ضغوط التضخم تدفع «المركزي الأوروبي» إلى تشديد سياسته النقدية

أزمة الديون السيادية لم تحده عن استهداف استقرار الأسعار

مقر البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت بألمانيا («الشرق الأوسط»)
TT

رجح مصرف أوروبا المركزي خيار استقرار الأسعار في منطقة اليورو، وذلك بفضل تشديد سياسته النقدية بنحو ربع نقطة مئوية، ليصبح معدل الفائدة الأوروبية عند 1.25 في المائة، ليطوي بذلك سياسة التراخي في السياسة النقدية منذ يوليو (تموز) 2008.

وحسم قرار مصرف أوروبا المركزي الجدل المتعلق بتعاطف مصرف أوروبا المركزي مع أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو، حيث شكل تفاقم أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو، والتي تزامنت مع ازدياد الضغوط التضخمية، معضلة تجاه الخيارات المتاحة لأعضاء مجلس مصرف أوروبا المركزي.

وعقب صدور قرار السياسة النقدية الأوروبية برفع معدل الفائدة إلى 1.25 في المائة، عقد جان كلود تريشيه، رئيس مصرف أوروبا المركزي، مؤتمرا صحافيا أشار فيه إلى إجماع أعضاء مصرف أوروبا المركزي على رفع معدل الفائدة بنحو ربع نقطة مئوية، إلا أنه أوضح أن ذلك القرار لا يعني بالضرورة بداية لسلسة من رفع معدلات الفائدة. ورحب جان كلود تريشيه بأي مبادرة من قبل البرتغال لطلب المساعدة في الحصول على سيولة ائتمانية ضمن برنامج التيسير الكمي الذي أطلقه مصرف أوروبا المركزي.

وأظهرت بيانات أولية ارتفاع معدل التضخم في منطقة اليورو بنحو 2.6 في المائة في شهر مارس (آذار) الماضي مقارنة بـ2.4 في المائة في فبراير (شباط) من هذا العام، مما دفع جان كلود تريشيه رئيس مصرف أوروبا المركزي الشهر الماضي إلى التلويح بعبارة «علينا مراقبة الأسعار بيقظة شديدة»، والتي يعتبرها المراقبون تلميحا ضمنيا إلى رفع معدلات الفائدة لاحقا.

وتشكل معدلات التضخم الحالية في منطقة اليورو تجاوزا للمستويات المستهدفة من قبل مصرف أوروبا المركزي، حيث يعتبر ما فوق 2 في المائة تهديدا لاستقرار الأسعار الذي يتبناه أعضاء مصرف أوروبا المركزي. ومنذ الربع الأول من عام 2010 شهدت معدلات التضخم في منطقة اليورو ارتفاعا تدريجيا أسهم في تلاشي المخاوف من الضغوط الانكماشية التي سجلتها منطقة اليورو خلال منتصف عام 2009.

وبدأت معدلات التضخم الأوروبية في تجاوز سقف التضخم المسموح به من قبل مصرف أوروبا المركزي في بداية الربع الأول من 2011، والتي استمرت لثلاثة أشهر متتالية، مما يعد تأكيدا لعودة الضغوط التضخمية على استقرار الأسعار في منطقة اليورو.

وشهد سعر صرف اليورو مقابل الدولار الأميركي ارتفاعا بنحو 14 سنتا منذ مطلع عام 2011، حيث سجل يوم أمس 1.4350 دولار، مما أسهم في كبح بعض الضغوط التضخمية التي ما زالت مدفوعة بارتفاع أسعار الغذاء والطاقة خلال الربع الأول من هذا العام، إلا أن هذا الارتفاع في أسعار الصرف ما زال دون مستويات أسعار الصرف في 2008 عند مستوى 1.6050، مما شكل ارتفاعا في أسعار الواردات والتي بدورها دفعت معدلات التضخم للبقاء فوق المستويات المقبولة لدى مصرف أوروبا المركزي.

ورغم التباين في توقعات المراقبين في أسواق المال تجاه الفترة المناسبة التي قد يستغرقها كبح الضغوط التضخمية، فإن هناك توافقا على أن البيانات الأخيرة تقتضي تشديد السياسة النقدية الأوروبية. ويرتكز التباين في توقعات المراقبين على وتيرة رفع معدلات الفائدة الأوروبية، حيث إن قرار مصرف أوروبا المركزي الأخير قد لا يعني استمرار رفع معدلات الفائدة في المستقبل دون صدور بيانات اقتصادية مؤيدة لتوجهات السياسة النقدية خلال هذا العام.

حالة التباين التي شهدتها توقعات أسواق المال لم تؤثر على مداولات أعضاء مجلس مصرف أوروبا المركزي الذين أكدوا على أن استقرار الأسعار له الأولوية القصوى التي لن تحيدها مستجدات أزمة الديون السيادية الأوروبية.

وأبدى جاي كويدن، أقدم عضو في مصرف أوروبا المركزي، رأيه في كيفية التجاوب مع البيانات الأخيرة للتضخم، مشددا على رفع معدلات الفائدة بحذر، والتي يعتقد أنها متدنية إذا ما قورنت ببيانات عن تحسن الاقتصاد الكلي. وقال جاي كويدن إن أحد العوامل التي أسهمت في بقاء معدلات التضخم تحت السيطرة خلال السنوات العشر الأخيرة هو استيراد السلع والخدمات من الأسواق الناشئة ذات العمالة الأقل كلفة، إلا أن تحسن الوضع المعيشي في الأسواق الناشئة دفع معدلات الإنفاق الاستهلاكي إلى الارتفاع بشكل أسهم في تضخم أسعار السلع، والتي بدورها ستثير عقبات تجاه قدرة السياسة النقدية الأوروبية على التجاوب مع ضغوط تضخمية خارج إطار الاقتصاد الأوروبي.

وأشار جاي كويدن إلى أن سقف التضخم المحدد بـ2 في المائة من قبل مصرف أوروبا المركزي قد يرتفع إذا ما شهد الاقتصاد العالمي استمرارا لارتفاع أسعار السلع، إلا أنه ذكر أن ذلك من السابق لأوانه. ولم تستدع تصريحات جاي كويدن انتباه أسواق المال، حيث تنتهي مهمته كعضو في مصرف أوروبا المركزي خلال أيام، إلا أن تعديل سقف التضخم المستهدف من قبل مصرف أوروبا المركزي سيلقي بظلاله على وتيرة رفع معدلات الفائدة، والذي يعد أمرا بالغ الأهمية لدى أسواق سندات الديون السيادية الأوروبية تحديدا.

وأوضح جاي كوين أن برامج التيسير الكمي التي نفذها مصرف أوروبا المركزي أثارت خلافا بين أعضاء المصرف، إلا أن جان كلود تريشيه رجح كفة المؤيدين لبرامج التيسير الكمي. وقام مصرف أوروبا المركزي بشراء سندات الديون السيادية للدول الأعضاء في منطقة اليورو، حيث بلغت عمليات الشراء 77 مليار يورو حسب بيانات صادرة عن مصرف أوروبا المركزي.

ويتفق لورينزو بينسماغي، عضو مصرف أوروبا المركزي مع ما أشار إليه جاي كوين، إلا أنه وصف معدلات الفائدة الحالية بالمتراخية والتي لا تتناسب مع تطورات التضخم في منطقة اليورو، وهو الأمر الذي دفعه للمطالبة برفع معدلات الفائدة تدريجيا. وأوضح بينسماغي أنه من المطلوب وضع حد لقدرة الدول الأوروبية على إصدار سندات الديون السيادية، مطالبا بمعاقبة أي دولة تتجاوز سقف الإنفاق العام المتفق عليه.

ويشاطر جيغن ستارك، كبير اقتصاديي مصرف أوروبا المركزي، رأي العضو لورينزو بينسماغي، مشيرا إلى أن عدم تجاوب السياسة النقدية الأوروبية مع الضغوط التضخمية سيشكل أثرا سلبيا على توقعات التضخم، مؤكدا على أن أسواق المال ستفرض علاوة مخاطر تضخمية في أسواق السندات، الأمر الذي سيدفع بدوره مصرف أوروبا المركزي إلى التجاوب مع مطالب أسواق المال.

وحذر جيغن ستارك في مقال له نشر في جريدة «الفاينانشيال تايمز» من مغبة التعاطف مع أزمة الديون السيادية الأوروبية بنحو يشتت تركيز السياسة النقدية على استقرار الأسعار، والذي يعد أولوية رئيسية في مهام المصرف المركزي الأوروبي. وأكد أن الأخذ في الاعتبار مساعدة القطاع العام أو الخاص في حل العقبات التي يواجهها يعد مخالفة صريحة لسياسات مصرف أوروبا المركزي إذا جاءت على حساب استقرار الأسعار.

وفي تطور ملحوظ، انضمت وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني لوكالة «فيتش» ووكالة «ستاندرد آند بورز»، وقامت بخفض تصنيف سندات الديون السيادية للبرتغال إلى مستوى قريب من الأصول الرديئة، مما نتج عن ارتفاع كلفة سندات الديون السيادية البرتغالية إلى عشرة في المائة، وهو معدل قياسي لم تشهده منطقة اليورو منذ عام 1999.

وتعتمد عدة مصارف في إسبانيا والبرتغال على ما يقدمه مصرف أوروبا المركزي من سيولة ائتمانية لتغطية شح السيولة الناتج عن تدهور التدفقات النقدية على أغلب الأصول المالية التي تمتلكها تلك المصارف. ومن المتوقع أن تؤدي سلسلة من خطوات رفع معدلات الفائدة الأوروبية إلى تلاشي أرباح المصارف في إسبانيا والبرتغال نتيجة تخوف تلك المصارف من ارتفاع حالات تعثر سداد القروض إذا ما تم نقل الزيادة في كلفة القروض إلى الأفراد.

ومن الواضح أن العقبات التي ما زال يشهدها قطاع الرهن العقاري في منطقة اليورو قد تزداد إذا ما بدأت مرحلة تشديد السياسة النقدية الأوروبية في الضغط على معدلات الفائدة لأصول الرهن العقاري، خصوصا في آيرلندا التي تعتمد ما يتجاوز 80 في المائة من قروض الرهن العقاري فيها على معدلات فائدة تتغير حسب ما يحدده مصرف أوروبا المركزي. وحسب بيانات مصرف آيرلندا المركزي فإن أكثر من 50 في المائة من إجمالي قروض الرهن العقاري شهدت مستحقاتها تعثرا من قبل قاطنيها، إلا أن 70 مليار يورو كتدفقات ائتمانية مقدمة للمصارف الآيرلندية قد تقلل من حجم الديون المتعثرة إذا ما تمت إعادة هيكلتها على النحو الذي يسمح بامتصاص كلفة الاقتراض دون نقلها إلى الأفراد.

وفي محاولة لدعم توجهات السياسة النقدية الأوروبية، قال بيير كارلو بادوان، كبير اقتصاديي منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، إن هنالك توقعات لزيادة التضخم من قبل المستهلكين ستؤثر على معدلات الإنفاق الاستهلاكي، مما يستوجب رفع معدلات الفائدة. وقلل بيير كارلو بادوان من المخاوف التي قد تطرأ من ارتفاع كلفة الديون السيادية على الدول الأعضاء في منطقة اليورو، مؤكدا أن الارتفاع سيكون ضئيلا ولن يهدد الدول التي تناضل من أجل إزاحة الديون عن كاهل الموازنة العامة.

وسادت حالة من الصمت لدى الساسة الأوروبيين بعد رفع معدلات الفائدة الأوروبية، والذي يعد تغيرا إيجابيا يصب في مصلحة استقلالية قرارات المصرف الأوروبي المركزي عن أي تحيز سياسي يؤثر على كفاءة الخطوات المتبعة لدعم انتعاش الاقتصاد الأوروبي.

وشهد مصرف أوروبا المركزي سابقا انتقادات حادة من قبل الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي عقب رفع معدلات الفائدة قبل الأزمة المالية، مطالبا في ذلك الوقت مصرف أوروبا المركزي بالتركيز على معدلات النمو الاقتصادي بعد تأثر الصادرات الفرنسية سلبا بارتفاع سعر صرف اليورو الذي سجل 1.6050 في يوليو 2008.

وأكدت الينا سالغادو، وزيرة الاقتصاد الإسبانية، التي يحاول اقتصادها العودة إلى النمو مجددا بعد تأثره بانفجار فقاعة العقار، أن الاقتصاد الإسباني قادر على امتصاص آثار رفع ضئيل لمعدلات الفائدة الأوروبية دون أي عقبات.