أزمة الديون الأوروبية: عندما تصبح المصارف أكبر من الدول

توقعات بتفاقم مشكلات القارة الائتمانية واستمرارها لوقت أطول من المتوقع

TT

يعيد الانهيار الاقتصادي داخل آيرلندا صياغة القواعد الخاصة بأسلوب تقييم المنظمين والمستثمرين الدوليين لمدى قوة اقتصاديات الدولة وأنظمتها المصرفية، بينما تزيد احتمالية تفاقم مشكلات أوروبا واستمرارها لوقت أطول من المتوقع.

ويقف وراء هذا التغير اعتراف متزايد بأن الالتزامات المالية للمصارف الكبرى بالدولة أصبحت، في الواقع، التزامات مالية على الدولة ذاتها، خاصة في أوروبا حيث إنه لدى الدول عادة نظم مصرفية بها شركات قليلة ومرتبطة عالميا ولها التزامات تتجاوز بدرجة كبيرة اقتصاد الدولة المضيفة لها.

وازدادت حدة الشعور بهذه المخاطر في آيرلندا، حيث أجبر الاستثمار والاقتراض الكبير من جانب عدد من الشركات الحكومة على أحد خيارين: إما أن تدع نظامها المالي ينهار خلال أزمة 2008 أو أن تصدر ضمانا شاملا تدعمه الدولة الآيرلندية.

وقد تبنت الحكومة الخيار الأخير، لكن كانت تكاليف المصارف المتعثرة والديون السيئة كبيرة، بحيث أصبح لزاما على الدولة أن تلجأ إلى صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، وأصبحت آيرلندا مثالا واضحا على ظاهرة جديدة وهي أنظمة مصرفية على المستوى الوطني «كبيرة للغاية بحيث لا يمكن إنقاذها»، وتكرر هذا الوضع في أيسلندا وإن لم يكن له تأثير كبير على الاقتصاد العالمي لضعف ارتباطها بالأسواق العالمية.

وعندما ينظر محللون إلى قوة الدول الأوروبية، فإنهم لا ينظرون إلى ديون الحكومة وإنفاقها ومصادر دخلها فقط، بل ينظرون أيضا إلى ديون بنوكها محليا وعالميا. لقد أصبحت ديون الدولة وديون المصارف الموجودة «مترادفين»، طبقا لتقرير بعض المحللين من مصرف «باركليز كابيتال» في شهر نوفمبر (تشرين الثاني).

قال هانغ تران، نائب المدير التنفيذي بمعهد المال الدولي: «كانت لدينا أزمات مصرفية، وكنا نعاني من أزمات ديون سيادية، لكن لدينا حاليا مزيج من الاثنين»، واشترك تران في إجراء دراسة حديثة أوضحت أن متوسط الالتزامات المالية للأنظمة المصرفية لدول الاتحاد الأوروبي أكبر من اقتصادياتهم الوطنية بأربع مرات.

يضيف تران أنه في المقابل تبلغ النسبة في الولايات المتحدة، حيث يجمع المال ويتم إقراضه من خلال أسواق رأس المال وقنوات أخرى تتعدى حدود المصارف التقليدية، واحدا إلى واحد تقريبا، ويوضح أنه في حين لا توجد مخاطرة حتمية تتعلق بالنظام المصرفي الضخم إذا كان منظما جيدا ويدار بطريقة سليمة، فالمضاعفات في بعض الدول الأوروبية كثيرة، ويضيف قائلا: «إنها تضخم حجم أي مشكلة.. لقد عرفنا أن دولا صغيرة جدا بالنسبة إلى أنظمتها المصرفية، ولذا فهم يطفون دون وجود شبكة أمان».

يمثل هذا أحد أسباب توتر وطول فترة مفاوضات الدول الأوروبية بشأن وسائل مساعدتها في معالجة اقتصاداتها المتعثرة. من الصعب انتظار مساعدة ألمانيا، وهي من الدول ذات الاقتصاد القوي، بسبب زيادة إنفاق الحكومة اليونانية بشكل كبير عل مدار سنوات، في ظل السياق السياسي الذي قامت فيه ألمانيا بالتوفير والادخار، في حين استمتعت اليونان بوقتها.

ويُطلب حاليا دعم ألمانيا ودول قوية أخرى لحكومات أوروبية ومعها مصارفها، وتمثل هذه التزامات مالية أكبر وأخطر بالنظر إلى استمرار بعض الدول في إغلاق مصارف منهارة وتنظر في مدى سلامة وضع مصارف أخرى.

طبقا لدراسة حديثة قام بها مصرف «باركليز»، مثلت المصارف في إسبانيا وهولندا خطورة كبيرة على الحكومتين، في حين شكلت المصارف في الدول ذات الاقتصاد الذي يعتمد عليه مثل بريطانيا ودول صغيرة، لكنها مهمة مثل النمسا وبلجيكا، خطرا أقل وإن كان جوهريا نتيجة تراكم ديون المصارف بها.

وقد اتفق قادة أوروبيون في بروكسل هذا الأسبوع على إنشاء صندوق أزمات دائم لمساعدة الحكومات التي تواجه مشكلات، ويعد ذلك اعترافا مهما بالمسؤولية المشتركة، خاصة بين الدول التي تتعامل باليورو. لكن لم يتم الاتفاق على العبء الثقيل، وهو كيفية إدارة الصندوق والأطراف التي ستسهم فيه والشروط التي تتيح الاستفادة منه، في ظل انقسامات حادة.

ومن ضمن القضايا المهمة، هل سيطلب من المستثمرين من القطاع الخاص المشاركة في الخسائر، وهو ما أصرت عليه ألمانيا في وقت تزداد فيه مشكلات الحكومات نتيجة الممارسات السيئة للمصارف الخاصة.

وفي هذه الأثناء، تقدم الأسواق مساهمة بسيطة فيما يتعلق بتريليونات الدولارات التي ستحتاج الحكومات والبنوك إلى تجميعها العام المقبل في أوروبا والولايات المتحدة لتمويل عملياتها، التي تشهد المزيد من المشكلات. على سبيل المثال تعد مصارف كبيرة في إسبانيا مثل «سانتاندر» في وضع جيد وحدها، وحظيت الحكومة الإسبانية بالثناء لقيامها بخفض كبير في الموازنة وإصلاحات في محاولة للسيطرة على الدين العام.

ولكن ستحتاج المصارف والحكومة الإسبانية لتجميع 100 مليار دولار خلال الأشهر الأولى من العام. وعندما تأمل محللو السوق، مثل محللي مصرف «باركليز» الموقف، قالوا إن المستثمرين لا ينظرون فقط إلى المخاطرة التي تحيط بالسند المفرد لكن أيضا إلى إجمالي المخاطر «داخل إسبانيا».

وأشار تران في ورقة بحثية حديثة إلى أن هذا القلق قد ساعد على رفع أسعار الفائدة التي يطلبها مستثمرون من دول مثل إسبانيا والبرتغال بشكل أكبر من أسعار الفائدة المطلوبة من أسواق ناشئة، وهو ما أطلق عليه تران «تطورا غير مسبوق».

ولم يقدم صندوق النقد الدولي أو أي طرف آخر أي اقتراح بفرض الدول قيودا على حجم القطاعات المصرفية، وهي خطوة ستكون صادمة بالنسبة إلى دول ذات قطاعات مالية ضخمة، مثل بريطانيا وسويسرا. يقول أجاي تشوبرا، رئيس البعثة الآيرلندية لدى صندوق النقد الدولي، إنه في إطار من خطة الإنقاذ الأوروبية والتابعة لصندوق النقد الدولي تعيد آيرلندا هيكلة مصارفها لتخرج بنظام مصرفي أصغر حجما، لكن بصورة عامة «لا يوجد رقم سحري».

وعلى سبيل المثال، أوضحت دراسة أجراها صندوق النقد الدولي في فصل الربيع أن القطاع المصرفي في سنغافورة وهونغ كونغ أكبر من اقتصاداتهما بست وثماني مرات، ومع ذلك استطاعت الدولتان اجتياز الأزمة، بفضل بعد الرقابة الحكومية القوية والإدارة المحافظة والمبالغ المالية الكبيرة التي استثمرت في جزء من العالم يشهد نموا سريعا.

واتخذت سويسرا، التي يفوق قطاعها المصرفي حجم اقتصادها بسبع مرات، خطوات سريعة لمواجهة المشكلات التي واجهها مصرف «يو بي إس» العالمي الضخم في الاستثمارات العقارية بالولايات المتحدة. وأعلنت مؤخرا أنها بصدد فرض معايير أكثر صرامة من دول أخرى تتعلق برأس المال لضمان استقرار نظامها.

ويدفع صندوق النقد الدولي باتجاه التوصل إلى معاهدة دولية أو آلية أخرى، يتم من خلالها تدويل التكاليف في حالة انهيار أحد المصارف الكبرى داخل دولة صغيرة. تعرف هذه الفكرة باسم «قرار عبر الحدود» وتعد صعبة من الناحية السياسية، إلا أنها ستعترف بطبيعة النظام المصرفي الحديث.

وصرح صندوق النقد الدولي قائلا: «ستقلل أي وسيلة تتسم بالشفافية وتفضي إلى انهيار سلس ومخطط لمصارف دولية مع تقاسم التكاليف المتعلقة من المخاطر الأخلاقية، وتعزز النظام في السوق»، في إشارة إلى احتمالية عدم قيام مصارف كبرى في دول صغيرة بالتأكد من إجراءاتها لأنها تفترض أنه سيتم إنقاذها، لكنّ «هناك تفهما وإدراكا للمعوقات التي تحول دون التوصل إلى حل على المستوى العالمي أو حتى الإقليمي».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص لـ«الشرق الأوسط»