أذربيجان تعيش الانتعاش الكبير وسط المستثمرين والشركات الأجنبية

7 مليارات دولار دخل النفط في العام الماضي

بعد قرن من الحرب والهيمنة السوفياتية عليها، أصبحت أذربيجان من الاقتصادات الأسرع نموا في العالم («نيويورك تايمز»)
TT

إلى شمال باكو بوليفارد، هو اسم الحديقة التي تفصل عاصمة أذربيجان باكو عن واجهتها البحرية على بحر قزوين، يقف برج ميدين. ويعتقد أن هذا البرج المكون من ثمانية طوابق، والذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر، بني بغرض المراقبة ورصد الجيوش الغازية للمدينة. واليوم، أضحى هذا البرج محور المدينة القديمة المحاطة بالأسوار داخل باكو. وقد بنيت المباني التي تعود للقرن الخامس عشر داخل تلك الجدران من الحجر الرملي. ومنذ 2003، وبعد جهود كبيرة أعيد ترميم هذه المباني. وتمد على طول هذه المدينة متاهة من الممرات المتعرجة، ويختفي بداخلها قصر بديع كان مقرا لعائلة شيرفاشاه، قادة الأسرة الحاكمة في أذربيجان خلال العصور الوسطى. واليوم، يقوم تجار السجاد ببيع بضاعتهم في المدينة وهم يرددون عباراتهم المعتادة: «مرحبا» و«من أين أنت؟».

وخارج أسوار المدينة القديمة تكمن مدينة أخرى، بها قصور رائعة مبنية على النمط الأوروبي للفنون بناها أول قطب من أقطاب النفط في المدينة منذ قرن مضى، وقد أصبحت منفذا لبعض من أكثر العلامات التجارية العالمية المعروفة، مثل غوتشي وهاري وينستون وبربري. وفي المساء، تجلب سيارات من طراز «مرسيدس بنز» و«بنتلي» رجال ونساء مطاعم شينار ليتناولوا أطعمة «ساتيه» التي يقوم بإعدادها طهاة تدربوا في مطاعم نوبو العالمية الشهيرة. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، وبعد قرن من الحرب والهيمنة السوفياتية عليها، أصبحت أذربيجان من الاقتصادات الأسرع نموا في العالم. وقد أودعت عوائد النفط 7 مليارات دولار في خزانتها في العام الماضي فقط، مما أدى إلى تدفق الاستثمارات والمستثمرين الأجانب. وقد ترك هذا الانتعاش مدينة باكو تحت الأضواء.

ويقول جواد ماراندي، الشريك الإداري لـ«مجموعة باشا»، الشركة التي تملك مطاعم شينار، وهو من الجيل الثاني الذي يملك المقاهي التي كانت من دعائم المدينة منذ عقود: «إن سكان أذربيجان لا يريدون الاكتفاء بعد الآن بالقول (هذا جيد بما فيه الكفاية لمدينة باكو. نحن نطمح إلى أن تكون باكو واحدة من العواصم الأكثر جمالا في أوروبا أو آسيا)».

وفي الواقع، فإن رؤية باكو الجميلة - على الرغم من أنها لا تزال غير واضحة - بدأت تتشكل حول هذا الأمر. ووفقا لهذه الرؤية فسوف تتوسع الحديقة الموجودة على طول ضفاف البحر إلى ضعفي مساحتها الحالية وسوف تقام بها مراكز حديثة للتسوق ودور سينما ومحلات. وهناك نقاش دائر حاليا حول إقامة مشروع على غرار غوغنهايم بلباو، بالقرب من الحديقة، لاستكمال متحف الفن الحديث الذي افتتح في المدينة مؤخرا والذي يضم بين جنابته مجموعة أكثر من 1000 لوحة فنية لفنانين بارزين من أذربيجان وفنانين عالميين مثل بيكاسو ودالي.

ويتم حاليا بناء جناح ثقافي جديد، وضعت تصميمه المهندسة المعمارية زها حديد، إلى الشمال من وسط المدينة، ومن المتوقع أن يضم قاعة مؤتمرات ومكتبة وعدة متاحف. ومن المقرر بناء أكثر من اثني عشر فندقا فخما في جميع أنحاء المدينة، بما في ذلك أول فندق يتبع سلسة «فور سيزونس» في أذربيجان والذي سيكون الأول أيضا في كل الجمهوريات السوفياتية السابقة. ومن المقرر افتتاح هذه الفنادق خلال العامين المقبلين.

وربما الأكثر أهمية هو المشاريع العامة، والتي يتم تنفيذها حاليا ولكن ببطء، فقد تم تحديث شبكات الكهرباء وتم مد شبكات اتصالات متطورة واستبدلت بالطرق غير الممهدة طرقا سريعة. وبحلول عام 2012، من المتوقع أن يبدأ تشغيل خط سكك حديدية إقليمي - يصفه البعض بطريق الحرير الحديث – والذي سوف يربط باكو بتبيليسي، عاصمة جورجيا في الشمال، وتركيا في الغرب.

ومع ذلك، فإن إحداث تغيير في البلاد أمر يتطلب أكثر من رافعات بناء. وفي كثير من الأحيان تنتقد الحكومة، التي يقودها الرئيس إلهام علييف، وتتهم بممارسة القمع ولا توجد صحافة حرة في باكو حتى الآن. والأعراف الاجتماعية المحافظة تمنح المرأة دورا محدودا في الحياة العامة في المدينة. وفي كل سنة، تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في باكو.

وتسود خيبة الأمل في وسط مدينة الأثرياء، حيث تخرج الأسر للتنزه في ساعات المساء في الشوارع والدردشة على المقاهي المصطفة على طرقات المدينة. وعلى طول الطريق الممتد لميلين ونصف الميل ترى مراهقين ومراهقات يتبادلون القبلات، وهو يذكرنا بأنه على الرغم من أن جميع السكان مسلمون، فإن أذربيجان تفتخر بأنها دولة علمانية. وفي كثير من الأحيان، يمكن سماع أنغام موغام - وهي عبارة عن مزيج من الموسيقى الشعبية التقليدية الأذربيجانية والأشكال الموسيقية الكلاسيكية وموسيقى الجاز - من الشارع ومن داخل قاعة أوركسترا، التي أعيد افتتاحها عام 2004 بعد عملية تجديد كبيرة.

وقال بروس غرانت، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك، الذي سافر إلى باكو بانتظام في العقد الماضي: «إنها ثقافة حقيقية في المناطق الحضرية أن تراقب جيرانك يمرون ذهابا وإيابا. وهذا شيء لا تراه الآن كثيرا، على سبيل المثال، في روسيا».

ومن المحتمل أن يتنامى لآذان الزائرين مزيج ثري من اللغات، ويعود جزء من الفضل في ذلك إلى التأثيرات المتنوعة التي مست البلاد على مر السنين، وتتمثل أبرز اللغات التي يجري التحدث بها في التركية والفارسية والفرنسية والروسية. ومن المحتمل أن تجد الشباب على وجه الخصوص ملمين بثلاث أو أربع لغات، منها الإنجليزية على نحو متزايد.

من جهتها، قالت نرمين كمال، 29 عاما، كاتبة: «في يوم من الأيام، قد تتحول باكو إلى جسر مهم للغاية بين العالم الإسلامي الشرقي وأوروبا بتسامحها ودفئها».

من نافذة شقتها، يمكن لنرمين معاينة التحول الذي يشهده موطنها، خاصة أنها تعيش بالقرب من ميدان أزنفت، الذي يشكل العماد الجنوبي لباكو بوليفارد. وعلى مسافة بعيدة، تنتشر بالأفق المظاهر التي خلفتها نشاطات التنقيب عن النفط على امتداد قرن. وتعكف منصات التنقيب عن النفط الحديثة على العمل بدأب جنبا إلى جنب مع الرافعات الأخرى العتيقة المنتمية لأربعينات القرن الماضي القائمة على جزيرة نفت داشلاري التي تعاني التلوث وتعرف أيضا باسم «جزيرة الصخور النفطية». وتذكر هذه المشاهد الجميع بأن «النفط يحمل معه السعادة والمأساة لأذربيجان»، حسبما أوضحت كمال.

في الواقع، إن ثقافة الثروة الجديدة، الآخذة في الانتشار في البلاد وتعتمد على النفط، جعلت من باكو منافسا للمدن الأوروبية أمام السائحين المعنيين بالنفقات على صعيد واحد على الأقل: الأسعار. ومن شأن العملة القوية (مانات) والارتفاع الشديد في أسعار العقارات جعل سعر غرفة بأحد الفنادق أقل من 200 دولار في الليلة (ما يعادل نحو 157 مانات أذربيجانيا، عند معدل 79 مانات للدولار الواحد)، مما يعتبر سعرا معقولا.

وبإمكان الفساد إضافة مزيد من التكاليف إلى الكثير من الصفقات التي تبرم في أذربيجان. مثلا، في أغلب الأحوال يواجه الزائرون الفساد في نقاط شرطة المرور التي ربما تطيل أمد جولة عبر المدينة بمقدار ساعة عن الوقت اللازم.

إلا أنه على الرغم من كل المضايقات التي قد يواجهها المرء داخل عاصمة دولة بترولية تنتمي لحقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، تبقى باكو وسكانها متميزين بدفء العالم القديم. ويبقى سحرها الأكبر مرتبطا بمطابخها وأفنية منازلها. ليس عليك سوى مصادقة أذربيجاني، والاحتمال الأكبر أنه سيدعوك لتناول العشاء معه في وقت قصير. وتعتبر أفنية المنازل محور الحياة الاجتماعية بالنسبة للكثير من الأسر. ومن المؤكد أن الولائم تحتوي على خضراوات طازجة وكباب ودولما وورق عنب أو كرنب أو طماطم محشوة بلحم مفروم.

ويمكن أن تستمر المحادثات مع أبناء البلد من الرجال لساعات داخل المقاهي التي تعج بالحركة، والتي تعتبر محرمة على النساء (بحكم التقاليد، وليس القانون). وعلى الرغم من أن هذه المقاهي تضم أحيانا غرفا مؤثثة بعناية، فإنها في الغالب لا تتجاوز مجرد مجموعة من المقاعد والطاولات البلاستيكية في مكان مفتوح. ويكلف قدح الشاي أكثر قليلا من مانات واحد. ويدخن الرجال التبغ ويحتسون الشاي من أكواب صغيرة، أثناء ممارستهم لعبة أشبه بالطاولة. وأوضح بروفسور غرانت أن المقاهي «تعتبر من بين آليات الترويح عن النفس المحورية بالمدينة، وتوفر متنفسا للرجال عندما يسيطر على منازلهم أقاربهم والضيوف الآخرون».

من جانبهم، يحاول مالكو «تشينار» استغلال هذه الروح من الألفة، وإن كان على نحو عصري أكبر. وكثير ما سمع ماراندي، عندما كان لا يزال طفلا في لندن، قصصا حول تشينار الأصلية من أقاربه الذين فروا من باكو عام 1920 في أعقاب الاحتلال السوفياتي. وقال ماراندي: «إنها حديثة وعصرية، ولم لا؟ إن الأذربيجانيين يصرخون من أجل التمتع بالجديد والأفضل، ويعلمون أنهم يستحقونه».

*خدمة «نيويورك تايمز»