جاذبية لندن للأثرياء تحت اختبار زيادة الضرائب وضغوط الإنفاق

قانون «ضرائب الأثرياء» البريطاني يثير مخاوف مليارديرات «حي المال»

TT

هل تفقد لندن جاذبيتها للأثرياء الذين ظلوا يقصدونها من أنحاء العالم للإقامة والاستثمار واستغلال الخبرات المالية والقانونية النادرة التي تملكها شركات الوساطة والمحاماة والمحاسبة القانونية تحت وطأة التغييرات الأخيرة التي أجرتها حكومة العمال في عام 2008 على قانون الضرائب على الأثرياء غير المقيمين وأبقت عليها حكومة الائتلاف حتى الآن، وإن وعدت بمراجعتها مراجعة شاملة في العام المقبل.

في خضم الحراك الجاري وسط الحكومة الجديدة التي أنشأت وحدة خاصة في مصلحة الضرائب للتعامل مع الشؤون الضريبية التي تهم هؤلاء الأثرياء والبحث عن موارد مالية جديدة وسط تخفيضات هائلة في الإنفاق ستواجه لندن اختبارا حقيقيا خلال السنوات المقبلة. وعلى الرغم من أن «حي المال» البريطاني الأكثر جذبا للثروات وأثرياء العالم، ورغم الروابط الوثيقة التي تربط مليارديرات العالم بأحياء كينزنغتون، وماي فير، وتشيلسي، وأنديتها الخاصة العريقة، ومجتمع «سلون سكوير»، فإن هناك تزمرا من ضغوط الضرائب الجديدة. فأهل المال لا يحبون تعقيدات الضرائب والتساؤلات الخاصة بكشوف الحسابات والتحويلات وأوجه الصرف. «الشرق الأوسط» التقت عددا من خبراء المال والقانونيين لمعرفة خفايا القانون الجديد وبحث آثاره على لندن والأثرياء والثروات.

رفعت بريطانيا في الآونة الأخيرة من معدل الضرائب على دخول وأرباح الأثرياء غير المقيمين الذين ينطبق عليهم قانون الضرائب البريطاني من 10 إلى 28%، كما شددت الإجراءات الضريبية عليهم وسط غموض كبير في الكثير من نصوص القانون، والتعقيدات التي أثارت مخاوف «حي المال» في لندن من الآثار السالبة المترتبة على إجراءات الضرائب الجديدة على تدفق الأموال والثروات على بورصة لندن والعقارات الفاخرة وتنفيذ الصفقات الكبرى وحيوية «حي المال». وأعرب لـ«الشرق الأوسط» أكثر من خبير مالي وقانوني عن أن هذه القوانين بدأت فعلا في التأثير على عدد الأثرياء في لندن، كما أشارت تقارير إلى أن عدد الأثرياء الأجانب في لندن تناقص منذ إعلانها في أبريل (نيسان) 2008 وحتى الآن. وحتى العام الماضي تشير إحصائيات غير رسمية أن هنالك 112 ألف ثري غير مقيم ينطبق عليهم القانون.

أندرو غولدستون، المستشار القانوني والشريك في شركة «ميشكون دي راي» للمحاماة في لندن، وتعمل على نصح الأثرياء، قال لـ«الشرق الأوسط»: «على رجال الأعمال والأثرياء العرب الذين يستثمرون ويقضون فترات طويلة في لندن أن يضعوا في الحسبان الإجراءات الضريبية الجديدة التي أدخلت على قانون الضرائب على الأثرياء غير المقيمين في بريطانيا ويقضون فيها المدة القانونية التي تعرضهم لدفع الضرائب». وهذا القانون الجديد الذي أجازته حكومة العمال، لا يزال مثار نقاش من قبل حكومة الائتلاف الحالية التي وعدت بمراجعته خلال العام المقبل، وربما تدخل عليه تعديلات جديدة تعيد للندن حيويتها. وقد أنشأت الحكومة البريطانية وحدة خاصة في مصلحة الضرائب لجباية الضرائب من الأثرياء، على أمل زيادة الإيرادات من هذا القطاع الذي تعتبر أنه يستفيد من المزايا الاستثمارية في بريطانيا، ولكنه لا يسهم بما فيه الكفاية تجاه الخزينة البريطانية.

حسب تعريف مصلحة الضرائب البريطانية لغير المقيم الذي تنطبق عليه هذه الضريبة، هو كل من يقضي في بريطانيا 183 يوما في عام مالي واحد، أو من يقضي في بريطانيا أكثر من 90 يوما في المتوسط السنوي لأربع سنوات متتالية. وفي الواقع فإن قانون الضرائب على غير المقيم يشمل أصحاب الثروة من غير البريطانيين، كما يشمل رجال الأعمال والأثرياء البريطانيين الذين يقيمون في الخارج ويقضون أوقاتا في بريطانيا تطول حتى تعرضهم لدفع الضرائب، كما يشمل كذلك الذين يعملون في الخارج. وهو قانون معقد جدا يصلح لتفسيرات كثيرة جعلت عددا من الأثرياء يغادرون بريطانيا، وبخاصة من قياصرة المال الروس الذين قالوا إنهم يجدون صعوبة في فهمه والتعامل معه.

جون سوندرز، رئيس قسم إدارة الثروات لغير المقيمين، قال لـ«الشرق الأوسط»: «قوانين الضرائب على الأثرياء غير المقيمين قوانين معقدة، وننصح زبائننا الذين يرغبون في الإقامة في بريطانيا أن يأخذوا نصيحة من خبراء الضرائب قبل السفر، وعليهم أن يكونوا متأكدين من الفترة التي سيقضونها وكمية الأموال التي سيحملونها». وقال سوندرز: «مصرف (باركليز ويلث) لا يقدم النصح بنفسه بشأن هذه الضرائب، ولكنه يعمل مع خبراء قانون في شؤون الضرائب لمساعدة زبائنه».

«الشرق الأوسط» ستقتصر في هذا العرض على الأثرياء الأجانب غير المقيمين الذين تنطبق عليهم المدة القانونية للضريبة. ويلاحظ أن قانون الضريبة على الأثرياء غير المقيمين ليس قانونا جديدا ولكن التغييرات التي أدخلت عليه هي الجديدة، فهو قانون قديم يرجع تاريخه إلى القرن التاسع عشر، كان الهدف منه تشجيع الأثرياء على تعمير بعض المستعمرات البريطانية الفقيرة. ومنذ ذلك التاريخ أدخلت عليه عدة تعديلات كان آخرها في عام 2008.

وعلى الرغم من أن القانون الجديد للضريبة أبقى على فترة المكوث في بريطانيا التي تعرض صاحبها للضريبة دون تغيير، فإنه أجرى تعديلات على طريقة حسابها، كما رفع القانون الضرائب على الأرباح فوق هذا المعدل إلى 28%، ورفع كذلك الضريبة على دخل الموجودات غير التجارية، مثل الاستثمارات في الأسهم والعقارات والمشتريات من 10% إلى 28%. ويلاحظ أن القانون الجديد فرض هذه الضريبة على الموجودات التي يملكها «رجل الأعمال والثري غير المقيم» سواء كانت هذه الموجودات في بريطانيا أو خارجها. ويحدث ذلك لأول مرة. خلافا لما كان في السابق، حيث كانت تفرض هذه الضريبة على دخول الاستثمارات والأموال في بريطانيا فقط.

وطبقا لجهات قانونية تحدثت معها «الشرق الأوسط»، فإن القانون الجديد يحمل في طياته غموضا واضحا في الكثير من نقاطه، ويستدعى من رجل الأعمال أو المستثمر العربي الذي ينطبق عليه أن يأخذ الاستشارة القانونية من مستشاري الضرائب القانونيين حتى لا يتعرض لتكاليف مالية باهظة، يمكن تفاديها ببساطة.

وحسب القانون، فإن قضاء مدة 183 يوما في العام المالي أو أكثر من 90 يوما لمدة أربع سنوات متتالية تعرض غير المقيم لدفع الضريبة على الدخل والأرباح. وإن كانت فترة الـ183 يوما التي تعرض رجل الأعمال الأجنبي لدفع الضريبة تبدو واضحة، ولكن بالنسبة لمدة الـ91 يوما (أكثر من 90 يوما) فهي غير واضحة. ولشرحها، مثلا إذا أقام رجل أعمال في بريطانيا لمدة 4 أشهر في عام وأقام شهرين في العام الذي يليه وأقام 5 أشهر في العام الثالث و32 يوما في العام الرابع، فإن متوسط إقامته السنوية لمدة 4 سنوات تكون أكثر من 90 يوما، وينطبق عليه قانون الضرائب. وربما يقضي مدة 90 يوما في زيارة واحدة في السنة أو في عدة زيارات مجموعها 91 يوما. فإذا سافر رجل الأعمال قبل هذه المدة بساعة واحدة يكون قد تفادى دفع الضرائب، وإن لم يفعل فسيضطر إلى دفع الضرائب على جميع الأموال التي أدخلها إلى بريطانيا أو استثمرها في بريطانيا وخارجها وبنسبة 28%.

وبالتالي فإن المعرفة بهذه القوانين مهمة للأثرياء ورجال الأعمال العرب الذين تربطهم مصالح تجارية واستثمارية وعلاقات تضطرهم، في الكثير من الأحيان، إلى أن يزوروا بريطانيا عشرات المرات في السنة، وربما يقضي رجل الأعمال في 10 أو عشرين زيارة مدة الـ91 يوما، وهو لا يدري، فينطبق عليه القانون ويتعرض لدفع الضريبة.

بدأ تطبيق القانون الجديد في 6 أبريل عام 2008. ورفع القانون الجديد الضريبة على الدخل والأرباح المتحققة على رأس المال المستثمر في بريطانيا من 10 إلى 28%. ولكن هناك تفاصيل لا بد من ذكرها. وهي أن الضريبة على الأرباح المتحققة من الأعمال التجارية التي يملكها أو يديرها في بريطانيا تتراوح بين 10 إلى 28%. يدفع رجل الأعمال ضريبة 10% على الأرباح التي لا تفوق قيمتها 5 ملايين جنيه إسترليني و28% على الأرباح التي تصل إلى 15 مليون جنيه إسترليني (24 مليون دولار)، وتقفز هذه الضريبة على الأرباح إلى 40% في المبالغ فوق 15 مليون جنيه إسترليني. أما بالنسبة للموجودات غير التجارية مثل الأموال المستثمرة في شراء الأسهم والعقارات فإن الضريبة عليها 28%. ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أن رجل الأعمال الذي تنطبق عليه الضريبة، إذا حول مثلا من حسابه في دبي مبلغا يعادل 5 ملايين جنيه إسترليني (نحو 8 ملايين دولار) لشراء شقة في لندن. فإن هذا المبلغ ستخصم منه الضرائب بعد تحويله من دبي إلى لندن وبنسبة 28% إذا كان من الذين ينطبق عليهم القانون. وتدفع ضريبة الـ28% على جميع الأموال التي تحول لبريطانيا على من ينطبق عليهم القانون. ولكن هنالك ثغرات في القانون يستغلها المحاسبون القانونيون ومحامو الضرائب لحماية زبائنهم من التكاليف الضريبية. وحتى كبار الموظفين والمصرفيين في «حي المال» يستغلون هذه الثغرات.

المستشار القانوني في الضرائب أندرو غولدستون، الشريك في شركة «ميشكون» للمحاماة في لندن قال لـ«الشرق الأوسط» هنالك وسائل تمكن المستثمر أو رجل الأعمال من تجنب تكاليف هذه الضريبة، قال منها: «عليه أن يتأكد أولا من أنه لا ينطبق عليه القانون، ومن المهم أن ينفذ هذه الصفقات التي يرغب في تنفيذها قبل أن يكمل المدة القانونية التي تعرضه للضرائب». وأضاف: «في السابق كان القانون لا يفرض ضرائب على أرباح استثمارات الأثرياء الذين ينطبق عليهم القانون، في خارج بريطانيا، وينطبق القانون على استثماراتهم وممتلكاتهم البريطانية فقط. الآن الأمر مختلف، إذ يفرض القانون الجديد ضريبة الدخل والأرباح على أموالهم في بريطانيا وخارجها»، ومثالا على ذلك فإن رجل الأعمال غير المقيم الذي تنطبق عليه شروط الضريبة، سيطلب منه دفع ضرائب على جميع دخله المتحقق من أرباح أمواله واستثماراته خارج بريطانيا، بالإضافة إلى ما يملكه في بريطانيا. ويطالب القانون هذا المستثمر أو الثري بكشف مفصل عن حساباته واستثماراته.

ومن المهم معرفة أن هذا القانون يطبق أيضا وبأثر رجعي على الأثرياء الأجانب المقيمين في بريطانيا. في هذا الصدد تقول المحامية كاثرين فيدل: «فمثلا رجل الأعمال أو الثري الأجنبي الذي ينطبق عليه قانون الضرائب، إذا كان أقام في بريطانيا لأكثر من سبع سنوات خلال التسعة أعوام الأخيرة، فإنه يعفى من السبع سنوات الأولى ويطلب منه دفع الضرائب على السنوات المتعاقبة بعد فترة 7 سنوات.. فمثلا رجل أعمال عربي قضى المدة القانونية لدفع الضرائب (سنويا) أثناء زياراته المتكررة لبريطانيا خلال التسعة أعوام الماضية فستطلب منه مصلحة الضرائب دفع ضرائب على جميع دخله وأرباحه لمدة العامين الأخيرين وتعفيه من السبع سنوات (9 ناقص 7 سنوات)». وقالت المستشارة القانونية كاثرين فيدل لـ«الشرق الأوسط» إن من الممكن تفادي هذه التفاصيل بأن يقوم رجل الأعمال أو المستثمر بدفع 30 ألف جنيه إسترليني عن كل سنة من السنوات الخمس التي تستحق عليه الضريبة لمصلحة الضرائب، بدلا من عناء الدخول في تفاصيل الحسابات والاستمارات. وهذا المبلغ شبيه بالتسوية. ولكن هذا بالنسبة للسنوات الماضية، لا بالنسبة للمستقبل.

فالقانون الجديد لم يرفع الضرائب فقط على الأثرياء غير المقيمين ولكنه كذلك يلزم رجل الأعمال والثري الذي ينطبق عليه القانون بدفع الضريبة على الأموال التي يدخلها إلى بريطانيا وأي تحويلات وحتى الهدايا واللوحات والتحويلات المالية لشراء العقار والمتاجر وحصص الأسهم.

وسألت «الشرق الأوسط» أندرو غولدستون حول الكيفية التي يمكن للأثرياء العرب الذين ينطبق عليهم القانون تخفيض التكاليف، فقال: «عليهم أن يتأكدوا من فترات وجودهم في بريطانيا ويحسبونها جيدا، حتى تكون أقل من الفترة التي تلزمهم بدفع الضرائب، وعليهم كذلك أخذ النصح قبل الشروع في تنفيذ الصفقات وتحويل الأموال».

في الواقع إن الأثرياء يحبون لندن، لما تملكه من بنية مالية متطورة وخدمات قانونية متخصصة في المجالات الاستثمارية، وما توفره من علاقات بين الأثرياء، ولكنهم يترددون في كشف تعاملاتهم لمصلحة الضرائب ولا يحبون التشدد والمراجعات التي يفرضها عليهم القانون الجديد.

في هذا الصدد قال ديفيد كيلشو الشريك في شركة «كيه بي إم جي» لتدقيق الحسابات لـ«الشرق الأوسط» إن زيادة الضرائب على الأثرياء غير المقيمين بدأت تؤثر على وجودهم في لندن. وتشير إحصائيات نشرتها صحيفة «ديلي ميل» البريطانية ونسبتها إلى مصلحة الضرائب البريطانية، إلى أن نحو 12% من الأثرياء الأجانب المقيمين في بريطانيا غادروا إلى مراكز تجارية أخرى مثل سويسرا أو موناكو خلال العام المالي الماضي (2008 – 2009)، وفي أعقاب صدور هذا القانون. وهذا يعني أن ثريا واحدا من بين كل ثمانية غادر بريطانيا خلال العام المالي الماضي. وقدرت دراسة بريطانية أن حجم الأموال التي يملكها هؤلاء الأثرياء الذين ينطبق عليهم قانون الضرائب، بمبالغ تتراوح بين 75 و125 مليار دولار. ولكن تقديرات حجم الأموال المستثمرة في بريطانيا من قبل أثرياء العالم تفوق تريليون دولار. وتشمل هذه الاستثمارات أموال مليارديرات لا ينطبق عليهم قانون الضرائب.

تشير دراسة نشرتها مؤخرا شركة «برايس ووتر هاوس آند كوبر» المتخصصة في تدقيق الحسابات إلى أن بريطانيا الآن أصبحت تحتل المرتبة الرابعة عالميا من حيث ارتفاع الضرائب. ولا تنافسها في ذلك سوى السويد والنرويج وفنلندا. وهي دول لا تعد من مركز الجذب المالي. ومن حيث الدراسة المقارنة التي أجرتها الشركة فإن لندن تفرض ضرائب أعلى بكثير من منافساتها، سويسرا، وألمانيا، وفرنسا. وأشارت الدراسة إلى أن الأثرياء يجدون حوافز ضريبية وتسهيلات في موناكو وسويسرا مقارنة بالتشديد في بريطانيا. وتصديقا لهذه الدراسة فإن تقريرا في صحيفة «إيفننغ ستاندارد» أشار إلى أن 300 صندوق مالي هاجر إلى سويسرا في الآونة الأخيرة إلى سويسرا.

مستشارون لـ «الشرق الأوسط»: على الأثرياء العرب أن يلجأوا إلى الشركات المتخصصة لتلافي كلف الضرائب المرتفعة على استثماراتهم في بريطانيا

* خيارات أحلاها مر:

* تدفق رأس المال على أي دولة مهم لعملية التطور الاقتصادي وإنعاش التجارة والأعمال والخدمات المصاحبة مثل المطاعم والفنادق وأماكن الترفيه، وبالتالي خلق الفرص الوظيفية وتقوية القدرة الشرائية. كل هذه الوظائف والعمليات مترابطة ولا يمكن فصلها من التدفقات المالية التي يضخها الأثرياء، وبالتالي يلاحظ، حينما حدثت الأزمة المالية الأخيرة، كيف استجابت البنوك المركزية العالمية لفك الاختناق الذي حدث في الائتمان وتدفق السيولة بضخ تريليونات الدولارات في النظام المصرفي والاقتصادات لتوفير خطوط الائتمان وتسهيل التجارة. من هذا المنطلق يمكن التعرف على أهمية التنافس القوي بين دول العالم لجذب الأثرياء والثروة ومنحها التسهيلات الكافية لتتوطن. هذه التسهيلات تتراوح من خفض معدلات الضريبة على أرباح رأس المال وزيادة فترة السماح الضريبي والإعفاءات المتعددة والعلاوات والحوافز. ولذلك خلافا للعناوين البارزة التي تنشرها صحف «التابلويد» في بريطانيا حول استغلال هؤلاء الأثرياء لبريطانيا دون أن يدفعوا ضرائب، خلافا لهذه النظرة الضيقة فإن الحكومة البريطانية ورجالات الاقتصاد يعلمون جيدا أن التضييق على الأثرياء وشركات توظيف الثروة سينعكس سلبا على حركة إنعاش اقتصاد بريطانيا، لأن هذه الثروات هي التي تخلق الفرص وتنعش الأعمال التجارية والعقارات وترفع قيمة المشتريات والإنفاق الاستهلاكي. وهذا هو المطلوب، فكلما ارتفع عدد العاملين وقل عدد العاطلين؛ ارتفع دخل الخزينة البريطانية من الضرائب وقل إنفاقها على العاطلين. فالنقاش حول زيادة دخل الخزينة من الضرائب على الأثرياء ربما يفقد بريطانيا الثروة وفرص الوظائف. يقول هاري كاتس، من شركة «نور ويست» للاستشارات في رده على المطالبين بزيادة الضرائب على الأثرياء: «الأثرياء الذين لا يرغبون في دفع الضرائب سيفعلون ذلك وبالطرق القانونية». وأضاف: «هناك الكثير من الشركات المسجلة في بورصة لندن تغادر بريطانيا لأنها سئمت من نظام الضرائب الجديد».

الروس يهربون من «لندنغراد» إلى موناكو وزيوريخ

* المليارديرات الروس الذين تدفقوا إلى بريطانيا في العقد الأخير، كانوا مصدر ازدهار للتجارة والعقار والبورصة، طرحوا إصدارات أولية في بورصة لندن خلال السنوات الست التي سبقت الأزمة المالية فاقت 30 مليار دولار. وذلك وفقا لتقرير نشرته صحيفة «الفايننشيال تايمز» الأسبوع الماضي. وضخ أباطرة المال الروس مبالغ مماثلة في العقارات والصفقات التي تملكوا بموجبها أندية رياضية وعقارات فاخرة ويخوتا فارهة، كما أنعشوا الصناعة الفندقية والمطاعم والترفيه خلال الفترة التي تلت نزع «الشارات الحمراء» بعد الانفتاح والتحول من النمط المركزي إلى اقتصاد السوق وما تلاه من تخصيص.

خلال أعوام عقد التسعينات من القرن الماضي وحتى السنوات الأولى من القرن الحالي هبط الثراء على القياصرة الروس الذين فتنوا بلندن وحريتها وتنوعها. وجد أباطرة المال الروس الجدد في لندن العاصمة المثالية للاستثمار والترفيه والدخول إلى المجتمع الرأسمالي من أوسع أبوابه. ورحبت لندن هي الأخرى - بطبعها الأرستقراطي - بالأثرياء الجدد ومنحتهم عضوية في كثير من الأندية الخاصة، وأتاحت لهم فرصة التعرف إلى المجتمع الرأسمالي العالمي، عبر شركات العلاقات العامة التي تنظم الحفلات وتجمع بين الأثرياء والمشاهير.

بعضهم أطلق على العاصمة البريطانية «لندنغراد»، تشبيها لها بمدينة ليننغراد، المدينة الروسية المحبوبة التي هزمت هتلر في الحرب العالمية الثانية. وآخرون أطلقوا عليها «موسكو أون ذي تيمس»، والكثير من أسماء المدن المحببة إليهم.

ولكن حسب تصريحات بعض الأثرياء الروس، فإن زيادة الضرائب وتعقيداتها الجديدة جعلتهم يفكرون في جدوى البقاء في لندن. ونسبت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية إلى الملياردير الروسي أليكسي غلوبوفيتش، رئيس شركة «أربات كابيتال إنفستمنت»، القول: «الحياة في لندن لم تعد مفضلة بالنسبة لنا مثل ما كان في السابق». وأضاف: «التغييرات الضريبية الأخيرة أقلقت الكثير من الأثرياء المقيمين هنا وربما يغادرون».

وتأكيدا لذلك قال ديفيد كيلشو، الشريك في شركة «كيه بي إم جي» لـ«الشرق الأوسط» إن زيادة الضرائب على الأثرياء غير المقيمين بدأت تؤثر على وجودهم في لندن. وأضاف كيلشو: «رجال الأعمال والمستثمرون غير المقيمين الذين ينطبق عليهم القانون أصبحوا أكثر حذرا الآن من ذي قبل حين تحول أموالهم إلى بريطانيا أو الدخول في صفقات تجارية، لأنهم ربما يتعرضون للضرائب». وقال إن هذا الحذر وتعقيدات إجراءات حسابات الضرائب تحتاج منهم إلى أخذ النصح القانوني من جهات قانونية متخصصة في الضرائب قبل وبعد إجراء الصفقات وتحويل الأموال. وقال كيلشو إن المشكلة أن القانون الجديد سيخضع جميع العقارات والاستثمارات التي يملكها المستثمرون الأجانب لضريبة الدخل. وفي الواقع فإن لا أحد من أصحاب الثروات الذين ينطبق عليهم القانون يرغب في إعطاء تفاصيل عن استثماراته خارج بريطانيا.

الساندويتش الهولندي.. طرق قانونية يستخدمها الأثرياء والشركات لتقليل الضرائب

* على الرغم من غموض القانون وتعقيداته، فإن هناك طرقا قانونية كثيرة تتيح للأثرياء النفاذ من دهاليزه. من بين هذه الطرق استخدام فروع الشركات في مراكز «أوفشور» واستخدام المشتريات البينية لتقليل الأرباح. ولقد سبق لمكتب الاستثمار الكويتي في نهاية الثمانينات استخدام شبكة شركات في مناطق الأوفشور لتجميع حصص رئيسية والاستيلاء على بعض الشركات. من الأمثلة على طرق النفاذ التي تستخدمها الشركات:

شركة كبرى متعددة الجنسيات تمكنت من توفير مبالغ ضرائب عليها بنحو 3.1 مليار دولار خلال العامين الماضيين. وذلك من دخلها في أحد مقارها الخارجية في مدينة دبلن في آيرلندا، الذي تدير من خلاله مبيعاتها في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا. كيف فعلت ذلك؟. من خلال عملية حسابات قانونية يطلق عليها «الساندويتش الهولندي». هذه الشركة تتسلم دخل مبيعاتها عبر حساباتها في آيرلندا، ولكن النظام الضريبي في آيرلندا يفرض 12.5% ضريبة على أرباح الشركات. ولكي تتفادى ذلك قامت بإنشاء شركات واجهة تابعة لها في برمودا وهولندا. نظام الضرائب في برمودا لا يفرض ضريبة على دخول الشركات، بينما هولندا دولة أوروبية، ويمنح النظام الضريبي في المجموعة تحويل الأموال بين فروع الشركات المسجلة دون قيود أو أن تخضع لضريبة، خلافا لتحويل الأموال من آيرلندا إلى خارج المجموعة. فهذه الشركة، حينما تتسلم أموال المبيعات في حساباتها في آيرلندا تقوم بتحويلها إلى حسابات فرعها في هولندا دون أن تخضع لضرائب في آيرلندا. وحينما تصل الأموال إلى هولندا تقوم هذه الشركة باستغلال النظام الضريبي المتساهل في هولندا بإيداع هذه الأموال في حساباتها في برمودا. وهناك وسائل كثيرة غير هذه تستخدمها الشركات ويستغلها الأثرياء للنفاذ عبر ثغرات قوانين الضرائب وتوفير المبلغ المستحق عليه من مصلحة الضرائب. الحيل القانونية التي يبتدعها محاسبو القانون ومحامو الضرائب للنفاذ من مضائق الضرائب وإنشاء دهاليز لإخفاء الأموال من أعين رجالات الضرائب تزداد تعقيدا كلما تشددت الدول.

يقول أستاذ أميركي متخصص في قانون الضرائب، كلما تشددت الدول في الضرائب ورفعت معدلات الجباية على دخول الشركات والأثرياء؛ تبارت شركات إدارة الثروات في ابتداع الطرق لتقليل حجم الجباية. ولذلك يرى كثيرون أن أفضل طريقة لزيادة حجم الجباية الضريبية من الشركات والأثرياء هو تسهيل القوانين وتقليل معدلات الجباية على الدخل.

موظفو «حي المال» أغلبهم لا يدفع الضرائب وبشكل قانوني

* يستغل بعض كبار موظفي «حي المال» في لندن، من مصرفيين ووسطاء قانون، الضرائب المرتبط بالإقامة، حتى وإن كانوا يحملون الجنسية البريطانية، ويسكنون في جزر الأوفشور البريطانية مثل: جينزي آيلند، وجيرسي، وتشانل آيلندز، وفيرجن آيلند، وموناكو. تستغل هذه الطبقة الطائرات الخاصة أو حتى الطائرات العادية للحضور إلى لندن والإقامة فيها من يوم الاثنين إلى الخميس ومغادرتها بقية أيام الأسبوع، ويكونون بالتالي غير خاضعين للضريبة. لأن القانون لا يحسب يوم السفر (الاثنين) إلى لندن ويوم مغادرتها (الخميس) ضمن أيام الإقامة، وبإضافة الإجازات السنوية يكونون قد أقاموا أقل من 91 يوما في لندن، وبالتالي لا تحسب عليهم ضرائب. يقول بريندن باربر الأمين العام لمجلس اتحاد العمال البريطاني في محاضرة ألقاها يوم الخميس الماضي أمام عدد من مسؤولي الشركات البريطانية، إن مثل هذه الثغرات في قانون الضرائب على غير المقيمين يجب أن تغلق، لأنها تسمح لآلاف الأثرياء بتفادي الضرائب. وقال باربر إن إغلاق مثل هذه الثغرات ربما يجمع ضرائب على هؤلاء الأثرياء تقدر بنحو 4 مليارات جنيه إسترليني (نحو 6.4 مليار دولار). ويقترح الاتحاد العمالي، وفقا لصحيفة «الفايننشيال تايمز»، أن يعامل كل حاملي الجوازات البريطانية سواء كانوا في بريطانيا أو خارجها معاملة ضريبية واحدة، وأن يمنح الاستثناء فقط للذين يعملون في الدول التي تفرض ضرائب. وبالتالي تكون الضريبة على الجواز لا على مكان الإقامة أو مدة الإقامة في بريطانيا. ويلاحظ أن هؤلاء الموظفين الكبار والوسطاء يستغلون فقرة عدم الإقامة في بريطانيا وتفادي المدة القانونية التي تعرضهم لاستحقاق دفع الضرائب. ولكن مثل هذا المنطق لا يأخذ في الاعتبار المضار التي يجلبها التضييق على نفقات المال على لندن وفوائده الكثيرة على مناشط الاقتصاد في وقت تحتاج فيه بريطانيا إلى النمو.

255 مليار دولار مستحقة للضرائب على أموال الأثرياء والشركات.. ولكن

* حسب تقديرات «كريستيان أيد» البريطانية فإن الأثرياء والشركات متعددة الجنسيات تستغل الثغرات القانونية في إجراءات جباية الضرائب والإعفاءات ومناطق الأوفشور لتوفير الضرائب، وفي بعض الأحيان لا تدفع ضرائب بعد خصم الإعفاءات والمنح. أحد كبار المصرفيين في عاصمة أوروبية يدفع ضرائب أقل من الضرائب التي يدفعها منظف الحمامات في الشركة التي يعمل بها.

الشركات متعددة الجنسيات تنشئ في العادة «شركات واجهة» في مناطق الأفشور أو ما يطلق عليه «الجنان الضريبية»، لأنها لا تفرض ضرائب على الأموال والدخول والإيداعات وتكتفي بأخذ رسوم ضئيلة. وتستغل حسابات هذه الشركات التي تعمل بمثابة فروع لها في تحويل أرباحها من أوروبا وأميركا إليها. وحسب تقديرات «كريستيان أيد»، فإن حجم أموال الأثرياء والشركات المودعة في مناطق الأوفشور تقدر بنحو 11.5 ترليون دولار. وتقدر الجمعية حجم الضرائب المستحقة على هذه الأموال بنحو 255 مليار دولار. وتستخدم الشركات وسائل عدة من بينها الصفقات الوهمية في المشتريات وتضخيم التسعير بين فروع الشركة الواحدة، وبالتالي تحويل الأرباح من حسابات الفرع في الدولة التي تفرض ضريبة إلى حسابات فرع الشركة في منطقة الأوفشور التي لا تفرض ضريبة. يتم ذلك بواسطة شركات المحاسبة القانونية التي تستغل ثغرات نظم تسجيل الشركات. وكان النظام البريطاني حتى التسعينات يعفي الشركات البريطانية التي تسجل في بريطانيا ويعقد مجلس إدارتها اجتماعاته خارج بريطانيا ويجري تجارته مع شركات خارج بريطانيا من الضرائب. وهناك أساليب لا تعد ولا تحصى للهروب من الضرائب. وعلى الرغم من أن القانون البريطاني يعتبر تفادي دفع الضرائب جريمة كبرى، فإن الوسائل التي تستخدمها الشركات قانونية ولا يحاسب عليها القانون وإن كانت غير أخلاقية.