خريطة طريق إلى بازل 3

جوزف طربية

TT

دفعت الأزمة المالية العالمية الأخيرة إلى مراجعة عميقة وشاملة للأنظمة والتشريعات المالية والمصرفية على المستوى المحلي في كل دولة، وكذلك على المستوى الدولي بالنسبة للمعايير والقواعد المصرفية الدولية. وقد قامت العديد من الهيئات الرسمية والخاصة المحلية والعالمية بإجراء دراسات وتحليلات شاملة لمعرفة أسباب الأزمة ومكامن الخلل واقتراح الإصلاحات المطلوبة لتعزيز صمود الأنظمة المالية والمصرفية وجعلها أقل عرضة للأزمات.

أظهرت تلك الدراسات مجموعة واسعة من نقاط الضعف تم تصنيفها كأسباب لنشوء الأزمة في الولايات المتحدة الأميركية أولا، ومن ثم تسربها وانتشارها - بشكل غير مسبوق - عبر جميع النظم المالية والمصرفية، الناشئة منها والمتطورة. وبشكل عام، أظهرت الدراسات والتحليلات أن نقاط الضعف شملت مروحة واسعة من بنية النشاطات والممارسات المصرفية، منها على سبيل المثال، ما يتعلق بالاستثمارات عالية المخاطر، وفي ممارسات التسنيد وإعادة التسنيد المعقدة (Leverage)، وفي ممارسات إدارة المخاطر بما في ذلك حوكمة المخاطر، وفي تحديد التركزات في الاستثمارات، وفي اختبارات الضغط، وفي ممارسات تقييم الأصول، وفي الإفصاح والشفافية، وفي إدارة السيولة، وأخيرا وليس آخرا، في دورية متطلبات رأس المال.

ومن الأمور الأساسية التي بينتها الأزمة أيضا، أن العديد من المصارف لم يكن لديها رأس المال الكافي لدعم وضعية المخاطر التي اتخذتها والتي تبين لاحقا أنها فاقت بكثير ما كانت تتوقعه قبل الأزمة. وهذا بلا شك مخالف للمبادئ الأساسية لبازل 2، والمتعلقة بكفاية رأس المال.

ولعل أحد أنواع الأصول الأكثر تأثرا خلال الأزمة كانت عمليات التسنيد المعقدة، حيث عمد العديد من المصارف إلى تخفيف متطلبات رأس المال عبر تسنيد أو إعادة تسنيد للأصول ونقلها من داخل الميزانية إلى خارجها، مظهرة بذلك معدل كفاية رأسمال أعلى من الواقع. وكان هذا من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى انتقال الأزمة بسرعة قياسية إلى عدد كبير من النظم والمؤسسات المالية عبر العالم.

أضف إلى ذلك، أن أحد الأسباب الأساسية الأخرى لتفاقم الأزمة، كان قيام عدد كبير من المصارف ذات الانتشار العالمي ببناء مديونية مفرطة داخل وخارج الميزانية. وقد ترافق ذلك مع تآكل تدريجي لمستوى ونوعية قاعدة رأس المال، وفي الوقت عينه، كان العديد من تلك المصارف يمتلك مخزونا غير كاف من السيولة. ترافق ذلك مع خسارات ائتمانية ضخمة نتيجة التركز في الاستثمارات وضعف إدارة هذه التركزات، ومخاطر الأطراف المقابلة (Counterparty risk) خاصة تلك الناتجة عن الاستثمار في المشتقات ومشتقات الائتمان. ثم تضخمت الأزمة، بشكل أوسع، جراء عملية تخفيض الاستدانة (Deleveraging process) لترابط المؤسسات النظامية فيما بينها عبر مجموعة معقدة من المعاملات. وفي المحصلة، انتقل العجز في القطاع المصرفي إلى بقية النظام المالي والاقتصاد الحقيقي، مما أدى إلى انكماش هائل في السيولة وتوفر الائتمان.

نتيجة لكل ما سبق، تداعت الهيئات الرقابية الوطنية والدولية لتطوير قواعد ومعايير العمل المصرفي الحالية، ووضع معايير دولية حديثة تسهم في جعل المصارف أكثر قدرة على تحمل الصدمات، عبر تحديد وضعية مخاطر المصارف بطريقة أكثر شمولية.

وقد كان للجنة بازل دور قيادي في هذا المجال، حيث قامت بإجراء تعديلات واسعة وجوهرية على الدعامات الثلاث لـ«بازل 2»، تمثلت بإصدار قواعد ومعايير جديدة، شكلت معا ما بدأ تسميته «بازل 3».

وقد تناولت تلك الإصدارات أمورا أساسية، مثل قواعد رأس المال واحتياطي السيولة، اختبارات الضغط، الحوكمة في المصارف، ونظام المكافآت والتعويضات في المصارف، وغيرها.

وبشكل أكثر تفصيلا، فقد ركزت التعديلات على الدعامة الأولى من «بازل 2»، وفق ما يلي:

* تغييرات على إطار مخاطر السوق

* تغييرات على إطار التسنيد

* تحسين نوعية رأس المال، وزيادة احتياطات رأس المال، وتخفيض الدورية لمتطلبات رأس المال

* السعي لتدعيم المشرفين على المصارف بأدوات أكثر فعالية لملاءمة متطلبات رأس المال بحسب وضعية المخاطر في كل مصرف.

كذلك أجريت تعديلات واسعة على الدعامة الثانية شملت التركيز على المخاطر في جميع أنحاء المصرف، ومواضيع محددة تتعلق بقياس وإدارة المخاطر، ومخاطر السمعة. وشملت التعديلات الدعامة الثالثة لجهة التشدد في الإفصاح من قبل المصارف، بما يؤدي إلى صورة أكثر شمولا لمخاطرها، وهذا الأمر يشكل ضغطا بشكل غير مباشر على المصارف التي تتمتع برأسمال غير كاف مقابل مستوى مخاطرها.

من المواضيع المهمة الأخرى التي ركزت عليها لجنة بازل هي ممارسات اختبارات الضغط في المصارف. وقد جرى التشديد على أن تصبح اختبارات الضغط من أدوات إدارة المخاطر المهمة المستخدمة من قبل المصارف كجزء من إدارتها الداخلية للمخاطر، حيث يحذر اختبار الضغط إدارة المصرف من سلبية النتائج غير المتوقعة لمجموعة من المخاطر، ويشير إلى مقدار رأس المال اللازم لامتصاص الخسائر في حال حدوث صدمات كبيرة. كذلك يؤمن اختبار الضغط مؤشرا لمستوى رأس المال الضروري لتحمل ظروف السوق الصعبة. وعليه، فإن اختبار الضغط أصبح يمثل أداة أساسية ومكملة لمقاربات ومقاييس إدارة المخاطر، حيث يلعب دورا مهما في:

* توفير تقييمات تطلعية للمخاطر

* دعم إجراءات التخطيط للسيولة ورأس المال

* تحديد قدرة تحمل المصرف للمخاطر

* تسهيل التخفيف من المخاطر وتطوير خطط الطوارئ خلال مجموعة من الظروف الضاغطة موضوع مهم آخر جرى التركيز عليه من قبل لجنة بازل هو الحوكمة، لما لها من أهمية خاصة، ونتيجة للمشاكل الكثيرة في ممارسات الحوكمة التي برزت خلال الأزمة. وقد شملت تلك المشاكل، على سبيل المثال، مراقبة غير كافية من قبل مجلس الإدارة والإدارة العليا، وإدارة مخاطر غير كافية، وهيكليات ونشاطات تنظيمية معقدة أو مبهمة. ومن المجالات الرئيسية التي ركزت عليها لجنة بازل، هي التالية:

* التشديد على قيام مجلس الإدارة بنشاط بمسؤوليته الكلية عن المصرف، بما في ذلك استراتيجية أعماله ومخاطره، وتنظيمه، والسلامة المالية والحوكمة.

* قيام الإدارة العليا بالتأكد من أن أنشطة المصرف تتفق مع استراتيجية الأعمال، وتحمل المخاطر، والسياسات التي وافق عليها المجلس، وكل ذلك تحت توجيه مجلس الإدارة.

* وجوب أن يكون لدى المصرف وظيفة مستقلة لإدارة المخاطر مع سلطة، ومكانة، واستقلالية، وموارد كافية، وإمكانية إبلاغ معلوماتها إلى المجلس.

كما شددت لجنة بازل على الممارسات المتعلقة بالتعويضات والمكافآت في المصارف وتعزيز المقاربة الإشرافية الفعالة على تلك الممارسات والمساهمة في دعم تكافؤ الفرص. وقد تم تحديد إطار المراجعة الإشرافية فيما يتعلق بالمسائل الثلاث التالية:

* حوكمة فعالة لنظام التعويضات والمكافآت.

* التماشي الفعال للتعويض مع المخاطر المتخذة.

* الرقابة الإشرافية والمشاركة الفعالة من قبل أصحاب المصالح.

إننا نعقد آمالا كبيرة أن تسهم المعايير والقواعد الجديدة المهمة التي وضعتها لجنة بازل في تفادي حدوث أزمات جديدة، على المستوى الفردي أو النظامي، وتعزز قدرة المصارف على الصمود في وجه أية صدمات.

وهذا ما يستلزم دعوة المصارف العربية والمصرفيين العرب، إلى متابعة تلك المعايير والعمل على تطبيقها بشكل سريع ودقيق في مؤسساتنا المصرفية العربية لتحصينها بشكل أكبر من أية أزمات محتملة. وهذا ما يحتم على هيئات وسلطات الرقابة المصرفية إجراء مراجعة شاملة على طرق عملها، لأن للرقابة الفعالة والمتنورة دورا «أساسيا» في ترقب الأزمات ومنع حصولها.

* رئيس جمعية مصارف لبنان ورئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب