الشباب الآيرلندي يجرب حظوظه في الخارج

وسط الظروف القاهرة التي تعيشها البلاد

ايرلندا تنتظر تفاصيل اتفاق الديون (أ. ب)
TT

عانقت تلال شمال آيرلندا الزمردية المتموجة الأفق، كاشفة عن قطعان أغنام ترعى وأضواء القرى النائية تتلألأ مع غروب الشمس. وفي مكان متميز في الوادي وقف كل من بادي برونتي وجولي مولين على قطعة أرض مغطاة بطبقة من الإسمنت تمثل أساس منزلهم الجديد.

وبعد أن فقد برونتي عمله توقف بناء المنزل الصيف الماضي، لكنه الآن وهو يتأمل المنظر الخلاب يشغل الاثنين سؤال لم يخطر بباليهما قبل بضعة أسابيع فقط وهو: هل سيجدون هذا الجمال في إدمنتون؟ يقول برونتي، نجار في السادسة والعشرين، حصل على وظيفة مؤخرا في ألبيرتا، مما دفعه وخطيبته إلى تقديم طلب الحصول على تأشيرة إلى كندا: «لا نعرف ما الذي ينتظرنا في كندا، لكنني أعرف أنني سأفتقد هذا المشهد».

كانت أخت برونتي قد غادرت إلى أستراليا قبل بضعة أسابيع، بينما يحزم أعز أصدقائه حقائبه استعدادا لبناء حياة أفضل في سيدني. وسينضم برونتي وخطيبته وأصدقاؤهما إلى عدد غير مسبوق من الآيرلنديين المهاجرين من الشواطئ المنكوبة، مما يعيد فتح صفحة الهجرة التي اعتقدت آيرلندا أنها قد طويت. يقول برونتي: «لم يكتمل بناء المنزل وليس لدينا عمل ولا نستطيع اللجوء إلى الرهن العقاري، لكننا سنعود ربما بعد سنة». لكن مولين، 25 عاما، قالت مخاطبة إياه: «من تخدع؟ أنت تعلم أن المدة ستطول عن ذلك. من سنة إلى 5 سنوات على الأقل»، ونظر برونتي إلى حذائه القديم واستغرق في أفكاره.

لمست جولي ذراع خطيبها وقالت: «سنعود لنقيم حفل زفافنا» وأوضحت، وهي تتطلع إلى صحافي أجنبي: «سيكون ذلك في أكتوبر (تشرين الأول) 2012 وقد دفعنا المقدم بالفعل. سنقيم حفل الزفاف هنا في آيرلندا». وقالت: «لكن حينها سنعود أدراجنا، فقد يروق لنا الحال هناك، فالكثير من الآيرلنديين يمكثون هناك».

لقد تخلى الحظ مؤخرا عن الآيرلنديين، ويبدو أن «النمر السلتي» الذي استطاع تفادي دورات متكررة من النكبات الاقتصادية في التسعينات وبداية الألفية الجديدة، غرق في فجوة اقتصادية عميقة للغاية إلى الحد الذي دفع بالحكومة التي أوشكت على الإفلاس إلى السعي للحصول على عدة مليارات دولار في إطار خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي.

تعاني آيرلندا أوقاتا عصيبة بلا شك، فلا تريد الأزمة المالية التي وقعت في 2007 أن ترحل. ولا توجد أي مؤشرات تدل على قرب انتهاء أزمة العقارات التي بدأت قبل 4 سنوات؛ حيث فقدت بعض المنازل في آيرلندا 70% من قيمتها، وتدين الكثير من الأسر في آيرلندا، مثلما هو الحال في الولايات المتحدة، إلى البنوك بما يزيد على قيمة عقاراتهم بالآلاف. كما تجاوز معدل البطالة 13% وتراجع التغير في إجمالي الناتج القومي في وقت مبكر من هذا العام. وكانت هذه هي النهاية المفاجئة للحلم الآيرلندي.

جدير بالذكر أن اندماج آيرلندا في أوروبا، خاصة تبنيها لعملة اليورو، أدى إلى دخول البلاد حقبة من الاستثمارات غير المسبوقة دعمتها معدلات الفائدة المنخفضة والاستقرار النقدي. لكن ما يعرفه الأميركيون جيدا، أن الأموال الرخيصة تتسبب في فقاعة عقارات كبيرة وتشعل فترة من عدم توافر مقدم للعقارات المرهونة وارتفاعات حادة في أسعار العقارات ومشروعات تجارية لن تتحقق. وتعاني البنوك الآيرلندية حاليا عددا لا حصر له من الديون المعدومة إلى حد نفدت معه أموال الحكومة بحيث لا تستطيع دعمها. واضطرت الحكومة إلى خفض النفقات حتى المخصصة للأطفال المعاقين وتتجه إلى خفضها بنسبة أكبر نتيجة نفاد الموارد وعدم تحصيل عائدات الضرائب.

تداعي الثقة: تداعت الكبرياء الآيرلندية، فزاد معدل الانتحار بنسبة 25% هذا العام وقتل أب شاب عاطل محبط زوجته وطفليه الأسبوع الماضي، مما دفع صحيفة «أيريش تايمز» للحديث عن «عار» و«ذل» آيرلندا أمام العالم. وأقام براين مكارثي، فنان آيرلندي، معرضا، الشهر الحالي، يتناول فيه آيرلندا الحديثة كما يتصورها الكثيرون: مدينة عشوائية كبيرة.

ويبدو أن عدم تراجع الأزمة سيدفع بالكثيرين إلى العودة إلى أيام هجرة الآيرلنديين، فقد هاجر مليون شخص خلال مجاعة البطاطس في القرن التاسع عشر، بينما استمرت تيارات الهجرة بين الحين والآخر وإن كانت بنسبة أقل خلال عام 1990 عندما بدا على آيرلندا أنها وجدت طريقها.

في الوقت الحالي، يغادر الآيرلنديون، خاصة الشباب منهم، بأعداد كبيرة لم تشهدها البلاد خلال الـ20 سنة الماضية على أقل تقدير؛ حيث ارتفع عدد المهاجرين الآيرلنديين إلى الخارج بنسبة 50% خلال العام المالي الماضي ووصل إلى نحو 28 ألفا. ومن المتوقع أن يتضاعف العدد أو يصبح 3 أمثال العدد الحالي هذا العام بحسب تقديرات الخبراء. ومع استمرار الركود الاقتصادي يتوقع أن يهاجر أكثر من نصف الخريجين، ما يقرب من 150 ألفا، خلال الأعوام الـ5 المقبلة بحسب تقديرات اتحاد الطلبة الآيرلنديين.

وفي صف العلوم السياسية بكلية ترينتي الحكومية في دبلن، الذي يضم 21 طالبا بالسنة النهائية رفع 20 طالبا أيديهم الأسبوع الماضي عند سؤالهم عمن يسعى إلى العمل أو الدراسة في الخارج بعد التخرج. يقول دانييل فيلبين بومان، المقيم في لندن التي ذهب إليها بعد تخرجه: «إن الناس لا يرحلون لأنهم يريدون ذلك، لكن ليس أمامهم اختيار. تنبغي إعادة بناء البلد». واشترك أستاذه إلين بايرين في النقاش متسائلا: «لكن من سيبنيها إذا كان الجميع يغادرها؟».

أضحوكة العالم: يقول جيري مولين، والد جولي القوي ذو الوجه المشرب بالحمرة والبالغ من العمر 52 عاما في مكتبه بموقع سياراته المستعملة بالقرب من وسط مدينة موناغان التي تقع على بعد 80 ميلا من شمال دبلن: «يا إلهي، نحن أضحوكة العالم».. وهز رأسه امتعاضا واشمئزازا. وأضاف، بينما يتطلع إلى ابنته وخطيبها: «لقد عدنا إلى الحالة الصعبة مرة أخرى. انظر، صندوق النقد الدولي مقبل إليك وهؤلاء الاثنان راحلان».

استطرد مولين قائلا: «المشكلة هي أن هؤلاء الأطفال لا يعرفون كيف يتعاملون مع الفقر الآن. يمكنني أن أفقد كل ما أملك، ومع ذلك يمكنني متابعة حياتي؛ لأنني فعلتها من قبل. أعرف ما كان عليه الحال في السابق، لكن هؤلاء الأطفال نشأوا في آيرلندا مختلفة، فهم لا يعرفون ما كان عليه الحال في الماضي».

وقالت ابنته: «لا أريد أن أرحل، لكن ما الذي يمكن أن نفعله هنا؟». يؤكد الخطيبان أن قرار الهجرة كان صعبا، فقد كانت أمام برونتي فرص كثيرة خلال سنوات انتعاش آيرلندا، وكان يعمل 6 أيام في الأسبوع ويجني أكثر من 5600 دولار شهريا من أعمال النجارة التي يجيدها، لكن بعد انخفاض أسعار المنازل منذ 4 أعوام، انخفضت المبالغ التي يجنيها.

ومع ذلك كان لا يزال يحدوهما الأمل في جني ما يكفيهما ووضعا أساس منزل أحلامهما على أرض العائلة في أغسطس (آب) الماضي، لكن بعد مرور عدة أسابيع فقد برونتي وظيفته الثابتة الأخيرة وانخفض دخله إلى 300 دولار أسبوعيا؛ حيث يقول: «لا يمكنك الحصول على منزل مرهون مع هذا الدخل». تتجه أنظار الكثير من الشباب الآيرلندي إلى الولايات المتحدة؛ حيث حصل شقيق جولي الأصغر على وظيفة ساقٍ في حانة في مانهاتن منذ مارس (آذار) الماضي. لكن شروط الهجرة الصعبة نسبيا جعلت الولايات المتحدة أقل جذبا من كندا وأستراليا ونيوزيلندا التي أضحت بمثابة الأراضي الآيرلندية الجديدة الواعدة. بل وسيتجه البعض إلى الصين.

عرض جار برونتي، وهو رجل آيرلندي يتوسع في عمله في مجال البناء في ألبرتا التي تتمتع بانتعاش.. عرض عليه وظيفة بدءا من منتصف يناير (كانون الثاني)، لكن كان جواب برونتي: «إن هذه هي قفزتنا الكبرى نحو المجهول». عبر الأجيال: وداخل منزل أسرة جولي مولين، أخرجت والدتها حقيبة تحتوي على صور فوتوغرافية قديمة ونثرت صور وجوه متفرقة باهتة اللون مطوية الحواف على منضدة المطبخ. وقال والد جولي: «يا إلهي، هذا هو عمك بادي. لقد رحل إلى مدينة نيويورك في الخمسينات وعمل في متجر (بلومينغادلز) ذي الأقسام المتعددة ولم يعد أو عاد، لكن في نعشه». وأضاف: إن خالي جيري مولين أرسلا مع جيرانهما إلى نيويورك في بداية القرن العشرين بعد أن أصبحوا معدمين ثم ذهبا إلى جزيرة أليس آيلاند وكان هذا آخر ما عرفته العائلة عنهم. دخلت جولي إلى النقاش وقالت: «هذه الأيام مختلفة عن ذلك الزمان، فلم تعد هناك رحلات بالسفينة تستغرق 3 أشهر. هناك برنامج المحادثة «سكاي بي» وأستطيع أن أراك وأنا أتحدث إليك»، لكنه قال لها: «أعلم ذلك، لكنك ستكونين بعيدة».

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»