السؤال الأكثر إلحاحا: كيف ستواجه بريطانيا أكبر عقبة من الديون في أوروبا؟

زيادة الإنفاق فيها كان الأكثر تكلفة في أوروبا

TT

في الوقت الذي تحاول فيه الحكومات من اليونان إلى البرتغال وإسبانيا بيع الأسواق، في حماسهم لخفض الميزانيات لديها، تعد بريطانيا هي الدولة التي قد تواجه أكبر عقبة في الديون.

كانت زيادة الإنفاق في بريطانيا، الذي حفزه وجود اقتصاد قوي انهار في النهاية عام 2008، الأكثر تكلفة في أوروبا، مما أنتج عددا كبيرا من المستشفيات اللامعة ومباني المدارس والطرق السريعة، إلى جانب كادر من المسؤولين الذين يتلقون رواتب عالية في القطاع العام.

والآن يتعين على الحكومة الجديدة الحد، ليس فقط من الديون التي تكونت على مدار عامين من الجهود المحفزة للاقتصاد، لكن أيضا من العجز الهيكلي الذي تراكم على مدار أكثر من عقد من الزمان من نظام الرعاية الصحية الموسع والتعليم والتزامات معاشات التقاعد.

وبكل جرأة تحدث رئيس الوزراء ديفيد كاميرون عن خفض العجز في الميزانية البريطانية، الذي يقترب الآن من 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. لكنه قال أيضا إنه سيسمح بالإنفاق في مجال الصحة لتجاوز معدلات التضخم، ليواصل بذلك اتجاها بدأه حزب العمال الذي ضاعف تكلفة الخدمة الوطنية الصحية الضخمة التابعة للحكومة منذ عام 2000.

ويعد ذلك الانفصال الواضح بين وعود السياسيين والمطالب القاسية للمستثمرين بخفض فوري وشامل في الإنفاق هو أصل الأزمة المالية في أوروبا اليوم.

وحتى بعد حزمة الإنقاذ التي تكلفت تريليون دولار ورتبها قادة الاتحاد الأوروبي من أجل دعم الأعضاء الأكثر ضعفا في منطقة اليورو، تقلبت الأسواق في الوقت الذي تزداد فيه المخاوف من أن الدول التي تعاني الديون تفتقر إلى الإرادة للصمود أمام الاتحادات العمالية القوية وخفض برامج الرعاية الاجتماعية التي كانت سخية في الماضي.

وقال أندرو ليليكو، كبير الخبراء الاقتصاديين في «بورصة السياسة»، وهي مجموعة أبحاث يمينية مقرها لندن: «إنك تحتاج إلى تضحية كبيرة لخفض هذا النوع من العجز». وقال إن الخفض السريع والفوري للإنفاق سيسرع في الحقيقة من الانتعاش الاقتصادي بدلا من عرقلته. وأضاف: «إنك تحتاج إلى شخص ما ليقول: سأفعل الشيء الصواب وسيكرهني الجميع».

ووفقا لتحليل أجراه «سيتي غروب» في الفترة الأخيرة، بلغ العجز الهيكلي البريطاني - الذي يعني ذلك الجزء من العجز في الميزانية الذي لن يتم معالجته عندما يتحسن الاقتصاد - 9.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تحتل بريطانيا المركز الثالث في العالم بعد اليابان واليونان التي تقترب من إعلان إفلاسها.

وكما هو الحال في بلدان أخرى في أوروبا، مثل إسبانيا واليونان وأيرلندا، لدى بريطانيا عجز نما في المقام الأول نظرا لعقد من الزمان من ارتفاع الإنفاق الحكومي الذي بدا معقولا في ذلك الوقت، لكنه أثر تأثيرا كبيرا على الإيرادات الضريبية المتنامية، التي اختفت عندما انفجرت الفقاعة.

وفي تقرير أخير، حذر صندوق النقد الدولي من أن الدول التي سيتعين عليها القيام بأكبر التضحيات في خفض الإنفاق والزيادات الضريبية للعودة إلى مستويات الدين قبل الأزمة - بريطانيا وفرنسا وأيرلندا وإسبانيا والولايات المتحدة - تواجه أيضا أكبر زيادة في مطالب الإنفاق. ويقود ذلك العدد المتزايد لكبار السن، مما يجعل من الصعب فرض التخفيضات.

وقال إدوارد هيو، الخبير الاقتصادي في برشلونة: «يوجد الآن في جميع الاقتصادات المتقدمة مكونات هيكلية مدمجة في العجز الحكومي نظرا لوجود أنظمة صحية وأنظمة للمعاش وعدد كبير من السكان كبار السن. وستزداد هذه التكاليف بنهاية العام الحالي».

وقال وزير الخزانة البريطاني جورج أوزبورن، الذي حث حزب المحافظين لفترة طويلة على خفض العجز، يوم الاثنين، إنه سيخفض الإنفاق بواقع 6 مليارات جنيه إسترليني (8.65 مليار دولار).

وعلى الرغم من أن هذه التخفيضات المقررة تعد متواضعة عند مقارنتها بالعجز في الميزانية الذي يُقدر بنحو 178 مليار جنيه إسترليني، فإنها تمثل جهدا يرمي إلى إقناع الأسواق المتقلبة بأن فريق كاميرون ملتزم بضبط الأمور المالية.

كما تمثل القائمة الأخيرة من القيود وخفض الإنفاق مجهودا يهدف إلى إقناع الرأي العام بأنه يجب على بريطانيا أن تكون متناغمة مع اليونان والبرتغال وإسبانيا وغيرها من الدول في أوروبا التي تقوم بخفض الميزانية.

وقال أوزبورن: «لقد انتهت سنوات الوفرة في القطاع العام. وكلما كنا حاسمين كنا أكثر سرعة في اجتياز هذه الأوقات العصيبة».

وانتقد كاميرون بصورة علنية خفض الأجور في القطاع العام، وقرر خفض مرتبات أعضاء البرلمان أنفسهم بواقع 5 في المائة. لكن لا يزال غير واضح ما إذا كان يستطيع فرض تخفيضات كبيرة في رواتب الطبقة الأرستقراطية في القطاع العام، والتي تشمل الموظفين في الحكومة ورؤساء السكك الحديدية الوطنية وكبار المسؤولين في الوكالات الغامضة مثل الوكالة الوطنية لتحسين عمل الشرطة ومجلس ضرائب الرهانات على سباق الخيول. وبلغت رواتب هذين الرئيسين، على سبيل المثال، العام الماضي 211831 جنيها إسترلينيا و220665 جنيها إسترلينيا على التوالي، وهو ما يتجاوز راتب كاميرون، الذي يبلغ 197 ألف جنيه إسترليني (نحو 284 ألف دولار).

ومن بين الأفراد الذي يتلقون أعلى الرواتب كان المديرون والأطباء في الخدمة الصحية الوطنية التي تمولها الحكومة، والتي أصبحت بمثابة اقتصاد منفصل حيث يعمل بها 1.7 مليون موظف ولها ميزانية إضافية تبلغ قيمتها 100 مليار جنيه إسترليني.

وعلى سبيل المثال، بلغ راتب ديفيد توبي، طبيب ومدير طبي لخمس مستشفيات تشكل تحالف الرعاية الصحية للكلية الوطنية، 260 ألف جنيه (375 ألف دولار) بأسعار صرف العام الماضي. وهذا الرقم أيضا يتجاوز الراتب الذي يتلقاه رئيس الوزراء.

ووفقا لتحالف ممولي الضرائب، وهي جماعة تؤيد خفض الإنفاق، تلقت قائمة من 805 موظفين بالحكومة يتلقون أعلى الرواتب في البلاد، زيادة في الراتب بلغت 5.4 في المائة العام الماضي، ويبلغ متوسط راتب كل مسؤول منهم 209224 جنيها.

ومع بلوغ راتب الرئيس التنفيذي لخدمة البريد الملكي 1.3 مليون جنيه، وراتب رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات في وزارة العمل والمعاشات 267 ألف جنيه، وراتب الرئيس التنفيذي لمستشفيات «سانت توماس» في لندن 270 ألف جنيه، فإن الرواتب المرتفعة لعمال القطاع العام في بريطانيا أصبحت أحد المكونات الرئيسية للعجز الهيكلي، ولا تشير إلى أي بوادر تُذكر على تراجع ذلك.

وقال جون أوكونيل، المحلل بتحالف ممولي الضرائب: «إننا نفعل ذلك الآن منذ خمسة أعوام، وتزداد الأعداد أكثر وأكثر».

وبداية من عام 2000، جعلت حكومة حزب العمال إحدى أولوياتها تحسين سمعة الخدمة الصحية الوطنية، واستثمرت المليارات في الإنشاءات ورواتب العدد المتزايد من الأطباء والمديرين بها.

وارتفع حجم الإنفاق على الرعاية الصحية في بريطانيا ليصل إلى 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 3 في المائة فقط. وتحولت صورة الخدمة من خدمة تمثل أوجه القصور الرتيبة للدولة البريطانية إلى ما يتم الإشادة به الآن على أنه نموذج عالمي، حتى من جانب السياسيين المحافظين أمثال كاميرون.

وفي ما يتعلق بالدكتور توبي، قالت متحدثة باسم تحالف الرعاية الصحية للكلية الوطنية إنه طبيب بارز في علاج أمراض الكلية، وإن معظم راتبه (180 ألفا إلى 185 ألف جنيه) يأتي من عمله كطبيب. ويتلقى راتبا إضافيا يتراوح بين 75 ألفا إلى 80 ألف جنيه مقابل واجباته الإدارية.

والآن يجب على الحكومة التعامل مع ما إذا كانت تستطيع كبح جماح مثل هذه الرواتب والإنفاق وبأي تكلفة سياسية.

*خدمة «نيويورك تايمز»