«الربيع العربي».. هل «سيزهر» بالضرورة اقتصاديا؟

قيادات سياسية واقتصادية عربية ترصد في بيروت تحولاته

السنيورة متحدثا في افتتاح منتدى الاقتصاد العربي (الدورة الـ19) في بيروت، أمس (إ.ب.أ)
TT

أجمعت قيادات سياسية واقتصادية على أهمية تعميم الإصلاح بمفاهيمه الشاملة كنتيجة طبيعية لتحركات «الربيع العربي» الاحتجاجية الواسعة التي تتفاعل في العديد من الدول. بما يشمل تداول السلطات، والتوزيع العادل للدخل القومي الذي يحقق النمو والتنمية معا، ومحاربة الفساد عبر نهوض المؤسسات وتفعيل القضاء، وإنتاج فرص عمل حقيقية تستقطب معدلات البطالة المرتفعة خصوصا في أوساط الشباب العرب.

واعتبر الرئيس السابق للحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة، الذي ناب عن الرئيس سعد الحريري في افتتاح منتدى الاقتصاد العربي (الدورة 19) في بيروت أمس، أن «نجاح الانتفاضات العربية يسهم في وضع عملية الإصلاح الاقتصادي على الطريق الحقيقي والصحيح. فقد بذلت جهود كثيرة على مدى العقدين الماضيين في العالم العربي لضمان استقرار الاقتصاد الكلي في أكثر من بلد عربي، لكن معدلات النمو المعقولة التي تحققت لم تأت بالفائدة الكاملة على الجميع، ولم يرتفع بالتالي وبشكل كاف عدد الأشخاص المعنيين باستقرار النظام بكونهم شركاء في استدامته وفي الحفاظ على مزاياه».

ولفت إلى أن مشاريع التخصيص (الخصخصة) التي تم الشروع فيها لم تمثل تحريرا اقتصاديا حقيقيا وكافيا، «إذ إنها وفي حالات كثيرة أدت إلى بيع أصول الدولة لرجال أعمال معينين دون غيرهم، وذلك من دون تحرير القطاعات المباعة بالمعنى الاقتصادي الحقيقي للكلمة، أي التحرير الذي يؤدي في المحصلة إلى توفير خدمات ممكنة أفضل وبكلفة ممكنة أقل ودون أن تمارس الدولة بالتالي دورها الناظم لتلك القطاعات الاقتصادية بما يحمي مصالح جميع الشركاء المعنيين بها».

وشدد على أهمية تسليط الضوء على غياب التقدم الكافي على مسار سيادة الحكم الرشيد المتقبل للمحاسبة والمساءلة. كذلك استمرار غياب الشفافية اللازمة ومستويات مقبولة من الصراحة والإفصاح، «بالإضافة إلى ذلك فإن هناك قصورا في إدراك أهمية التعرف إلى مواطن الفساد في الإدارة والاقتصاد ودورها في توليد وزيادة مشاعر الإحباط لدى المواطنين، ولا سيما لدى الشباب منهم. وهذه كلها أمور تزيد من الأسباب الداعية إلى الفشل في تحقيق التوقعات وبالتالي إلى زيادة حدة اليأس والشعور بانسداد الأفق».

واستنتج «أن العقد الاجتماعي الاقتصادي الجديد المطلوب إبرامه لا يشمل تحقيق النمو ومكافحة التضخم والتقدم على مسارات تحقيق الأهداف المالية والنقدية والتنموية فحسب، إنما ينبغي التأكد من أنه يجري التقدم اللازم على صعيد الاستثمارات الجديدة في القطاع الموفرة لفرص العمل الجديدة وكذلك في إيجاد المساكن الملائمة للشباب بما يسهم في خلق مستوى أفضل من الطمأنينة بشأن مستقبلهم. من جهة أخرى التأكيد على العمل على تمكين الشباب من خلال مستويات أفضل من التعليم والتدريب التقني تتلاءم مخرجاته مع حركة الاقتصاد ومجالات نموه وتطوره المستقبلي. كذلك العمل أيضا على إنشاء المؤسسات القادرة على دفع الإصلاحات السياسية والديمقراطية وكذلك الاقتصادية والاجتماعية قدما، وذلك مع تفعيل قدرة هذه المؤسسات على ممارسة الرقابة وتحقيق التوازن بينها».

ورأت وزيرة المالية ريا الحسن، أن «التطورات السياسية التي واجهتها بعض الدول مؤخرا، تفرض عليها إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية بحيث تتلاءم مع متطلبات الواقع الجديد في الشارع العربي. ولعلها فرصة جديدة أمام جميع الدول العربية للقيام بالإصلاحات التي من شأنها تحقيق مستويات عالية من الرخاء والاستقرار لشعوبها».

وقالت «على الرغم من التحديات الكبيرة أمامنا، فالجميع يتطلع إلى المرحلة المقبلة بتفاؤل وأمل كبيرين، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة، وتحفيز التنافسية العالمية للاقتصادات العربية من خلال تحديث الاقتصاد وتطوير المناهج التعليمية بحيث يتمكن الشباب العربي من المنافسة محليا وعالميا، إضافة إلى خلق فرص عمل جديدة والحد من البطالة والفقر. ولعل الإفادة المثلى من المرحلة الراهنة تتطلب التوازن بين تطوير البيئة السياسية في الدول العربية من جهة، وبين تطوير آليات ومحركات النمو الاقتصادي المستدام والرفاه الاجتماعي للشعوب من جهة أخرى. فنجاح الإصلاحات السياسية مرتبط إلى حد بعيد بنجاح الإصلاحات الاقتصادية، والعكس صحيح أيضا».

رئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب الدكتور جوزف طربيه، أكد «أن المشهد السياسي العربي الذي يتكون تباعا مع كل حدث هو مشهد مختلف بكل معنى الكلمة. والنظر في عمق هذه التحولات يفضي إلى استنتاج منطقي بأن الشأن الاقتصادي يقع في صلبها، وسيكون حتما في صدارة نتائجها بعد بلوغ مرحلة الاستقرار».

ولاحظ «أن التحركات الحاصلة تجتمع على عنوان واحد هو الإصلاح وترفع شعار تعميمه في كل المجالات، وفي مقدمها إصلاحات سياسية، تؤمن توسيع قاعدة المشاركة والفصل بين السلطات وتداولها، وإصلاحات اقتصادية، تستهدف التركيز على تسريع التحول إلى الاقتصادات الإنتاجية، وتنويع مصادر الدخل، وتوزيع أكثر عدلا للثروة، ورفع إنتاجية القطاع العام، وتحسين سياسات التشغيل ومكافحة البطالة، وإصلاحات اجتماعية، تخفف من عمق الهوة بين الطبقات الأكثر غنى والأكثر فقرا، وتعيد الاعتبار للطبقة الوسطى كحلقة اتصال وتواصل، وضخ استثمارات مجدية في إصلاح التعليم والتدريب والتكنولوجيا والرعاية الاجتماعية والصحية، وإصلاحات قضائية، تسهم في مكافحة الفساد وتصويب مكامن الخلل عبر إحقاق الحق وتعميم سيادة العدالة».

واعتبر «أن الإصلاح هو الركيزة الأهم لبناء الثقة كممر إلزامي مثالي لبلوغ الاستقرار الحقيقي وتعميم فوائده، وهذا ما نطمح إليه جميعا دولا وشعوبا وأنظمة. والإصلاح بمفهومه الشامل على الصعيد الوطني هو المسار الأمثل لإعادة صياغة خريطة طريق طموحة الرؤى والأهداف لمنظومة العمل العربي المشترك، ترمي إلى تعزيز التكامل الاقتصادي، وتفعيل التجارة العربية البينية وتسهيل انسياب رؤوس الأموال والسلع والخدمات داخل منظومة الدول العربية على نحو يضمن التنمية المستدامة لاقتصادات هذه الدول ورفاهية شعوبها».

بدوره اعتبر رئيس اتحاد الغرف العربية، عدنان القصار، أن «ما يحصل اليوم من متغيرات تاريخية يؤذن بدخول حقبة تاريخية جديدة لا نعرف حتى الآن ملامحها النهائية. ولكن ما نعرفه هو أن التوق إلى الحرية والديمقراطية ورفض الفساد سمات مشتركة يتوحد حولها المواطنون العرب دونما تمييز بين بلد وآخر».

وأضاف: «كقادة اقتصاديين في القطاعين العام والخاص ندرك أهمية ما يحصل اليوم من تحولات. وندرك أن الوطن العربي لن يعود كما كان قبل سنة 2011. ولذلك فإننا وكمعنيين مباشرين ننظر إلى ما يحصل بكل هدوء، ونتفحص مجريات الأمور، محاولين استخلاص ما أمكن من العبر والدروس. فما سيكونه عالمنا العربي بعد هذه الموجة التاريخية سيؤثر تأثيرا مباشرا على اقتصاداتنا، وعلى مصالح شعوبنا، وعلى صورة العمل في الوطن العربي في مجمل الحقول الاقتصادية من المصارف إلى الصناعة إلى الخدمات في كل وجوهها. فالمسألة لم تعد تقاس بمعايير تقنية فحسب بل إن معيار الإنسان العربي الذي قرر أخيرا أن يأخذ مستقبله بيده هو الذي سيكون مطروحا أمامنا، وهو المعيار الذي سنركز عليه في المرحلة المقبلة بعد أن يستقر المشهد العربي عند نقطة معينة».

من جانبه، ركز حاكم «مصرف لبنان» رياض سلامة، على أن المصارف اللبنانية الموجودة في دول تشهد عدم استقرار سياسي ستتأثر بمحفظتها الائتمانية، إنما اختبارات الضغط التي تم تطبيقها على البنوك تشير إلى أن رؤوس الأموال المخصصة للعمل في هذه الدول كافية لمواجهة المخاطر القائمة.

وأشار إلى أن معدل التضخم المتوقع لهذا العام في لبنان هو ما بين 6 و7 في المائة. وهو الأقل في الدول الناشئة ودول المنطقة. لذا «فلن نلجأ إلى رفع الفوائد لمكافحة التضخم الناتج عن ارتفاع عالمي للأسعار وليس محليا، بل نسعى إلى إدارة للسيولة تمنع انتشار ارتفاع الأسعار إلى سائر القطاعات».

واعتبر أن «عدم تأثر لبنان بالأزمة المالية والاقتصادية العالمية، ليس من باب الصدفة بل مرده إلى النموذج الذي استحدثناه وطورناه منذ سنة 1993، فضلا عن السياسات والاستراتيجيات التي وضعناها ودافعنا عنها. وقد اعتبرنا أن المحافظة على الثقة تفترض ثبات سعر صرف الليرة مقابل الدولار، علما بأن هذا القرار، وإن كان مكلفا أحيانا، سمح بصون الاستقرار وتعزيز الثقة بالقطاع المالي وتأمين المناخ المواتي للاستثمار والاستهلاك، وأعاد الليرة كعملة تسليف مما ساهم في نمو التسليف والاقتصاد. وقد تجنب لبنان الأزمات، وأسواقه لديها المناعة، وسوف يتخطى الظروف الصعبة التي يمر بها حاليا محافظا على الاستقرار النقدي وعلى إمكانياته التمويلية مما سوف يمكنه من إعادة إطلاق عجلة النمو التي يمكن أن تعود وترتفع نسبته عن 2.5 في المائة المقدرة مؤخرا من صندوق النقد الدولي للعام الحالي».

وأشار الرئيس التنفيذي لمجموعة الاقتصاد والأعمال رؤوف أبو زكي، إلى أن «الحراك الإصلاحي يواجه صعوبات، لكن المؤكد أن العالم العربي مقبل على تغييرات كثيرة، وإن كان علينا الانتظار بعض الوقت لتبين ملامح الوضع الجديد وما سيترتب عليه من نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية».

وقال «يجب الإقرار بأن الوضع الأمني في بعض البلدان ومناخ الترقب في بلدان أخرى أديا إلى تباطؤ حركة الاستثمار والتبادلات، كما أن الأحداث العاصفة التي نشهدها تركت آثارها البعيدة على الاقتصاد، الذي سيكون في حاجة إلى عناية كبيرة لاستعادة وتائر نموه. والتحدي الأهم أمام الحكومات العربية الآن هو القدرة على تحقيق النمو وتعميمه وتوفير فرص العمل، والتأخر في تحقيق هذه الأهداف سيبقى أحد أهم أسباب زعزعة الاستقرار ومناخ الاستثمار وحركة الأعمال».

ويناقش المنتدى الدوري الذي تنظمه مجموعة الاقتصاد والأعمال بالاشتراك مع «مصرف لبنان» وجمعية المصارف في لبنان ومؤسسة التمويل الدولية (IFC) التابعة للبنك الدولي، على مدى يومين، المتغيرات في العالم العربي وانعكاساتها على الاقتصاد والسياسات المالية والمصرفية، من خلال جلسات تتناول السياسات الاقتصادية والمالية في ظل المتغيرات السياسية، وكيف يتفاعل الاقتصاد العربي مع التحولات السياسية، وكيفية إعادة صياغة مناخ جديد للاستثمار والأعمال، ودور الشباب العربي من صناعة التغيير إلى بناء المستقبل.

وضمن فعاليات المنتدى تم منح جائزة «الريادة في الإنجاز» إلى كل من وزير الاقتصاد والمالية القطري يوسف حسين كمال، ورجل الأعمال السعودي الشيخ محمد حسين العمودي، ونائب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لـ«الشركة السعودية للصناعات الأساسية» (سابك) المهندس محمد الماضي، كما شمل التكريم مؤسس مجموعة الخرافي الكويتية المرحوم ناصر الخرافي في شخص نجله مرزوق.