إيران تلغي الدعم لتخفيف الضغوط على الخزينة.. وتخاطر بمستقبلها السياسي

وسط تراجع كبير في عائدات النقد الأجنبي

ازدادت صفوف المستهلكين أمام محطات البنزين في طهران مع رفع الدعم الحكومي (أ.ب)
TT

بعد شهر من البدايات الكاذبة والتحذيرات الشديدة والمشاحنات السياسية، شرعت إيران في برنامج كاسح لتقليص نظام الدعم المكلف وغير الفاعل على الوقود وعدد من السلع الأساسية الأخرى، الذي تسبب في خلق ضغوط على خزانة البلاد وأعاق النمو الاقتصادي لسنوات.

وتشير الأرقام إلى أن عائدات إيران من النقد الأجنبي تراجعت بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة مع انحسار أسعار النفط عن المستويات المرتفعة التي كانت بلغتها قبل فترة الركود، ما خلق ضغوطا هائلة على الميزانية. لكن الملاحظ أن طهران سعت منذ أمد بعيد لتقليص الدعم - حتى في ظل الإدارة الإصلاحية للرئيس محمد خاتمي - وخاصة بالنسبة للنفط.

ويكمن وراء هذا حجة منطقية قوية تقوم على أن الأسعار المنخفضة على نحو اصطناعي تشجع على استهلاك أكبر، مما يترك كميات أقل من النفط للتصدير. وكلما ارتفعت أسعار النفط، تفاقمت العائدات المهدرة من وراء الصادرات المحتملة. إلا أن الوقت لم يكن سانحا قط، سواء لأسباب سياسية أو اقتصادية، لخفض الدعم.

ويرى محللون أنه في الوقت الذي قد تشعر فيه الحكومة بتعرضها لضغوط حاليا، فإن البرنامج الراهن لإجراءات تقليص الدعم يعد أساسا مؤشرا على قوتها السياسية، بالنظر إلى نجاحها في قهر المعارضة التي اندلعت بعد انتخابات عام 2009 والتغلب على التيار التقليدي المحافظ داخل الحكومة الذي تحدى سلطة أحمدي نجاد.

في هذا الصدد، قال كيفان هاريس، المتخرج في جامعة جونز هوبكنز ولديه كثير من الكتابات حول الاقتصاد الإيراني ونظام الرفاه الاجتماعي: «هذا أمر رغبت فيه إدارتان سابقتان وعجزتا عن تحقيقه. الآن، مع تهميش الليبراليين، عمد أحمدي نجاد، كسياسي مخضرم، إلى انتقاء أكثر الأفكار شعبية من الطرف المعارض وتنفيذها بنفسه».

أيضا، يبدو أن النجاح القائم حتى الآن في تقليص الدعم أسهم في عملية إعادة تقييم مستمرة لأحمدي نجاد. وقد ظهرت صورته في برقيات «ويكيليكس» الدبلوماسية المسربة كشخص براغماتي متعقل - يحارب ضد قوى رجعية داخل الحكومة - بدلا من الشخصية المتطرفة المتحدثة بصخب التي ظهر عليها عندما دعا لمحو إسرائيل من الخريطة. وذكرت إحدى البرقيات أنه أيد في أكتوبر (تشرين الأول) 2009 تسوية نووية دعت إليها الولايات المتحدة يجري بمقتضاها إرسال اليورانيوم إلى خارج البلاد لتخصيبه. وخلال مظاهرات أعقبت انتخابات عام 2009، أشارت تقارير إلى أنه أيد توفير مزيد من الحرية للصحافة - حتى تدخل جنرال في الحرس الثوري غاضبا بقوله: «إنه أنت من خلق هذه الفوضى!».

بدأت إجراءات تقليص الدعم، التي ذكر صندوق النقد الدولي أنها تصل إلى 4.000 دولار سنويا للأسرة الإيرانية في المتوسط، الشهر الماضي عندما قفز سعر الغازولين المدعوم إلى قرابة 1.44 دولار للغالون من 38 سنتا فقط. يذكر أن حصة الغازولين المدعوم لا تتجاوز 16 غالونا شهريا فقط، مما يعني أن معظم أصحاب السيارات يضطرون لشراء الجزء الأكبر من احتياجاتهم من الغازولين بسعر السوق الذي يبلغ 2.64 دولار للغالون، وهو ما يزيد كثيرا على السعر في دبي المجاورة، والبالغ 1.80 دولار.

في الأسابيع الأخيرة، تم تقليص الدعم أيضا على الدقيق والمياه والديزل. إلا أن ارتفاع الأسعار لم يثر مظاهرات جديدة على غرار تلك الغاضبة التي اندلعت في أعقاب فرض حصص مدعومة للوقود عام 2007. في المتوسط، ارتفعت أسعار الخبز لثلاثة أضعاف، حسبما ذكرت الحكومة. أما المياه، التي كانت مجانية تقريبا من الناحية العملية، فتتراوح تكلفتها الآن بين 10 و85 سنتا للمتر المكعب، بناء على نظام تقدير يدفع المستهلكون تبعا له أسعارا أعلى لمعدلات الاستهلاك الأكبر. وأعلنت الحكومة أن تلك الإجراءات ليست سوى الخطوات الأولى فيما أطلق عليه «خطة تحويل اقتصادي» ستتضمن أيضا إصلاحا مصرفيا وتغييرات كبرى في نظام الضرائب والجمارك الإيراني وفرض مزيد من الخصخصة بالصناعات المملوكة للدولة. ومع ورود تقارير عن انحسار معدلات استهلاك الغازولين والدقيق والديزل والكهرباء، حتى من قبل رفع الأسعار، غمرت السعادة أحمدي نجاد.

وفي خطاب ألقاه الأسبوع الماضي، قال أحمدي نجاد: «أعتقد أن إمام زماننا أدار هذه الخطة ويؤيدها»، مشيرا إلى الإمام «الخفي» الـ12 الذي يبجله المسلمون الشيعة باعتباره تجسيدا للعدالة والصلاح.

المعروف أن الاقتصاد الإيراني الموجه من جانب الدولة منذ أمد بعيد بفساد وتضخم وغياب للفعالية وبطالة متفاقمة على نحو خاص بين الشباب. وقد أضرت هذه المشكلات بقدرة إيران على المنافسة في الأسواق العالمية. وقد جرى النظر منذ فترة بعيدة إلى إنهاء سيطرة الدولة والدعم كخطوة أولى نحو إعادة تنشيط اقتصاد أصابه الخمول قدرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أنه حقق نموا هزيلا بلغ 1.5 في المائة عام 2009. ويقدر محللون معدلات البطالة والتضخم بنحو 20 في المائة، ما يبلغ قرابة ضعف الأرقام الرسمية المعلنة المتمثلة في 11.8 في المائة و12.2 في المائة على الترتيب.

وكان استهلاك الطاقة أوضح نقطة يمكن البدء منها في طريق تقليص الدعم. يذكر أن الشعب الإيراني تضاعف عدده منذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، بينما زاد استهلاك الطاقة بمقدار خمسة أضعاف. ولم يعد يؤمن بالعقيدة الخومينية القديمة القائمة على حق الإيرانيين في التمتع بطاقة مجانية نظرا للثروة النفطية التي تنعم بها بلادهم، سوى القليل من المثقفين الإيرانيين.

إلا أنه حتى الآن، غابت تقريبا أي جهود لتعزيز ترشيد استهلاك الطاقة. ويرى خبراء بمجال الطاقة أن 3 في المائة فقط من المباني على مستوى البلاد تتمتع بطبقة عازلة جيدة، وحتى الآن يشيع بين الإيرانيين تشغيل أجهزة التدفئة المركزية العاملة بالغاز الطبيعي طوال اليوم مع فتح النوافذ للسماح بدخول هواء جديد. وتشير التقديرات الرسمية إلى أن تكاليف إهدار الطاقة في إيران تبلغ 30 مليار دولار سنويا.

في هذا الصدد، قال فاريبا (28 عاما) عامل خدمات بإحدى الشركات: «اعتدت ترك جميع المصابيح مضاءة لأنني أحب أن يكون منزلي براقا للغاية، لكنني غيرت عاداتي الآن. وأعتقد أن السبب وراء ذلك حديثهم الكثير حول الأمر في الراديو والتلفزيون». الملاحظ أن جزءا من الضغوط المالية على المستهلكين خففتها المدفوعات النقدية البالغة قرابة 40 دولارا شهريا التي أعلنت الحكومة أنها تدفعها لـ60 مليون إيراني. وقد أودعت مدفوعات أول شهرين في حسابات مصرفية في نهاية أكتوبر، لكن لم تتح إمكانية السحب منها حتى منتصف الشهر الماضي.

وأعرب خبير اقتصادي رفيع بمؤسسة مالية تديرها الحكومة، عن اعتقاده بأن المسؤولين «أثاروا جلبة كبيرة حول الـ40 دولارا وجعلوها تبدو كما لو كانت 40 ألف دولار». وأثنى في الوقت ذاته على المسؤولين باعتبارهم «خبراء نفسيين» نجحوا في جعل الرأي العام أكثر تقبلا لتخفيض الدعم. وقد طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول له الحديث إلى الصحافيين. وقال: «من خلال وضع الأموال في حسابات الأفراد المصرفية، مع عدم السماح لهم بإنفاقها، بدا الناس متلهفين إلى حد ما لبدء تنفيذ الخطة».

* خدمة «نيويورك تايمز»