«المركزي الأميركي» يفكر بضخ تريليون دولار لتحريك الاقتصاد

في توقعات مسح أجراه بنك الاحتياط في نيويورك

مصير بن بيرنانكي يتوقف على نجاح خطة التيسيير الكمي (رويترز)
TT

سؤال المليون دولار الذي يشغل بال أسواق الصرف وكبار الوسطاء، هو كمية المبالغ التي سيضخها مصرف الاحتياط الفيدرالي «البنك المركزي الأميركي» في السوق. وفيما توقعت الخبيرة سابين سيشل بمصرف ميريل لينش «بانك أوف أميركا» في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن يضخ «المركزي الأميركي» مبالغ تتراوح بين 500 و750 مليار دولار، توقع المسح الذي أجراه «بنك نيويورك الفيدرالي» نهاية الشهر الماضي وسط المتعاملين في أسواق المال، أن يضخ مصرف الاحتياط مبالغ تصل إلى تريليون دولار. وفي مقابل هذه التوقعات المتواضعة يعتقد مصرف «غولدمان ساكس» أن تتراوح المبالغ بين تريليونين إلى 4 تريليونات دولار. ويلاحظ أن مصرف «غولدمان ساكس» لم يغير توقعاته للنمو الأميركي في تقريره الصادر أمس. وقال المصرف في التقرير إنه غير مقتنع أن ضخ أموال جديدة سيكون له تأثير ملموس على أسواق الأسهم. فيما توقع مصرف «ميريل لينش بانك أوف أميركا» أن تؤدي الأموال الجديدة التي سيضخها الاحتياط الفيدرالي ابتداء من الأربعاء والمقدرة مبدئيا بنحو 500 مليار دولار إلى إضعاف الدولار أكثر وبالتالي تحفيز الصادرات ومساعدة الاقتصاد الأميركي على النمو في العام المقبل. ويذكر أن الاقتصاد الأميركي نما بمعدل 2.0% خلال الربع الثالث بتحسن طفيف عن النمو المتحقق في الربع الثاني والبالغ 1.7%.

ووفقا للمسح الذي نشره «بنك نيويورك الفيدرالي» على موقعه، فإن المحللين والوسطاء يتوقعون أن يبدأ الاحتياط الفيدرالي في جلسته غدا (الأربعاء) بضخ مبالغ تتراوح بين 80 إلى 100 مليار دولار شهريا، فيما يترك الخيار لنفسه بشراء المزيد من السندات في المستقبل.

سياسة «التيسير الكمي» أول من استخدمها البنك المركزي الياباني بين أعوام 2001- 2006 لتحفيز الاقتصاد ولكنها لم تنجح وتخلى عنها البنك منذ ذلك الحين. ونفذ البنك المركزي الياباني، خلال الشهور المقبلة مشتريات محدودة لمساعدة بعض الشركات على النمو. ثم استخدمت الولايات المتحدة الأميركية في العام 2008 وفي أعقاب الأزمة المالية سياسة «التيسير الكمي» وأطلق عليها رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي بين بيرنانكي مصطلح «التيسير الإقراضي». وهو مصطلح يناسب فك الاختناق الائتماني الذي واجهته الأسواق في أعقاب شح السيولة وتجمد خطوط الائتمان بين البنوك، ولكن المصطلح الذي أصبح شائعا هو «التيسير الكمي». وضخ الاحتياط الفيدرالي نحو 1.75 تريليون دولار خلال عامي 2008-2009 في شكل شراء سندات متعثرة وأوراق مالية متعلقة بالرهونات العقارية وسندات القروض من الشركات والبنوك الكبرى التي واجهت الإفلاس على أمل إنعاش الاقتصاد الأميركي. ولكن هذه السياسة فشلت حينما انتكس الاقتصاد الأميركي وعاد للنمو السالب خلال الصيف الماضي، مما أثار الجدل حول جدوى سياسة «التيسير الكمي». ووفقا لتصريحات جوزيف ستيغلتز الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في محاضرة ألقاها أخيرا، فإن مخاطر سياسة التيسير الكمي أنها تهدد باستفحال التضخم، وتضخم الموجودات.

ويلاحظ أن «بنك إنجلترا» نفذ سياسة «التيسير الكمي» بمفهوم مختلف تماما، حيث نفذ «بنك إنجلترا» شراء حصص رئيسية في البنوك المتعثرة، فيما يشبه سياسة التأميم. وهو بذلك يكون متملكا لهذه الحصص. وهو بالتالي لم يجازف بشراء السندات والأوراق المالية الفاسدة مثلما فعل مصرف الاحتياط الفيدرالي. ويلاحظ أن المصرف المركزي البريطاني حقق أرباحا من مشترياته تقدر بنحو 19 مليار دولار. وذلك وفقا لتقديرات معهد دراسات الاقتصاد والأعمال التجارية البريطاني التي نشرها أخيرا. وفي المقابل فإن البنك الأوروبي يعارض سياسة «التيسير الكمي» ويعتقد أنها سياسة تشوه قيم الموجودات واستخدم البنك الأوروبي آلية صندوق الطوارئ لإنقاذ البنوك الأوروبية المتعثرة.

تستخدم الحكومات سياسة «التيسير الكمي» بين حين وآخر لزيادة حجم الكتلة النقدية في السوق وفك اختناق السيولة في لحظات الانكماش الاقتصادي الخطير، مثل تلك اللحظات التي واجهتها الاقتصادات العالمية في أعقاب الأزمة المالية الأخيرة، حينما فقدت الأسهم الأميركية 682 مليار دولار من قيمتها في 20 دقيقة من التعامل. وسياسة التيسير النقدي تعني ببساطة ضخ سيولة في السوق عبر شراء موجودات، حكومية كانت أو غير حكومية. وعادة ما تستخدم الحكومات هذه السياسة حينما تفشل الوسائل التقليدية التي تستخدمها البنوك المركزية في تحفيز الاقتصاد وفك الاختناق النقدي وشح السيولة، مثل خفض معدلات الفائدة وخفض سعر الخصم وخفض سعر الفائدة بين البنوك التجارية إلى معدل صفر وإلى معدل يقارب الصفر. حينما تفشل هذه الأدوات تلجأ البنوك المركزية إلى سياسة «التيسير الكمي».

أما كيف يطبق البنك المركزي سياسة «التيسير الكمي»؟. من الناحية التطبيقية يقوم البنك المركزي بإيداع أموال في حسابه «أوراق مطبوعة دون غطاء». ثم يستخدم هذه الأموال المودعة في حساب التيسير الكمي، في شراء موجودات مالية حكومية وغير حكومية، مثل السندات الحكومية وديون المؤسسات التابعة للحكومة، وغير الحكومية مثل السندات والأوراق المالية العقارية من البنوك وشركات العقار وسندات الديون من البنوك والشركات التجارية والمؤسسات المالية الخاصة. وتتم هذه العملية بواسطة البنك المركزي في مزاد مفتوح يطلق عليه «عمليات السوق المفتوحة». في عمليات السوق المفتوحة يقوم البنك المركزي بشراء السندات والأوراق المالية من البنوك التجارية والمؤسسات الحكومية وإيداع ثمنها «سيولة نقدية» في حسابات البنوك والمؤسسات الحكومية مقابل مشتريات السندات. ويذكر أن بنك الاحتياط الفيدرالي «البنك المركزي الأميركي»، لم يكن أول بنك يستخدم هذه السياسة، فقد سبقه إلى ذلك «بنك اليابان» – البنك المركزي الياباني. لقد طبق البنك المركزي الياباني بين أعوام 2001- 2006 حينما واجهت اليابان انكماشا كبيرا في اقتصادها بسبب نمو الديون المتعثرة والهالكة بمعدلات رفعت من معدل إفلاس الشركات وكادت تهدد الشركات التي تصنع اقتصاد البلاد. تدخل «بنك اليابان»، في السوق مباشرة بضخ أموال عبر ما أطلق عليه سياسة «التيسير الكمي»، حيث اشترى ديون الشركات المتعثرة. وخلال خمس سنوات ضخ «المركزي الياباني» 40 تريليون ين» (نحو 493.6 مليار دولار) في السوق اليابانية عبر شراء سندات الديون من البنوك والشركات. ورغم هذه الأموال الضخمة لم ينجح المركزي الياباني في تحفيز الاقتصاد وهزيمة الانكماش وتحريك السوق، والسبب يعود إلى أن الشركات والبنوك احتفظت بالسيولة التي تدفقت عليها بدون كلفة مالية تذكر وتاجرت بها خارج اليابان ولم تضخها في السوق. ومنذ ذلك الحين اقتنع البنك المركزي الياباني أن سياسة التيسير الكمي غير مجدية ولذلك لم ينفذ خلال الفترة الأخيرة إلا مشتريات محدودة. ويذكر أن الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان يعزو الكساد الكبير في الثلاثينات إلى عاملين، عامل معيار الذهب الذي يقاس عليه سعر الدولار، وبالتالي يحكم حجم الكتلة النقدية في الأسواق والذي اتبعته أميركا حتى السبعينات وألغاه الرئيس ريتشارد نيكسون في العام 1971. أما العامل الثاني فهو قيام مصرف الاحتياط برفع معدل الملاءة الرأسمالية في البنوك. ويقول إن هذين العاملين هما السبب الرئيسي في اختناق السوق وشح السيولة التي ضربت الاقتصاد الأميركي. من هذا المنطلق طبق رئيس الاحتياط الفيدرالي بين بيرنانكي سياسة «التيسير الكمي» لتوسيع الكتلة النقدية وإنقاذ الاقتصاد من دورة كساد شبيهة بدورة كساد الثلاثينات.