مادوف من داخل السجن: كان على المصارف إدراك جرائم الاحتيال ولكنها فضلت إغماض أعينها

لأول مرة يتحدث للصحافة منذ اعتقاله في أكبر جريمة احتيال في التاريخ

TT

قال برنارد إل. مادوف إنه لم يدر بخلده قط أن انهيار مخطط الاحتيال الذي أداره سيسفر عن حجم الدمار الذي لحق بأسرته، وذلك خلال أول مقابلة معه للنشر منذ إلقاء القبض عليه في ديسمبر (كانون الأول) 2008. وشدد مادوف - الذي بدا أكثر نحولا وإهمالا في مظهره - على أن أفراد أسرته لم يكونوا على علم بالجرائم التي ارتكبها. وأكد خلال مقابلة خاصة عقدت هنا على مدار ساعتين في غرفة الزوار، الثلاثاء، وخلال عدد من الرسائل المتبادلة عبر البريد الإلكتروني، على أن مصارف وصناديق تحوط لم يسمها تعد بصورة ما «متواطئة» في عمليات الاحتيال التي اقترفها، في تحول كامل عن ادعاءات أطلقها من قبل حول كونه الشخص الوحيد المتورط في هذا الأمر. وبدا مادوف، الذي يقضي عقوبة بالسجن لمدة 150 عاما، واهنا وغاضبا إلى حد ما مقارنة بالهدوء الأسطوري الذي احتفظ به قبل سجنه عام 2009، وربما أثقل كاهله الآن الجزع على نجله، مارك، الذي انتحر في ديسمبر (كانون الأول).

بجانب هذه الفاجعة، تواجه أسرته سيلا من الدعاوى القضائية واحتمالات مصادرة معظم الأصول التي يملكونها، علاوة على مشاعر تشكك وكراهية عامة تسببت في قطع العلاقات بين مادوف وزوجته، روث، وبين أبنائهما.

ومع ذلك، بدا مادوف في كثير من جوانب سلوكه من دون تغيير، حيث تحدث بحماس واستفاضة شديدة حول تعاملاته مع العديد من المصارف وصناديق التحوط، مشيرا إلى «العمى المتعمد» من جانب هذه المؤسسات وفشلها في تفحص التباينات القائمة بين التقارير التي يقدمها بانتظام والمعلومات الأخرى المتوافرة لديهم.

وعلق مادوف على ذلك بقوله: «كان عليهم أن يدركوا ما يجري، لكنهم اتبعوا نهجا يحمل رسالة مفادها: إذا كانت تقوم بشيء ما خطأ، فلا نريد أن نعرف بأمره».

ورغم اعترافه بذنبه خلال المقابلة وعدم محاولته أن يسوق أية أعذار لتبرير جرائمه، فإن مادوف ركز حديثه على المستثمرين الكبار والمؤسسات العملاقة التي تعامل معها، وليس النكبات المالية التي سببها للآلاف من المستثمرين متوسطي المستوى الذين تعامل معهم. في رسالة بعث بها عبر البريد الإلكتروني بتاريخ 13 يناير (كانون الثاني)، أشار إلى أنه لاحظ أن الكثير من عملائه الذين يتعاملون معه منذ أمد طويل جنوا عائدات مشروعة من ورائه خلال السنوات السابقة لتدبير مخطط الاحتيال عما كان يمكنهم تحقيقه من أي مكان آخر. وأضاف: «كنت أتمنى أن لا يخسر أي منهم أية أموال، لكن الاستثمار في السوق كان مخاطرة ندرك جميعا عواقبها».

وقال مادوف إنه شعر بصدمة بالغة لدى علمه بشأن رسائل إلكترونية وأخرى نصية تثير الشكوك حول النتائج التي كان يعلنها، والتي تظهر الآن في الدعاوى القضائية المقدمة ضده، والتي كان يتداولها المصرفيون في ما بينهم قبل انفضاح أمر مخططه.

وقال بابتسامة باهتة: «ما أقرأه الآن يكشف أنهم كانوا أكثر تشككا في أمري عما كنت مدركا له آنذاك».

ولم يؤكد مادوف أن مصرفا أو صندوقا محددا كان على علم أو تورط في مخطط الاحتيال الذي دبره الذي استمر طيلة 16 عاما على الأقل وأتى على نحو 20 مليار دولار في صورة أموال نقدية مفقودة وقرابة 65 مليار دولار كأصول في صورة أوراق مالية. لكنه اكتفى بالإشارة لفشل المصارف وصناديق التحوط في اتخاذ إجراءات التفحص العادية.

وجاءت المقابلة والمراسلات عبر البريد الإلكتروني كجزء من بحث تجريه المراسلة التي كتبت هذا التقرير من أجل كتاب تنوي إصداره حول فضيحة مادوف بعنوان «ساحر الأكاذيب: بيرني مادوف وموت الثقة»، المقرر نشره هذا الربيع من جانب دار نشر «تايمز بوكس»، التي تتبع «هنري هولت آند كامباني».

خلال المقابلة والمراسلات عبر البريد الإلكتروني، ادعى مادوف أنه كان يساعد القيّم الذي عينته المحكمة لاستعادة المليارات الضائعة بالنيابة عن عملائه الذين تعرضوا للنصب عليهم. خلال الرسائل المتبادلة عبر البريد الإلكتروني، قال مادوف مرارا إنه قدم معلومات مفيدة إلى إرفنغ إتش. بيكارد، القيم الذي حاول استعادة أصول لحساب ضحايا الاحتيال، وإنه التقى فريق العمل المعاون لبيكارد على امتداد أربعة أيام الصيف الماضي. يذكر أن رسائل البريد الإلكتروني كتبت في ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني)، لكنه لم يوافق على الكشف عنها علانية إلا مؤخرا.

داخل السجن، لا يتصل مادوف بالعالم الخارجي سوى على نحو محدود وخاضع للمراقبة، حيث يجب موافقة سلطات السجن على جميع زواره، إضافة إلى مراقبتها مكالماته الهاتفية والرسائل الإلكترونية والخطابات المكتوبة الصادرة عنه والواردة إليه. إلا أن مقابلاته مع المحامين أمثال بيكارد وزملائه تخضع لقيود أقل ويمكن إجراؤها على نحو خاص.

وفي سؤال له عن الزنزانة التي يقيم فيها، وصفها مادوف بأنها غرفة تبلغ مساحتها نحو 12 قدما مربعا بها نافذة كبيرة تطل على فناء السجن. وذكر أن لديه زميل في الزنزانة، وهو ثاني سجين معه منذ حبسه بهذا السجن.

ومن الواضح من الرسائل الإلكترونية والمقابلة التي أجريت معه أن مادوف تابع بدقة الأنباء المرتبطة بقضيته في ديسمبر، الذي شهد الذكرى الثانية لإلقاء القبض عليه. وشن هجوما شديدا ضد ما وصفه بالتغطية «الشائنة» لانتحار نجله مارك في 11 ديسمبر.

ودحض مادوف تقارير صحافية ذكرت أنه رفض حضور أي من مراسم جنازة مارك، مشيرا إلى أن إدارة السجن أبلغته أنها سترفض أي طلب لحضوره الجنازة بسبب «دواعي تتعلق بالسلامة العامة» والوقت المحدود المتاح لاتخاذ الترتيبات اللازمة. وفي رسالة بعث بها في 29 ديسمبر، أشار إلى أنه خلص إلى أن أي جنازة سيحضرها ستتحول إلى «سيرك إعلامي» وأن سيكون «من القسوة أن يضع أسرته» في هذا الموقف.

وفي ما يتعلق باجتماعاته مع الفريق القانوني المعاون لبيكارد، أكد مادوف في رسالة إلكترونية بتاريخ 19 ديسمبر أنه قدم إليهم «معلومات علمت أنها ستكون مفيدة في استعادة أصول من أولئك المتورطين في الورطة التي أقحمت نفسي فيها».

في رسالة بعث بها بعد 10 أيام، تناول بصراحة أكبر المعلومات التي قدمها للقيّم، حيث ذكر: «أقول إن المصارف وصناديق التحوط كانت متواطئة بصورة أو بأخرى، وإن المعلومات التي قدمتها لبيكارد تؤكد ذلك». وينبغي التنويه هنا بأن أي ادعاءات لمادوف يجب تقديرها بناء على مصداقيته المتداعية، فبعد خداعه جهات تنظيمية فيدرالية ومستثمرين يفترض أنهم على درجة كبيرة من الذكاء لمدة 16 عاما على الأقل، من المؤكد أن محاميي الدفاع سينعتونه بالكذب حال مثوله أمام المحكمة كشاهد ضد أي متهم، وهي حقيقة اعترف بها متحسرا خلال المقابلة التي أجريت معه الثلاثاء.

ورغم الإشارات العديدة التي ساقها حول تواطؤ الآخرين، اعترف مادوف في رسالة إلكترونية بعث بها في 19 ديسمبر بأنه لم يطلع المحققين الفيدراليين المعنيين بقضايا جنائية على صلة بمخطط الاحتيال الذي نفذه على المعلومات التي بحوزته؛ وإن كان الاحتمال الأكبر أن القيم فعل ذلك إذا ما ارتأى أن معلومات مادوف تفيد التحقيقات.

وفي رسالة إلكترونية، قال مادوف إنه بينما أبدى استعداده «منذ البداية» لتقديم معلومات للمحققين «للمساعدة فقط في استعادة الأصول، رفضت إمدادهم بأدلة جنائية». وخلال المقابلة، رفض مادوف مناقشة أي من القضايا الجنائية الجاري التحقيق بشأنها.

خلال الشهور التي أعقبت المقابلات التي أجراها أعضاء الفريق المعاون لبيكارد معه داخل السجن، تقدمت شركة المحاماة الممثلة للقيم بمئات الدعاوى القضائية الساعية للحصول على نحو 90 مليار دولار كتعويضات وأرباح خيالية جرى سحبها من مخطط الاحتيال الذي أداره مادوف لسنوات. ومن بين المدعى عليهم في هذه القضايا عائلة ويلبون، مالكة فريق «نيويورك متس» لكرة السلة، و«جيه بي مورغان تشيس»، الذي عمل كجهة مصرفية أساسية لحساب مادوف لعقود، وسونجا كون، الخبير المالي لدى شبكة من صناديق التحوط التي أوكلت لمادوف استثمارات ضخمة.

وفي حديثه عن فريد ويلبون وسول كاتز، أقارب عائلة ويلبون بالزواج ويشاركونهم نشاطهم التجاري، قال مادوف: «إنهما لم يعلما شيئا، لم يعلما شيئا».

ولم تظهر مؤشرات واضحة على أن أي من هذه الدعاوى القضائية تعتمد على أدلة أو توجيهات صادرة عن مادوف. وقال جميع المدعى عليهم إنه لم تكن لديهم معرفة بالاحتيال ونفوا ادعاءات القيم بأنهم كمستثمرين متمرسين في القطاع المالي كان ينبغي أن يرتابوا في أمر مادوف من البداية.

من جانبه، رفض بيكارد التعليق على ما إذا كان أعضاء فريق العمل المعاونون له أجروا مقابلات مع مادوف، ولم يكشف عن ما إذا كانت المعلومات التي حصل عليها منه أسهمت في العدد الضخم للدعاوى القضائية التي طرحت أمام القضاء منذ الصيف الماضي.

في بعض رسائل البريد الإلكتروني، اعترف مادوف أن الفريق المعاون لبيكارد أجرى تحقيقا خاصا به حول عمليات سحب أموال نفذها بعض كبار العملاء، خلال السنوات السابقة لانهيار مخطط الاحتيال، لتحديد حجم المعلومات التي ربما حصلوا عليها بشأن حقيقة ما يفعله مادوف. ومن الممكن أن توحي بعض إجراءات السحب بأن مستثمرين ربما يكونون قد أدركوا وجود احتيال، الأمر الذي سيزيد من مسؤوليتهم القانونية.

إلا أن مادوف استطرد من جانبه بأن «الحقيقة هي أنني أنا بمفردي كنت حاضرا في اجتماعات معينة مع هؤلاء العملاء».

حتى الآن، لم تواجه أي من المصارف أو صناديق التحوط الكبرى التي تعاملت مع مادوف اتهامات من جانب محققين فيدراليين باستثمارها عن عمد في مخطط الاحتيال الذي كان يديره. لكن بيكارد أكد في إطار دعاوى قضائية مدنية أن مسؤولين تنفيذيين ببعض المصارف أعربوا عن شكوكهم حيال مادوف لسنوات، ومع ذلك استمروا في العمل معه وتوجيه أموال العملاء إليه.

وقد نفت جميع المؤسسات المالية التي تواجه دعاوى قضائية مدنية من قبل بيكارد وضحايا مادوف علمها بوقوع أي عمليات احتيال. وفي رسالة عبر البريد الإلكتروني بتاريخ 12 يناير، أشار مادوف إلى تسويات أبرمت خارج قاعات المحكمة تفاوضت بشأنها بعض المصارف وصناديق التحوط مع جهات استثمارية خاصة تعاملت مع مادوف خلال العامين الماضيين، وادعى أن بعض التسويات تم إقرارها لـ«إبقائي صامتا» حيال الدور الذي لعبته بعض المؤسسات في «خلق هذا الموقف» وحيال هوية الملاك المنتفعين لبعض الحسابات الخاصة.

يذكر أن بيكارد استعاد بالفعل نحو 10 مليارات دولار عبر بيع أصول وتسويات مع العديد من المصارف الأجنبية وبضعة عملاء مهمين من الذين تعامل معهم مادوف، بينهم المستثمر جيفري بيكور، وعائلة كارل شابيرو، النشط في مجال الأعمال الخيرية في بالم بيتش في فلوريدا. في الوقت الذي جرى التفاوض فيه حول تسوية بيكور منذ خريف 2009 على الأقل، جاءت التسوية مع كل من عائلة شابيرو ومصرف سويسري، «يونيون بانكير بريفيي»، بعد زيارة قام بها بيكارد للسجن هنا في بوتنر. إلا أنه نظرا لأن كلا التسويتين أقرتا قبل رفع بيكارد أي دعاوى عامة أمام المحكمة، فمن غير الواضح ما إذا كانت المعلومات التي قدمها مادوف شكلت عاملا في المحادثات بشأن هذه التسويات.

يذكر أن أيا من شابيرو أو المصرف السويسري لم يواجه اتهامات بالتواطؤ مع جرائم مادوف، واعترف بيكارد علانية بتعاونهما الصادق مع التحقيقات التي أجراها لدى إعلانه عن اتفاقيات التسوية التي تجاوز مجموع قيمتها مليار دولار. المعروف أن الأشخاص الوحيدين الذين اتهموا بالتواطؤ في جريمة مادوف هم فاحص حساباته السابق وأعضاء فريق العمل المعاون له.

ورغم أن مادوف أقسم أمام المحكمة بأنه نفذ مخطط الاحتيال بمفرده، فإن المحاسب الذي عمل لحسابه، ديفيد إتش. فريلينغ، وكبير مساعدي مادوف، فرانك ديباسكالي، اعترفا أمام المحكمة بأنهما مذنبان، ويتعاونان الآن مع المحققين. ووجهت اتهامات إلى خمسة موظفين سابقين عملوا مع مادوف، بينما أصروا هم على براءتهم، وهم في انتظار المحاكمة الآن. وفي حين قال مادوف إنه عاقد العزم على المساعدة في الجهود لاستعادة الأصول، انتقد المدى الذي وصلت إليه جهود القيم، مدعيا أن بيكارد يسعى للحصول على أموال أكبر بكثير عن تلك اللازمة لتسوية مطالب المستثمرين المشروعة.

بجانب الدعاوى التي تقدم بها عملاء بخصوص خسائر مالية أو أصول في صورة أوراق مالية تلاشت، يواجه مادوف أيضا دعاوى من جانب دائنين عموميين، مثل بائعين وملاك أراض لا يمكنهم استعادة عافيتهم المالية حتى يتم سداد جميع الدعاوى المشروعة للعملاء.

خلال العديد من رسائل البريد الإلكتروني، أعرب مادوف عن اعتقاده بأن مسؤولية بيكارد تقتصر على إعادة الـ20 مليار دولار التي تمثل الأموال النقدية التي خسرها مستثمرون بسبب مخطط الاحتيال الذي دبره.

وبالنظر إلى أن بيكارد استعاد بالفعل نحو 10 مليارات دولار، فإن مادوف قدر أن الدعاوى القضائية المرفوعة ضد مصارف وصناديق تحوط كبرى ستقدم أكثر مما يلزم لتغطية باقي الخسائر النقدية من دون حاجة لأن يطارد بيكارد بعض المستثمرين المتعاونين مع مادوف لفترة طويلة الذين سحبوا أموالا من حساباتهم تفوق ما وضعوه بها بدعاوى قضائية.

*خدمة «نيويورك تايمز»