بنوك سويسرا تجمع المزيد من الودائع الأجنبية على الرغم من الضغوط الدولية

أميركا سحبت الدعوى القضائية ضد «يو بي إس»

TT

ربما تكون سويسرا قد وقعت الكثير من الاتفاقات الضريبية الخاصة بجمع الضرائب عن الحسابات الأجنبية وتسليمها للدول التي وقعت معها اتفاقات، وربما تكون قد خسرت بعض الزبائن، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية، ولكن البنوك السويسرية لا تزال تحتفظ بالسرية المصرفية وتحتفظ بالثقة من قبل مستثمرين كثر في العالم، وتزيد من حجم إيداعاتها، وذلك طبقا للإحصاءات التي نشرتها شركة «هالفي» للوساطة المالية السويسرية.

ويلاحظ أن سويسرا لم تلغ قوانين السرية المصرفية التي تعتز بها وتميزها عن باقي المصارف العالمية، على الرغم من التنازلات التي قدمتها، في سبيل إرضاء أميركا وألمانيا وبريطانيا منذ مارس (آذار) العام الماضي. وهي الدول التي هددت بوضعها في القائمة السوداء، وحجب بنوكها من التعامل في دول منظومة التنمية والتعاون الاقتصادي. وكانت الحكومة السويسرية قد ذكرت أمس أن سلطة الضرائب الأميركية سحبت دعوى قضائية ضد بنك «يو بي إس» تطالبه فيها بتقديم معلومات عن عملائه الأميركيين، منهية خلافا ضريبيا كان يهدد بإسقاط البنك. وأسقطت السلطات الأميركية بذلك الاتهامات الموجهة للبنك، بعد أن تعهدت سويسرا بنقل تفاصيل بيانات نحو 4450 عميلا ساعدهم البنك على التهرب من الضرائب. وقد يعتقد البعض أن هذا إلغاء لقانون السرية المصرفية، ولكن البرلمان السويسري سمح بتقديم معلومات حول الجرائم الخاصة بالضرائب. وعلى الرغم من الخسائر التي تكبدها بنك «يو بي إس» خلال العام الحالي وعام 2008، فإنه في طريقه للتعويض.

ووفقا للإحصاءات التقديرية التي أعلن عنها مديرو محافظ الثروات في البنوك السويسرية الخاصة، وأعلنت عنها شركة «هالفي» للوساطة، فإن البنوك السويسرية على الرغم مما فقدته من أرصدة أجنبية مستثمرة فيها خلال الأعوام الأخيرة، نجحت في زيادة صافي الأرصدة المودعة من قبل الأثرياء الأجانب. وفي الوقت الذي سجل فيه مصرف «يو بي إس» عملاق الصناعة المصرفية السويسرية، أعلى معدل من سحوبات الموجودات الأجنبية، نحو 248 مليار فرنك (أكثر من 250 مليار دولار)، بسبب الحملة الشرسة التي تعرض لها من قبل سلطات الضرائب الأميركية وما تعرض له من غرامات خلال العام الماضي، تمكنت المصارف الأخرى من جذب إيداعات ضخمة مستفيدة من ضعف الدولار وبحث المستثمرين عن «ملاذ آمن». ونسبت تقارير غربية إلى المدير التنفيذي لمصرف «يو بي إس» في شهر يوليو (تموز) الماضي أنه يعمل على تعويض الموجودات التي فقدها خلال الفترة الماضية من خلال توظيف المهارات المصرفية الاستثمارية.

وتشير إحصاءات مديرو هذه المحافظ التي نشرتها «هالفي» إلى أن البنوك السويسرية الخاصة البالغ عددها 19 مصرفا، عوضت هذه السحوبات وجذبت إيداعات أجنبية فاقت المبالغ المسحوبة وسجلت فائضا صافيا يقدر بـ 50 مليار فرنك (نحو 53 مليار دولار). ووفقا لهذه الإحصاءات، فإن مجموعة «كريدي سويس» ومصرف «سارسين آند سي» وبنك «بيكت آند سي» حصلت على أكبر التدفقات النقدية. حيث تمكنت هذه المصارف الثلاثة من جذب ودائع قدرت بنحو 196 مليار فرنك (200 مليار دولار). ونسبت وكالة «بلومبيرغ» إلى سباستيان دوفي، المدير الشريك في شركة «سكوربيو» للاستشارات في لندن، قوله: «يبدو أن المصارف السويسرية تعرضت لخسائر أثناء الأزمة المالية، إلا أنها خرجت منها سليمة وتتجه أعمالها للنمو». ويستهدف مصرف «كريدي سويس» الذي تتهمه السلطات الضريبية في عدد من الدول الأوروبية بإخفاء حسابات لمواطنيها تقدر بنحو 100 مليار فرنك سويسري، جذب ودائع تتراوح بين 175 و225 مليار فرنك حتى عام 2012.

ويقول خبراء ماليون في لندن إن سلطات الضرائب في أميركا وأوروبا التي تعاني من ضغوطات مالية ومديونيات ضخمة، تعمل على سد الثغرات الضريبية التي ينفذ منها الأثرياء، سواء من المواطنين الذين يحملون الجنسية أو المقيمين فيها، بوضع إيداعاتهم في الحسابات السويسرية، بعيدا عن عيون رجال الضرائب. كما أن هناك اعتقادا واسعا في أوروبا بأن مواطنيها من أصول غير أوروبية يستغلون «السرية المصرفية» في سويسرا لتهريب أموالهم إلى مواطنهم الأصلية، عبر الحسابات السويسرية. وكانت المفاوضات التي جرت الشهر الماضي في لندن بين وزير الخزانة البريطاني ونظيره السويسري قد كشفت عن حسابات بريطانية في بنوك سويسرية تصل قيمتها لنحو 125 مليار جنيه إسترليني (نحو 200 مليار دولار)، بينما كشفت المفاوضات السويسرية - الألمانية الأخيرة عن حسابات ألمانية تفوق 350 مليار يورو (نحو 471.9 مليار دولار).

ويذكر أن سلطات الضرائب في كل من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا كثفت ضغوطها على سويسرا لإلغاء قوانين «السرية المصرفية» خلال العام الماضي. وكادت المصارف السويسرية تتعرض لهزة حقيقية حينما وافقت سويسرا في 13 مارس من العام الماضي على التعاون مع الدول، التي تحقق مع مواطنيها الذين تتهمهم بالتهرب من الضرائب لتتفادى وضعها في القائمة السوداء من قبل منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. ومنذ ذلك الحين وقعت سويسرا بالأحرف الأولى على 28 اتفاقية لتطبيق معايير الإفصاح الدولية والمساعدة في تعقب أصحاب الحسابات المصرفية، الذين يتفادون الضرائب في بلدانهم. ووفقا للإحصاءات الأخيرة التي أعلنت عنها شركة «هالفي» للوساطة المالية التي يوجد مقرها في جنيف فإن 16 في المائة من الحسابات المصرفية التي يملكها أوروبيون في البنوك السويسرية تم الإعلان عنها من بين حسابات يصل إجمالي أرصدتها لنحو 863 مليار فرنك سويسري (قرابة 900 مليار دولار). ويجب الأخذ في الاعتبار أن هذه الأرقام تقريبية. وقالت جمعية المصارف السويسرية، وعلى لسان رئيسها باتريك أودور، في اجتماع الجمعية السنوية، الذي عقد في مدينة بازل في سبتمبر (أيلول) الماضي، إن البنوك السويسرية أعربت عن نيتها الالتزام بإيداع الموجودات التي يتقيد أصحابها بقوانين سلطات الضرائب في بلدانها. لكن أودور حذر أمام أكثر من 300 مصرفي ودبلوماسي من أنحاء العالم في الخطاب السنوي لجمعية المصارف السويسرية، الذي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه، من مخاطر أن تتخذ سلطات الرقابة المصرفية في سويسرا إجراءات منفردة، قد تؤثر على مصداقية الصناعة المصرفية السويسرية. وقال إن أي إجراءات تشريعية جديدة يجب أن تكون نسبية وتفاضلية، وفي إطار تنسيق دولي. وهذا يعني أن المصارف السويسرية ستقبل وتدير الموجودات والودائع الأجنبية التي يتقيد ويلتزم أصحابها بقوانين الضرائب في البلدان التي يقيمون فيها. وتبحث المصارف السويسرية مع السلطات الرقابية منذ أشهر عن مخرج يبقي على «السرية المصرفية» ويرضي الدول الضاغطة لإلغائها، وعلى رأسها أميركا وفرنسا وألمانيا التي تأمل في الحصول على عشرات المليارات من حسابات مواطنيها في سويسرا تساعدها على تخفيف حدة الأزمة المالية. ومن بين المخارج التي تمت الموافقة عليها مبدئيا في المفاوضات التي جرت الشهر الماضي بين سويسرا وكل من بريطانيا وألمانيا، أن تقوم البنوك السويسرية بجمع الضرائب من أصحاب حسابات «الأوفشور» المصرفية وتسليمها للجهات المعنية، دون أن تكشف عن تفاصيل اسم العميل، أو تفاصيل العمليات المصرفية.

وأكد تقرير «هالفي»، أن الصناعة المصرفية السويسرية تمكنت من الحفاظ على سمعتها والثقة التي رسختها خلال قرون من إدارة الودائع والموجودات التي تتدفق عليها من أثرياء العالم والشركات وصناديق الاستثمار السيادية، وأنها توسع عمليات إدارة الثروة في دول الشرق الأوسط، خاصة الدول النفطية. ووفقا للإحصاءات الأخيرة التي أعلنت عنها «هالفي» لحجم التدفقات والفاقد من أرصدة وموجودات الأجانب في البنوك السويسرية الخاصة، فإن جميع البنوك السويسرية تمكنت من رفع حجم تدفقات الموجودات الأجنبية التي تديرها، عدا مصرفي «يو بي إس»، الذي تعرض لهجمة أميركية شرسة بعد إدانته وتغريمه في المحاكم الأميركية، و«كلاردين ليو»، وهو بنك صغير مقارنة مع «يو بي إس» أو «كريدي سويس».

وأشارت الإحصاءات إلى أن الودائع الأجنبية التي جذبتها المصارف السويسرية الخاصة خلال العامين ونصف العام، التي تلت الأزمة المالية، وسجلت زيادة في حجم الحسابات والودائع، على الرغم من الضغوط. ووفقا للقائمة التي نشرتها «هالفي» مؤخرا، فإن معظم المصارف السويسرية الخاصة تمكنت من جذب أرصدة جديدة خلال فترة الضغط المتواصل على سويسرا بإلغاء قانون «السرية المصرفية».