكس بدوره على مزيد من الإنفاق وتحريك دورة المال في الاقتصاد.

ويقولون الذين يتخوفون من الضعف المؤقت للعملة البريطانية إن العالم، في الواقع، غيّر عملته مرة واحدة في التاريخ الحديث، وهي عندما كان الجنيه الإسترليني يتربع على العرش إبان العصر الذي كان فيه الذهب مقياسا للعملة. ولكن خلال سنوات الحرب العالمية الأولى تحولت بريطانيا من دولة دائنة إلى دولة مستدينة. وبعد الحرب مباشرة، نحو عام 1920، برز الدولار الأميركي كالعملة الوحيدة التي يمكن استبدالها بالذهب دون مخاطر، رغم أن الجنيه الإسترليني كان لا يزال قريبا منه. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتوجه ضربة ثانية إلى الإسترليني الذي اضطُرّ إلى تخفيض قيمته مرتين خلال تلك السنوات، ليصبح بعدها الدولار سيد الموقف دون منازع كعملة الملاذ الأولى في العالم، أي العملة التي تفضل البنوك المركزية حول العالم الاحتفاظ باحتياطياتها النقدية بها. وخلال الثلاثين عاما الماضية تَعرّض الدولار لـ4 انخفاضات أكبر كثيرا مما يتعرض له الإسترليني الآن، آخرها هو الانخفاض الذي ساد خلال عامَي 2007 و2008، وخسر خلاله الدولار نحو 31% من قيمته مقابل اليورو و19% مقابل سلة من العملات المختلفة.

من جهة أخرى يقول البعض إن الجنيه الإسترليني على المدى البعيد لن يستطيع منافسة الدولار أو اليورو كعملة دولية لأنه أصبح عملة بلد واحد فقط، بريطانيا، وبصرف النظر عما يحدث الآن لليورو، فإن العملة المرجحة لمنافسة الدولار هي اليورو. فالعملة التي يلجأ إليها العالم للاحتفاظ باحتياطيه النقدي يجب أن تكون مستندة إلى اقتصاد كبير وله حصة معتبَرة من إجمالي الناتج التجاري والمالي في العالم. وبهذا المقياس فالاقتصاد الأميركي لا يزال مسيطرا. لكن منطقة اليورو، المتوسعة باستمرار، أصبحت قريبة جدا منه من حيث الحجم، بل إن حجم التجارة الأوروبية تعادل تقريبا مع نظيره الأميركي. وأصبحت أوروبا تُكمل نصف تعاملاتها التجارية بعملتها الجديدة، اليورو. بالإضافة إلى ذلك فإن اليورو ليس عملة دولة بعينها، كما هو الحال بالنسبة إلى الإسترليني.