تونس: الإصلاح الاقتصادي ومستوى المعيشة يسيران في اتجاهين متضادين

البنك الدولي: تراجع البطالة مرهون بتحسين مناخ الأعمال لتصل معدلات النمو إلى 6% سنويا

البنك الدولي يؤكد أن تونس بحاجة إلى تعزيز كفاءة اقتصادها المحلي وقدرته على المنافسة (أ.ف.ب)
TT

احتلت تونس المرتبة الخامسة بين الدول العربية، طبقا للمؤشر العام لسهولة أداء الأعمال لعام 2011، وكان ترتيبها عالميا 55، طبقا لهذا المؤشر الذي تصدره المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات بالاعتماد على بيانات البنك المركزي.

كما احتلت تونس المرتبة السابعة بين الدول العربية في مؤشر حماية المستثمر، الذي يقيس مدى حماية المساهمين من مالكي حصص الأقلية ضد قيام المديرين وأعضاء مجالس الإدارة بإساءة استخدام الأصول، بينما كان ترتيبها عالميا 74 في هذا المجال.

ويأتي ترتيب تونس طبقا للمؤشرات العالمية، في المرتبة 48 عالميا في سهولة بدء المشروع، والمرتبة 106 في سهولة استخراج ترخيص البناء، والمرتبة 89 في الحصول على الائتمان، والمرتبة 74 في حماية المستهلك، والمرتبة 58 في دفع الضرائب، والمرتبة 30 في التجارة عبر الحدود.

ويصنف الاقتصاديون المراحل التي مر بها الاقتصاد التونسي بعد الاستقلال عام 1956 إلى ثلاث مراحل رئيسية، استمرت أولاها ست سنوات انتهت في 1961، وكان الهم الشاغل للحكومة التونسية وقتها هو تحرير الاقتصاد من مخلفات الاستعمار الفرنسي، الذي شجع الفلاحة واستخراج البترول، مع إهمال تام للصناعة. ثم دخل الحقبة الثانية التي انتهت في 1969، والتي اتخذ الاقتصاد التونسي فيها منحى اشتراكيا، فمنذ سنة 1961 شرع المسؤولون السياسيون في اتباع هذه السياسة الجديدة وتعزيز سيطرة الدولة على مختلف قطاعات الاقتصاد.

وبدأت حقبة جديدة للاقتصاد التونسي بحلول عام 1970، انتهت التجربة الاشتراكية رسميا عام 1969 عندما أقال الرئيس التونسي آنذاك، الحبيب بورقيبة، أحمد بن صالح من مناصبه، إثر تقرير صادر عن البنك الدولي يبرز حجم العجز المالي للمؤسسات الوطنية. وعلى الرغم من ذلك، فلم تتجه البلاد عمليا إلى اقتصاد السوق وإعادة الملكية الفردية إلا بحلول عام 1970 بعد تعيين الهادي نويرة، المحافظ السابق للبنك المركزي، وزيرا للاقتصاد ثم رئيسا للوزراء. واتخذت الحكومة خطوات عملية لتحجيم تدخل الدولة في القطاع الصناعي وتشجيع القطاع الخاص.

وبداية من عام 1970، شهد القطاع الخاص نموا مطردا، خاصة في الصناعات التحويلية، ولكن ذلك لم يمنع من تركز هذه الصناعات وتفاوت توزيعها بين الجهات.

وبعد ذلك تعزز أداء الاقتصاد التونسي بدرجة كبيرة بفضل إنشاء نظام الأوفشور (حوافز الاستثمار الأجنبي) في عام 1971، ومنح نظام الأوفشور عدة حوافز ضريبية ومالية لشركات التصدير، من بينها إعفاء المواد الخام والمعدات التي تدخل في الإنتاج من الرسوم الجمركية، ومنح إعفاء ضريبي لمدة 10 سنوات، مع حرية تحويل الأرباح إلى الخارج. وقد أتاح ذلك لتونس اجتذاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، واقتحام سلاسل الصناعات التحويلية العالمية، وخلق الكثير من فرص العمل في قطاع الملابس وغيره من قطاعات الصناعات التحويلية.

غير أنه تبين أن انتهاج سياسة تجارية مهجنة تجمع ما بين الحماية الشديدة والتحكم في الاقتصاد المحلي من جهة، وتوفير مناخ استثماري جيد قائم بذاته، لا يتسق مع الرغبة في تحقيق نمو قوي وطويل الأمد وخلق فرص العمل. فمع بدء معاناة خريجي الجامعات في العثور على عمل في أوائل التسعينات، بدأ معدل البطالة في الارتفاع، حتى بلغ 15 في المائة بعام 1999. وقد تراجع معدل البطالة قليلا منذ ذلك الحين، لكنه لا يزال في حدود 14 في المائة، نظرا لتسارع معدلات دخول الشبان من خريجي الجامعات إلى سوق العمل.

ويقول البنك الدولي في تقرير حديث له إن تونس بحاجة إلى تعزيز كفاءة اقتصاده المحلي وقدرته على المنافسة كي يتفادى حدوث تدهور كبير في أوضاع العمالة.

وبداية من عام 1986 تبنى الاقتصاد التونسي منهج إصلاح ليبرالي بعد ثلاث عقود متتالية من التدخل المكثف للدولة. وابتداء من يناير (كانون الثاني) 2008، بدأ تاريخ الانفتاح على الاقتصاديات الأجنبية مع دخول اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ، ليواجه الاقتصاد التونسي رهانا أساسيا يتمثل في تأهيل شامل لمختلف قطاعاته، مستعينا في ذلك بنمو سنوي قوي ناهز 5 في المائة طوال الفترة الماضية.

وتم اختيار الاقتصاد التونسي في المنتدى الاقتصادي العالمي حول أفريقيا الذي انعقد عام 2007، على أنه أعلى قدرة تنافسية في القارة، متقدما بذلك على جنوب أفريقيا، وحل في المركز 29 بين اقتصاديات العالم، والرابع عربيا. كما أنه تقدم على الكثير من البلدان العربية (غير الأفريقية)، منها البحرين وعمان والأردن وسورية، وعلى بعض البلدان الأوروبية، كاليونان وإيطاليا والبرتغال.

ويرى البنك الدولي أن تونس تحتاج إلى المزيد من تعزيز الاستثمار الخاص ونمو الإنتاجية، كي تصل إلى معدل نمو يتراوح بين 6 و7 في المائة وخفض معدلات البطالة. فعلى الرغم من استمرار تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، فإن الاستثمار المحلي الخاص لم يزد إلا بنسبة طفيفة من 12.3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في عام 1997 إلى 14.2 في المائة في عام 2007. وهذا المستوى من الاستثمار الخاص يقل عما حققته غيرها من البلدان الصاعدة، ولا يكفي لاستدامة نمو الإنتاجية الذي كان المحرك لما تحقق في الآونة الأخيرة من توسع اقتصادي.

وقال البنك إن شوطا واسعا ينبغي قطعه من أجل تحسين مناخ الأعمال والتكامل التجاري من خلال إدخال إصلاحات يستطيع البنك الدولي مساندتها بالإقراض الذي يستند إلى السياسات. ومن المهم بوجه خاص إدخال إصلاحات تستهدف القضايا المتعلقة بالمنافسة، كالممارسات المناهضة للمنافسة، والمنافسة غير النزيهة التي لا تزال تعيق الاستثمار.

وقال البنك الدولي في تقرير بعنوان «استعراض سياسات التنمية في تونس: نحو نمو مدفوع باعتبارات الابتكار»: إن تونس في حاجة لتحسين نوعية النمو من خلال مساندة الابتكار. فالاقتصاد التونسي في الحقيقة لا تزال تهيمن عليه أنشطة تتسم بتدني المهارات وضعف القيمة المضافة، لا سيما في مجال الصناعات التحويلية. وتتسم القطاعات الاقتصادية التونسية في واقع الأمر بكثافة الأيدي العامة غير الماهرة، إذ لا تزيد نسبة الحاصلين على شهادات جامعية على 15 في المائة فقط من مجموع العاملين في الوقت الراهن. ويمثل العاملون غير المهرة أكثر من 90 في المائة من مجموع العاملين بقطاعات المنسوجات والملابس والقطاعات الميكانيكية والكهربائية (التي تمثل فيما بينها 60 في المائة من صادرات تونس). ولذا فإن «المجال الاقتصادي» محدود للغاية أمام استيعاب خريجي الجامعات الذين يشكلون الآن 60 في المائة من الداخلين الجدد إلى سوق العمل. ويفسر ذلك جزئيا الارتفاع المتزايد في معدلات البطالة بين هذه الفئة من الباحثين عن العمل.

ويرى البنك أن التحديات المهمة التي تواجه الاقتصاد التونسي هي كيفية تحويل القطاعات التقليدية تدريجيا إلى قطاعات تتسم بارتفاع القيمة المضافة والكثافة المعرفية، فضلا عن زيادة الاستثمارات في القطاعات الجديدة والناشئة التي تعتمد على التكنولوجيا.

ويرى التقرير أن تونس لو نجحت في التحول إلى نهج نمو مدفوع باعتبارات الإنتاجية، فقد تقلل من البطالة من خلال اتباع طريقين متوازيين: أولهما زيادة الإنتاجية ونمو إجمالي الناتج المحلي (وهو ما سيفيد كل أنواع العاملين)، وثانيهما توسعة المجال أمام توظيف العمالة ذات التعليم العالي.