المفاوضات

علي المزيد

TT

في منتصف فترة رئاسة الرئيس الأميركي رونالد ريغان واجه أزمة خطيرة، فقد أدى ما قام به من تعزيزات للخطوط الدفاعية وتخفيضات في الضرائب إلى ظهور عجز شديد في الموازنة الحكومية. ومما جعل الأمور أكثر سوءا أنه كان قد جمد علاوات أكثر من 3.5 مليون موظف حكومي لمدة عامين، كانوا على أقل تقدير مستائين من هذا الأمر للغاية، فقد كانوا يريدون علاوة ودون أي تأخير. ثم حان وقت إعلان «ريغان» عن المرتبات الحكومية للعام المقبل، وقد كان يدرك جيدا أن العجز الحاد في الموازنة لن يسمح له بزيادة مرتبات موظفي الحكومة بأي حال من الأحوال، وقد كان يعلم أن تجميد العلاوات لمدة عامين لا يروق الموظفين.

وكانت مخاوفه أنه لو جمد العلاوات لعام ثالث لازداد بغضهم له لدرجة تدفعهم إلى تدمير حياته الرئاسية. باختصار كانت الأزمة التي تواجه ريغان هي كيف يجمد علاوة موظفي الحكومة للعام الثالث، وفي ذات الوقت يكسب حبهم! ولم يقُم ريغان باستخدام المفاوضات المباشرة مع الموظفين، وإلا لقال لهم إن على كل مواطن أن يتحمل مسؤولياته ولا علاوة هذا العام، ولكنه لم يفعل ذلك. إذن ماذا فعل؟

استخدم ريغان أسلوب المفاوضين اليابانيين أو الروس، فقد دعا لعقد مؤتمر صحافي وأعلن عن الأزمة التي تمر بها بلاده، وقال: «نحن لا نستطيع تلبية مطالب الموظفين»، وأضاف: «في الحقيقة نحن ننوي خفض المرتبات بنسبة 5 في المائة».

ساد واشنطن حالة من الصخب، وصرخ 3.5 مليون موظف في لحظة واحدة: «ماذا؟! تخفض مرتباتنا؟! إننا نعجز عن سداد فواتيرنا الآن!».. وقد ظلت الجماهير الغاضبة مرابطة حول البيت الأبيض أربعا وعشرين ساعة، حاملين لافتات تقول: «ريغان ظالم». وقد ترك ريغان شعبه يعبر عن غضبه كيف يشاء لمدة أسبوعين.

وبعد ذلك دعا ريغان لعقد مؤتمر آخر عمد أن يظهر فيه بمظهر الأب الحاني، وقد قال ونظرات الإخلاص ترتسم على وجهه: «أنا أهتم بأمر موظفي الحكومة. إنهم شعبي الحبيب، وقد كنت حزينا للغاية وأنا أتخذ قرار خفض رواتبهم، حتى إنني أصبت بالأرق. وتحدثت مع نانسي في هذا الأمر، وقد قررت أنني لن أخفض رواتب الموظفين، وسنجد طريقة لمعالجة عجز الموازنة». وكانت تلك نهاية المؤتمر الصحافي.

وقال موظفو الحكومة: «لقد كدنا أن نهلك، ولكننا انتصرنا». يا له من رجل لطيف، إنها مفاوضات هزلية ولكنها حقيقية. لقد قام ريغان بتحويل شيء سيئ وهو تجميد العلاوات للسنة الثالثة على التوالي، إلى شيء مقبول باستخدام طريقة البداية القوية للتفاوض، فهو قد بدأ بداية قوية (تخفيض الرواتب 5 في المائة)، وبعد ذلك أبدى تأثرا واستقر على القرار الأول، وهو تجميد العلاوة. وهو ما يريد الوصول إليه. هذه القصة وردت في كتاب جيم توماس، أشهر خبراء أميركا في التفاوض، وعنوان كتابه «التفاوض للفوز»، وهو كتاب ألّف لإدارة المفاوضات التجارية، ولكم أن تديروا مفاوضاتكم التجارية كيف شئتم.. ودمتم.

*كاتب اقتصادي