أزمة الديون الآيرلندية.. كشف حساب لأوروبا

روبرت صامويلسون

TT

ما تحتاج أن تعلمه بشأن الأزمة الاقتصادية الآيرلندية، هي أنها لا تعني آيرلندا، تلك الدولة الصغيرة التي يتجاوز عدد سكانها أربعة ملايين نسمة بقدر ضئيل والتي تتجاوز ديونها 200 مليار دولار، وحدها، بل أوروبا بأكملها. فعلى مدار عقود سعت أوروبا إلى انتهاج مشروعين سياسيين كبيرين، أحدهما هو دولة الرفاهية الديمقراطية التي تستهدف تعزيز العدالة الاقتصادية عبر شبكات الأمن الاجتماعي المختلفة. والآخر هو الوحدة الأوروبية متمثلة في إنشاء العملة الموحدة (اليورو) التي تستخدمها الآن 16 دولة. والقول إن كلا المسارين أسهم في مشكلات آيرلندا يشير إلى أن أوروبا ربما واقفة على شفا أزمة أكثر اتساعا.

لا تقف مشكلات آيرلندا بمعزل عن أوروبا، وإذا ما أنذرت بحدوث انهيار اقتصادي، فسيكون ذلك مؤشرا على دخول مرحلة خطرة جديدة من الاضطراب الاقتصادي العالمي الذي بدأ في عام 2007. فأوروبا تمثل نحو خُمس الاقتصاد العالمي، وهو ما يوازي نصيب الولايات المتحدة، وإذا ما وقعت القارة في الكساد فإن الوطنية الاقتصادية العالمية ستتعاظم وسيتعثر التعافي الاقتصادي وستتصارع الدول على المبيعات النادرة. فعلى سبيل المثال، تشتري أوروبا 25 في المائة من الصادرات الأميركية، التي ستعاني بدورها، وسيزداد اللجوء إلى الحمائية والعدائية.

تقوم خطة الإنقاذ، التي ستتكلف نحو 90 مليار دولار من التمويلات الخارجية، التي تفاوضت آيرلندا عليها قبل وقت قريب، على قيام الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بإنقاذ البنوك الآيرلندية المثقلة بالديون. والهدف من وراء هذه الخطة هو احتواء التداعيات من خلال إظهار أن أوروبا قادرة على التعامل مع مشكلاتها. لكن خطة الإنقاذ تنطوي على الكثير من الجرأة لأن بعض الدول المقرضة (البرتغال وإسبانيا، وإيطاليا) مثقلة بالديون هي الأخرى ومرشحة للحصول على مساعدات مالية مستقبلية. حتى إن ألمانيا وفرنسا لديهما دين إجمالي ضخم، 76 في المائة و86 في المائة على التوالي، من اقتصاداتهما في عام 2009. فيكف يمكن أن تضاف هذه الديون الجديدة إلى الديون القديمة؟

سقوط آيرلندا في أعقاب أزمة اليونان أمر مثير للسخرية، فحتى وقت قريب كانت توصف بالنمر السلتي، لمنافستها الدول الآسيوية في جذب الاستثمارات الأجنبية - «إنتل» وآخرون - وتحقيق نمو سريع في الصادرات. فخلال الفترة بين عامي 1987 وحتى عام 2000 وصل معدل النمو الاقتصادي الآيرلندي إلى 6.8 في المائة، وانخفض معدل البطالة من 16.9 إلى 4.3 في المائة. لكن النمو المطرد حينئذ أفسح الطريق أمام انتعاش وفقاعة الإسكان التي أدى انهيارها إلى سقوط البنوك الآيرلندية مثقلة بالقروض السيئة.

كان من بين الأسباب وراء الأزمة القروض السهلة التي تسبب فيها اليورو، فقد تمكنت آيرلندا باستخدام عملتها المحلية من تنظيم الائتمان، فإذا ما بدا أنه غير محكم يمكن للبنك المركزي الآيرلندي رفع معدلات الفائدة، لكن تبني آيرلندا اليورو دفع بهذه القوة إلى البنك المركزي الأوروبي، الذي وضع سياسة موحدة لكل دول اليورو. على الرغم من تناسب معدلات الفائدة بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي لدولة مثل فرنسا أو ألمانيا، فإنها كانت منخفضة للغاية بالنسبة لدولة مثل آيرلندا وبعض الدول الأخرى. خفضت الأسواق المالية معدلات الفائدة على السندات الحكومية لدول اليورو إلى أدنى من المستويات الألمانية. وفي عام 1995 كانت معدلات الفائدة الآيرلندية أكثر من نظيرتها الألمانية بمعدل نقطة مئوية، لكنهما كانتا متشابهتين في عام 2000.

ربما تكون آيرلندا شرعت في انتهاج الائتمان السهل عبر زيادة الضرائب وخفض الإنفاق. لكن ذلك يتطلب قدرا كبيرا من ضبط النفس، فقد أدى ازدهار الإسكان إلى قدر كبير من عائدات الضرائب على البناء، وبيع المنازل والثروة الناجمة عن الإنفاق الاستهلاكي. وخلال الفترة بين عامي 1996 إلى عام 2006 تضاعفت أسعار المنازل في آيرلندا أربعة أضعاف، وزاد الإنفاق على الإنشاء من 11 إلى 21 في المائة من الاقتصاد. كانت الميزانيات الحكومية فائضة على الرغم من الإنفاق الاجتماعي المرتفع والرواتب الحكومية العالية. ويقول أحد وزراء المالية السابقين: «عندما أملك المال أنفق، وعندما لا أملك المال لا أنفق».

ومن ثم تأتي فاتورة الحساب الآن، ففي آيرلندا ترك انفجار فقاعة الإسكان عجزا هائلا في الميزانية ورفع البطالة إلى 14 في المائة. وتعاني أغلب الاقتصادات الأوروبية من الآثار السيئة لبعض توليفات الائتمان الميسر والإنفاق الاجتماعي الذي لا يمكن تحمله والعجز الكبير في الميزانية. ولأن الدول مرتبطة ببعضها البعض، ستتجاوز الآثار نطاق آيرلندا. فتملك المصارف الأوروبية - يقودها في ذلك البريطانية والألمانية والفرنسية البلجيكية - 500 مليار دولار في صورة قروض واستثمارات في آيرلندا، بحسب تقارير نشرتها صحيفة «فاينانشيال تايمز»، وهو ما سيؤدي بدوره إلى ازدياد حجم الخسائر بالنسبة للنظام المصرفي الأوسع.

التحدي الذي يواجه أوروبا في الوقت الراهن لم يعد مجرد تحد اقتصادي، بل اجتماعي وسياسي. فإعلاء القيم والمثل بات عرضة للزوال. فاليورو، الذي كان من المفترض أن يدعم الوحدة، أثار الشقاق نتيجة ميل بعض الدول إلى توجيه اللوم والتنصل من مشاركة التكلفة. ويشهد العقد الاجتماعي إعادة صياغة جديدة، مع الفوائد الحكومية وخفض الحماية. ويبدو أن التحالف الحاكم في آيرلندا عرضة للانهيار، نتيجة انسحاب أحد الأحزاب الصغيرة الذي يدعمه.

يمثل إنقاذ آيرلندا كما كان الحال مع اليونان من قبل، رهانا على قدرة أوروبا على التحكم في الديون المتنامية والفوز بصبر حاملي السندات والناخبين، وإقناع المستثمرين بعدم التخلص من السندات (الخاصة بآيرلندا والدول الأخرى) نتيجة للخوف، مما يزيد من معدلات الفائدة والوصول إلى مرحلة الانهيار المالي الذاتي، وإقناع المواطنين العاديين بتحمل التقشف (ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الإعانات الاجتماعية وضرائب أكثر ارتفاعا)، دون اللجوء إلى إضرابات الشارع أو التحالفات البرلمانية غير الفعالة.

ولم يتضح بعد ما إذا كانت هذه المقامرة ستنجح، لأن العواقب ستكون كارثية على الأرجح إن لم تنجح.

*خدمة «واشنطن بوست»