مستشار الأمن الغذائي لرئيس حكومة كردستان: الأمن الغذائي يتقدم على الأمن القومي في الإقليم

طالب مراد: إذا أغلقت دول الجوار حدودها ستحدث «مجاعة»

طالب مراد («الشرق الأوسط»)
TT

لسنوات قليلة كانت كردستان مكتفية ذاتيا من الناحية الغذائية، وكان سهل أربيل وحده قادرا على توفير حاجة العراق من الحبوب، بغض النظر عن تصدير ملايين الأطنان من الخضر والفاكهة المحلية إلى بقية مدن العراق وعلى مدار السنة.

ونتذكر أنه في سنوات السبعينات والثمانينات كانت هناك دوائر زراعية متخصصة بتسويق المنتجات الزراعية تشرف على توزيع الفائض الزراعي في محافظات العراق حسب مواسمها، فإذا زاد إنتاج محافظة الرمادي أو الحلة من محصول الطماطم، تسوقه إلى محافظة أربيل، وبالعكس عندما تنضج الطماطم في أربيل بموسمها يسوق فائضها إلى محافظات الوسط والجنوب.

وهكذا كانت أسواق الخضر والفاكهة في جميع محافظات العراق مؤمنة الجانب ومغطاة بالإنتاج المحلي.

ولكن منذ تسعينات القرن الماضي أخذ الإنتاج الزراعي يتراجع يوما بعد يوم، وسجل في إقليم كردستان أرقاما قياسية في التراجع، خصوصا بعد سقوط النظام السابق وانتعاش الحالة الاقتصادية فيها، وتحديدا بعد ازدهار الحركة التجارية التي قضت تماما على فرص إمكانية إعادة المزارعين إلى قراهم.

وساعد التنافس الحزبي المقيت في تراجع مستويات الهجرة المضادة من المدينة الريف، من خلال توفير فرص التوظيف في دوائر الحكومة على سبيل الكسب الحزبي، فترك مئات الألوف من سكان القرى مزارعهم وبساتينهم وإنخرطوا في وظائف الحكومة لكسب أقواتهم بعد أن كانوا يستحصلونها بأيديهم، وتحولوا بذلك إلى مستهلكين بعد أن كانوا منتجين يصدرون محاصيلهم إلى دول الجوار.

ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا بأن خطط حكومات الإقليم لإنهاض القطاع الزراعي باتت معدومة تماما في السنوات الأخيرة على رغم أهمية هذا القطاع في مجال توفير الأمن الغذائي، وشاركنا الرأي الدكتور طالب مراد مستشار الأمن الغذائي لرئيس حكومة إقليم كردستان الذي أكد في حوار مع «الشرق الأوسط» أن التخصيصات المتواضعة لميزانية وزارة الزراعة والتي لا تتجاوز مائتي مليون دولار لا تساعد البتة في اعتماد خطط تنموية شاملة للنهوض بالقطاع الزراعي، وللأسف تحولت هذه الوزارة إلى وزارة «هامشية» في حين يفترض بأن تكون وزارة «سيادية» نظرا لما لها من أهمية بالغة في مجال الأمن الغذائي للمجتمع.

ويستطرد بالقول «لدينا مئات المشكلات في القطاع الزراعي بكردستان، بدءا من إغراق السوق المحلي بالمنتوجات المستوردة، مرورا بالهجرة غير الطبيعية لسكان القرى إلى المدن، انتهاء بانعدام الخطط الخمسية لإنهاض الواقع الزراعي» ويتابع: «القرية الكردية كانت لسنوات قليلة هي وحدة إنتاج، الآن أصبحت وحدة استهلاك، وهذه بادرة خطيرة جدا، لا أبالغ إذا قلت إن 90% مما نأكله ونشربه في كردستان يأتينا من وراء الحدود، هذا طبعا وضع نشاز وغير آمن تماما، فإذا ما افترضنا بأن دول الجوار أغلقت حدودها معنا ولأي سبب كان، فثق بأنه ستحدث (مجاعة) في كردستان، فما نفع كل هذه الأموال المتوفرة بأيدينا إذا لم نستطع بها شراء قوتنا»؟.

ويشير الدكتور طالب مراد الذي أمضى عقودا في العمل كخبير لمنظمة الفاو التابعة للأمم المتحدة إلى مفارقة غريبة بحديثه عن نظام طالبان ويقول: «أيام كان نظام طالبان يحكم أفغانستان كلفت بزيارتها لإعداد دراسة حول الوضع الزراعي هناك، وتوصلت من خلال دراستي لتلك الفترة بأن الأمن الغذائي في أفغانستان في ظل نظام طالبان كان أفضل بكثير من الأمن الغذائي في العراق، وكان الكثيرون يستغربون مني لهذا الطرح، ولكني كنت أشرح لهم بأن العملة الأفغانية في ظل طالبان كانت بلا قيمة، وكانوا لا يملكون دولارا يستطيعون به استيراد غذائهم من الخارج، في حين أن وزارة التجارة العراقية كانت تصرف 6 مليارات دولار لاستيراد الأغذية ومواد البطاقة التموينية، هذا غير الملايين من دولارات التجار التي يصرفونها بدورهم لاستيراد المواد الغذائية لأسواق العراق، وكنت أسوق هذا الحديث من باب المقارنة، ولكن بعد سقوط نظام طالبان صعدت قيمة العملة المحلية أضعاف أسعارها فأخذوا هم أيضا يستوردون المواد الغذائية بملايين الدولارات من باكستان».

وسألته «الشرق الأوسط» أنه إلى حد سنوات الثمانينات كانت الحكومة العراقية تفرض شروطا تعجيزية أمام تغيير مهنة الفلاح إلى العامل، وكانت خططها تمنع بتاتا الهجرة الفلاحية من الريف إلى المدينة، وكان جل اهتمامها ينصب على تشجيع الفلاحين على الإنتاج، خصوصا توفير الآليات الزراعية والأسمدة الكيمياوية والإعفاءات الضريبية وغيرها، فهل هذا الاهتمام موجود في حكومة كردستان؟. فأجاب: «المشكلة ليست محصورة في إقليم كردستان فقط، بل هي مشكلة عراقية أيضا، فتراجع الإنتاج الزراعي موجود في بقية محافظات العراق، رغم أن هناك خطوات من الحكومة العراقية بوضع ضوابط لاستيراد محاصيل معينة من الخارج، وهذه إجراءات تبشر بالخير، أما في كردستان فإن نسبة 90% من غذائنا نستوردها من دول الجوار كما أشرت سابقا، وتأتينا من تركيا وإيران وسورية، تصور أن مدينة أربيل التي كانت تشتهر بلبنها الممتاز، أصبحت اليوم تستورد لبنها من تركيا، مشاريع تربية الدواجن التي كانت تملأ كردستان وتغطي الحاجة المحلية، أصبحت اليوم تستورد لحوم الدواجن من البرازيل، القمح الذي ننتجه في كردستان يدخل بنسبة 20% في صناعة الرغيف اليومي و80% هي من القمح المستورد، في أوائل الستينات كانت نسبة 65% من سكان كردستان يعيشون في القرى وهم منتجون، واليوم تدنت هذه النسبة إلى 16% وليس كلهم منتجين، وهذه كارثة حقيقية، في المحصلة يجب أن ننبه إلى خطورة هذا الوضع المأساوي للقطاع الزراعي، وأنا باعتقادي أن الأمن الغذائي يتقدم على الأمن القومي، وللأسف فإن أمننا الغذائي لم يعد بأيدينا، بل بأيدي دول الجوار التي نعتمد عليها في غذائنا اليومي».

ويعلق الدكتور مراد آمالا كبيرة على وصول وفد المستثمرين المصريين إلى كردستان في الأيام الأخيرة، ويكشف لـ«الشرق الأوسط» أن وفدا زراعيا مصريا كبيرا سيصل إلى أربيل في غضون الفترة القادمة بناءا على طلب من وزيري الخارجية والتعاون المصريين بإرسال وفد من وزارة الزراعة المصرية إلى كردستان للبحث عن استثمارات في مجال القطاع الزراعي» ويقول: «أعتقد بأن وصول المستثمرين المصريين سيكون عاملا مهما في تطوير البنية التحتية للاقتصاد المحلي، لان المصريين لديهم إمكانات ضخمة في شتى مجالات الاستثمار. من الناحية الزراعية مصر تصدر ملايين الدولارات إلى أوروبا، وكان في العراق عمال مصريون بالملايين أغلبهم عمال زراعيون. فمصر تستطيع أن تقدم الكثير من المساعدة لكردستان من خلال كوادرها وتخصصاتها العلمية، وتجدر الإشارة إلى أن المصريين ليست لهم أي طموحات إقليمية في كردستان. كما أن مصر لم تغلق قط أبوابها أمام الشعب الكردي على عكس جميع الدول العربية، فدائما كانت هناك ممثليات للأحزاب الكردية في مصر، وكانت أبواب مصر دائما مشرعة أمام الأكراد للاستفادة من خبراتها وفي شتى المجالات».

ويلخص مستشار الأمن الغذائي بحكومة إقليم كردستان أهم المطالب الأساسية لإنهاض الواقع الزراعي بقوله: «في المقدمة يجب تشجيع الفلاحين للعودة إلى قراهم بتقديم المحفزات والتسهيلات اللازمة لهم ولأسرهم، والإكثار من إنشاء السايلوات لخزن الحبوب المنتجة، حيث هناك نقص حاد في عدد السايلوات، ولقد صادفنا في الموسم الحالي العديد من المشكلات في استلام الحبوب من المزراعين، ويجب أن ندرج في الخطة الخمسية بناء عشرات السايلوات لاستيعاب الكميات الهائلة من إنتاج الحبوب، الذي يكفي باعتقادي لتغطية جزء كبير من حاجات العراق، بدل استيرادها من الخارج، كما يجب إيلاء أهمية قصوى بالمنتوج الزراعي المحلي، وأود أن أشير إلى مبادرة تقدمت بها إلى السيد رئيس الحكومة بإعلان حملة وطنية شاملة لزراعة مليون شجرة زيتون في الإقليم، وفي الختام وباعتباري مستشارا للأمن الغذائي لحكومة الإقليم فإنني أدعوها إلى تبني خطط متعددة الجوانب لإحداث ثورة زراعية شاملة لإنهاض القطاع الزراعي لنتمكن من خلاله من توفير الأمن الغذائي لأجيالنا القادمة».