بالرغم من الديون.. الولايات المتحدة أكثر المناطق الاستثمارية أمانا في العالم

أموال المستثمرين تتدفق على سندات الخزانة الأميركية

تدفقت الاستثمارات الأجنبية على الاقتصاد الأميركي، رغم الأزمة الاقتصادية التي شهدتها البلاد، انطلاقا من قناعة المستثمرين باستقرار الأوضاع على المدى الطويل في الولايات المتحدة (أ.ب)
TT

يسود اعتقاد في واشنطن بأن ديون الحكومة الأميركية في تزايد مستمر يتعذر إيقافه، وأن النظام السياسي يعاني حالة من الشلل تعوقه عن الإقدام على اتخاذ إجراءات تفتقر إلى الشعبية لكبح جماح هذه الزيادة. وعلى الصعيد غير المعلن، ينظر الكثير من صانعي السياسات إلى فكرة أن هذا الوضع لن يتغير إلا عندما تجابه الولايات المتحدة أزمة مالية على غرار الأزمة المالية في اليونان باعتبارها حقيقة بديهية.

إلا أنه من الواضح أن أحدا لم يطلع الأفراد الذين يقرضون أموالا للحكومة الأميركية على هذه المعلومات، حيث أبدوا استعدادهم، الجمعة، لتسليم أموالهم لوزارة الخزانة لمدة 10 سنوات مقابل فائدة تبلغ 3.3 في المائة، وهو مستوى شديد الضآلة على نحو يوحي بأنهم لا يزالون ينظرون إلى الولايات المتحدة باعتبارها واحدة من أكثر مناطق الاستثمار أمانا في العالم. على نحو جماعي، يمكن أن يخسر هؤلاء المستثمرون - صناديق استثمارية مشتركة، وصناديق معاشات، ومصارف مركزية أجنبية - مئات المليارات من الدولارات حال اقترافهم خطأ باتخاذهم هذا القرار، بينما ستجابه الولايات المتحدة أزمة ديون.

إن الأمر أشبه بوقوف واشنطن في مواجهة سوق السندات، ولا يمكن أن يكون الجانبان على صواب.

وتدور وجهات النظر السائدة داخل واشنطن حول فكرة أن العجز الراهن في الميزانية ناشئ بصورة أساسية عن ضعف الاقتصاد ووجود محفزات اقتصادية قصيرة الأمد سرعان ما ستتلاشى، في الوقت الذي تواجه الحكومة على المدى البعيد أعباء هائلة لا سبيل لتمويل الاضطلاع بها، وبخاصة فيما يتعلق ببرنامجي «ميديكير» (الرعاية الصحية)، و«ميديكيد» (الضمان الاجتماعي والصحي).

في الوقت ذاته، تفتقر إجراءات تقليص النفقات وزيادة الضرائب التي بمقدورها سد هذه الفجوة إلى الشعبية. ومع وجود خطر اللجوء لإجراءات الإعاقة داخل مجلس الشيوخ حيال أي قضية خلافية، فإن التوصل إلى اتفاق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري يبدو أمرا غير محتمل. وقد أعلن الكثير من الجمهوريين بالفعل عزمهم عدم التصويت لصالح حزمة قرارات تتضمن زيادة الضرائب تحت أي ظروف.

وقد دفع هذا الوضع وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني إلى الإعلان في مارس (آذار) أن الحكومة الأميركية باتت أقرب إلى مخاطرة فقدان تصنيفها الائتماني الممتاز (Aaa)، وأن الإبقاء على هذا التصنيف قد يستلزم إدخال تعديلات على سياسات الضرائب والإنفاق «على درجة من الضخامة قد تجعل منها في بعض الحالات اختبارا للتناغم الاجتماعي».

بالنظر إلى هذه الحقائق، تسود في واشنطن وجهة نظر بأن الجهود الجادة لتقليص عجز الموازنة لن تجري سوى لحظة اندلاع أزمة، مثل فرض أسعار فائدة أعلى بكثير على الاقتراض، مما يفرض تناول قضية العجز.

في هذا الصدد، قال بروس بارليت، مسؤول وزارة الخزانة في عهد إدارة جورج إتش دبليو بوش، الذي كتب مؤخرا مقالا يتوقع خلاله تقليص تصنيف الحكومة الأميركية في غضون أقل من عام: «يمكنك الحديث عن الديون حتى يجف ريقك، لكننا لن نتحرك سياسيا على نحو صائب نحو تقليص العجز بصورة حقيقية إلا عندما يتسبب العجز في ألم اقتصادي في صورة تضخم أو ارتفاع أسعار الفائدة أو كليهما».

من الناحية الفعلية، يعد إقراض الحكومة الأميركية أشبه بتقديم قرض لزوجين تتجاوز نفقاتهما حدود إمكانياتهما المالية بكثير، في الوقت الذي ترفض الزوجة العمل وظيفة ثانية لزيادة الدخل ويرفض الزوج تقليل النفقات. وليس هناك مصرفي في العالم يتحلى بالشعور بالمسؤولية سيقدم على تقديم مثل هذا القرض، لكن الملاحظ أن المصارف والجهات الاستثمارية العالمية الأخرى تنظر إلى نحو مختلف بعض الشيء إلى سندات الخزانة الأميركية.

في أوساط المعلقين الاقتصاديين، ظهر بعض التذمر حيال أزمة الديون التي بدأت في اليونان وباتت تؤثر على نحو متزايد على دول أخرى غرب أوروبا، مثل إسبانيا وأيرلندا، وربما تتسع في النهاية لتتحول إلى أزمة ثقة في ديون الحكومة الأميركية.

إلا أنه حتى الآن، حدث العكس، حيث دفعت الأزمة المالية والركود معدلات الاقتراض الخاصة بوزارة الخزانة إلى أدنى مستوياتها، وخلال الأسابيع الأخيرة أدت أزمة الديون الأوروبية إلى تدفق الأموال إلى داخل الولايات المتحدة، مما دفع المعدلات نحو مزيد من التراجع، بدلا من أن تثير المخاوف في نفوس المستثمرين حيال سلامة سندات الخزانة التي يملكونها.

على سبيل المثال، اقترضت الحكومة، الأربعاء، دينا بقيمة 42 مليار دولار لمدة 5 سنوات بمعدل فائدة يبلغ 2.13%. جدير بالذكر أنه خلال تسعينات القرن الماضي، بلغ متوسط معدل الفائدة 6.3%.

إذن، كيف يفكر مستثمرو السوق؟ إنهم يتطلعون في مختلف جنبات العالم بحثا عن مكان آمن للاحتفاظ بالنقود فيه، وتبدو الولايات المتحدة أكثر المناطق أمانا - أو ربما أقلها افتقارا إلى الأمان.

الملاحظ أن أوروبا الغربية تتسم باقتصاديات أضعف من الولايات المتحدة، وإعانات أكثر سخاء فيما يخص برامج الرفاهية الاجتماعية، ونظام سياسي أكثر تشرذما، واتحاد نقدي ربما لا يساعدها على الخروج بسلام من الأزمة الراهنة. أما اليابان فتعاني من هرم سكاني أكبر سنا وأبطأ نموا، واتسم اقتصادها بالجمود على امتداد قرابة العقدين الماضيين. كما تتسم البلاد بمعدلات اقتراض بطيئة للغاية، مما يعكس - على نحو جزئي - معدلات ادخار مرتفعة بين المواطنين. أما الدول الرائدة على صعيد الاستقرار مثل أستراليا وكندا وسويسرا فتعد أصغر من أن تتمكن من التعامل مع تريليونات الدولارات من المدخرات العالمية التي يسعى المستثمرون العالميون للتوصل إلى مكان للاحتفاظ بها فيه.

في المقابل نجد أنه داخل الولايات المتحدة، بدأ الاقتصاد في النمو. وهناك مؤشرات ضئيلة على وجود تضخم، ومن المحتمل أن يبقى مصرف الاحتياطي الفيدرالي على معدلات الفائدة قصيرة الأمد منخفضة للغاية لبعض الوقت.

رغم أنه قياسا بالتجارب التاريخية تعد معدلات الفائدة طويلة الأجل منخفضة، فإنها لا تزال أعلى بكثير عن معدلات الاقتراض قصيرة الأجل، التي تعد فعليا صفرا، وهي ظاهرة تعرف باسم منحنى العائد الحاد. ويعني ذلك أن المستثمرين يشعرون بأنهم يتلقون تعويضا طيبا عن احتجاز أموالهم طوال هذه السنوات.

علاوة على ذلك، يتمتع الدولار وسندات الخزانة بمكانة تجعلهما أشبه بمرفأ آمن في خضم العاصفة في أي لحظة يبدو خلالها الاقتصاد العالمي أو النظام المالي عرضة للخطر. من جانبهم، يفترض مستثمرو السندات أن هذه العلاقة ستستمر. ويجري قياس عائدات الكثير من المستثمرين بالدولار، ما يوفر لهم حافزا إضافيا للكشف أمام ديون أميركية.

علاوة على ذلك، يستبعد مشترو السندات مخاطرة وقوع كارثة مالية كبرى لدى تعاملهم مع الولايات المتحدة، نظرا لأن الحكومة الأميركية أثبتت قدرتها على اتخاذ قرارات صعبة لكنها ضرورية عندما تستدعي الضرورة ذلك، مثل تمرير تشريع تقديم إعانة مالية بقيمة 700 مليار دولار للمصارف عام 2008 وحزمة تقليص العجز عام 1990.

في هذا السياق، أعرب دان شاكلفورد، الذي يتولى إدارة «نيو إنكوم فند»، وهو صندوق استثماري مشترك للسندات، يقع مقره في تي راو برايس، عن اعتقاده بأنه «ربما يستغرق الأمر وقتا أطول عما يوده أي شخص، لكن لدينا تاريخ يثبت توافر القدرة على إبلاغ الرسالة. لقد أوشكنا من قبل أن نقترب من حافة الأزمة، لكن الحكومة تمكنت بصورة ما من الاستجابة على نحو مناسب».

ويعني هذا أنه ربما لا نعلم كيف أو متى، لكن النظام السياسي الأميركي قوي بدرجة تمكنه من اتخاذ القرارات الضرورية.

ورغم ذلك، يبقى من الممكن أن تحلو المشاعر السائدة في السوق في لحظة، مثلما تجلى في حالتي الحكومة اليونانية والمديرين التنفيذيين لـ«ليمان براذرز» السابقين. وعليه، يبقى التساؤل الأكبر هو ما إذا كانت الحكومة ستتخذ إجراء مهما حيال عجز الميزانية قبل ارتفاع معدلات سندات الخزانة بصورة كبيرة. في هذا الصدد، حذر بارليت من أنه «هناك ميل في الأسواق لتجاهل حقائق معينة لفترات طويلة، ثم الالتفات إليها فجأة».

من جانبهم، يدرك مسؤولو إدارة أوباما مخاطرة حدوث تغير مفاجئ في وجهات النظر بين مستثمري السندات. من شأن حدوث ارتفاع شديد في معدلات اقتراض السندات إبطاء أو وقف استعادة الاقتصاد عافيته وستتفاقم مشكلة العجز بسبب ارتفاع تكاليف الحكومة لسداد الديون.

وعليه، حاولت الإدارة التلميح إلى سوق السندات بعزمها على تقليص عجز الميزانية في السنوات القادمة، حتى في الوقت الذي تدعو إلى زيادة النفقات على المدى القصير لدعم الاقتصاد. ومن بين هذه المؤشرات مقترح الرئيس هذا العام تجميد النفقات التقديرية غير الدفاعية لثلاث سنوات.

ومن غير المؤكد تحديدا كيف ستنعكس المخاوف المتنامية إزاء الديون الحكومية الأميركية على الأسواق المالية. قبل اتضاح تأثيرات الحجوزات الضخمة في الميزانية على معدلات الفائدة الخاصة بسندات الخزانة، ربما تبدو في صورة تراجع سوق الأسهم وارتفاع تكاليف الاقتراض بالنسبة للشركات الخاصة.

من ناحيته، قال روبرت إتش دوغر، الشريك الإداري في «هانوفر إنفستمنت غروب»: «الأسواق لا تحب قط المفاجآت الكبرى، ولهذا سميت مفاجآت كبرى».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»