الشركات الأميركية تلجأ إلى أسواق المال الخارجية

مع «جفاف منابعها» داخل الولايات المتحدة

أسواق المال الأميركية أصبحت مغلقة خاصة أمام الشركات الأميركية الصغيرة («الشرق الأوسط»)
TT

أرادت شركة «ريفا ميديكال»، المتخصصة في صناعة الأجهزة الطبية والكائنة في سان دييغو، طرح أسهمها في اكتتاب عام في العام الماضي لجمع أموال من أجل إرضاء أصحاب رؤوس الأموال المخاطرين ونافدي الصبر وتمويل الأبحاث الخاصة بدعامات القلب التي تقوم بتصنيعها. غير أنها وجدت اهتماما محدودا من جانب المستثمرين في الولايات المتحدة بالاستثمار في شركة أجهزة طبية في مرحلة مبكرة من عملها، والتي لم تحقق بعد أي أرباح.

واتبعت شركة «ريفا ميديكال» نفس الإجراء الذي اتبعته مجموعة محدودة، ومتزايدة في الوقت نفسه، من الشركات الأميركية الصغيرة - وهو البحث عن رأس المال بالخارج، في حالة «ريفا»، اتجهت إلى البورصة الأسترالية.

وبعد إقامة معرض للترويج للشركة بهدف اجتذاب المستثمرين، والذي امتد لثمانية أشهر، ومقابلة مستثمرين وترويج جهاز دعامة قابلة للتحول الحيوي للمستثمرين المرتقبين، باعت الشركة التي أنشئت منذ 12 عاما 25 في المائة من أسهمها مقابل 85 مليون دولار في اكتتاب عام أولي في ديسمبر (كانون الأول).

«هناك عدد كبير جدا من الشركات التي تحتاج إلى رأسمال تماما كشركتنا، وليست لديها إمكانية الوصول إلى أسواق رأس المال في الولايات المتحدة»، هذا ما قاله روبرت ستوكمان، الرئيس التنفيذي لشركة «ريفا». وأضاف قائلا «الناس يبحثون عن أي خيار للبقاء على قيد الحياة، مثلما فعلنا تماما».

ويوضح مثال شركة «ريفا» أنه منذ نحو ثلاث سنوات من بدء الأزمة المالية، أصبحت الأسواق في الولايات المتحدة شبه مغلقة أمام الكثير من الشركات، الأمر الذي أدى بها إلى التحول إلى المستثمرين بالخارج. ونتيجة حرمانها من إدراج أسهمها في البورصة والاكتتاب فيها هنا، فإنها تحاول البحث عن مشترين مستعدين لشراء أسهمها في الأسواق الأجنبية.

واتبعت شركة واحدة تقريبا من بين كل 10 شركات أميركية طرحت أسهمها للاكتتاب العام الماضي الإجراء نفسه خارج الولايات المتحدة. فإلى جانب أستراليا، تحولت تلك الشركات إلى أسواق الأوراق المالية في بريطانيا وتايوان وكوريا الجنوبية وكندا، وفقا لبيانات من شركتي الاستشارات المالية «غرانت ثورنتون» و«ديلوجيك».

وتأتي الـ10 شركات التي طرحت أسهمها للاكتتاب العام بالخارج في 2010 – و75 شركة في الفترة من 2000 إلى 2009 – مقارنة بشركتين فقط من الولايات المتحدة اختارتا أسواق الأوراق المالية الأجنبية في الفترة من 1991 إلى 1999.

ويعكس هذا الاتجاه بكل تأكيد نظرة عالمية تجاه الأسهم، وذلك في ظل تضاؤل عدد الشركات المساهمة في الولايات المتحدة.

وقد انخفض عدد الشركات الأميركية التي تتداول أسهمها في أسواق الأوراق المالية الأجنبية من أكثر من 8.800 شركة أميركية في نهاية 1997، إلى نحو 5.100 شركة بنهاية 2009، وهو انخفاض بنسبة 40 في المائة، بحسب الاتحاد الدولي للبورصات العالمية.

ويأتي هذا الهبوط نتيجة لاندماج بعض الشركات أو خروجها من مجال العمل أو الاستحواذ عليها من قبل شركات الاستثمار الخاصة، في حين اختارت شركات صغيرة أخرى أن يتم بيعها لشركات أكبر بدلا من طرح أسهمها للاكتتاب العام.

وللتأكيد، فمع تحسن الاقتصاد وبدء استعادة المستثمرين الذين هزتهم الأزمة المالية ثقتهم بأنفسهم مجددا، ربما تفتح أسواق الأوراق المالية الأميركية أبوابها من جديد أمام الشركات التي تحاول طرح أسهمها للاكتتاب العام وربما تزداد عمليات إدراج الأسهم في قائمة أسعار الأسهم في البورصة.

وقد نجح موقع «لينكد إن»، موقع التواصل الاجتماعي للمتخصصين في الأعمال التجارية، في طرح أسهمه للاكتتاب العام الأولي الشهر الماضي في بورصة نيويورك، كما أعلن «غروبون»، موقع الشراء الاجتماعي، عن اعتزامه طرح أسهمه للاكتتاب العام في الولايات المتحدة.

غير أن هذه شركات كبرى تحظى بشعبية نظرا لعملها على شبكة الإنترنت. ويخشى المسؤولون التنفيذيون والمحللون من أن حدوث تحول هيكلي طويل الأجل في أسواق الأسهم الأميركية ربما يعني أن تلك الأسواق أصبحت مقصورة الآن فقط على مجموعات الشركات الأصغر حجما والأكثر انتشارا. وربما كان طرحها لأسهمها للاكتتاب العام في الولايات المتحدة فيما مضى أسهل. غير أنها لا تزال شركات خاصة في الوقت الحالي، أو يتعين عليها في الوقت الحاضر الترويج لنفسها بالخارج والاعتماد على المستثمرين الأجانب.

على سبيل المثال، بلغ إجمالي عدد عروض الاكتتاب العام الأولية من قبل الشركات الأميركية 119 عرضا فقط في الولايات المتحدة العام الماضي، وفقا لتقديرات شركة «ديلوجيك» - وهو معدل أعلى من المعدلات المتدنية في العامين الماضيين، ولكنه يمثل عددا أقل بكثير من عدد الشركات التي طرحت أسهمها للاكتتاب العام في فترة الذروة في 1996، والذي بلغ 756 شركة.

ونظرا لأن الشركات الصغيرة سريعة النمو مجبرة على الاتجاه للخارج لاكتساب مكانة بارزة وجذب مستثمرين، يخشى مسؤولون تنفيذيون ومحللون من احتمال أن تحول تركيزها الجغرافي، ونتيجة لذلك، فإن أي فرص عمل توفرها ستكون بالخارج.

وقال ديفيد ويلد، نائب رئيس بورصة «ناسداك» سابقا وأحد كبار المستشارين بشركة «غرانت ثورنتون»: «يتعين على جهات إصدار الأوراق المالية أن تسن أسنانها للاتجاه إلى أسواق الأوراق المالية بالخارج، من ثم، فإن أي نسبة كبيرة من عمليات الإدراج في قائمة أسعار الأسهم بأسواق الأوراق المالية بالخارج هي إشارة إلى أن أسواقنا باتت معادية للابتكار وخلق فرص العمل».

وثمة عوامل مختلفة تفسر قرار كل شركة بإدراج أسهمها في بورصة أجنبية، مثل ارتفاع التكاليف التنظيمية الخاصة بطرح الأسهم للاكتتاب العام في الولايات المتحدة. وتشير الشركات إلى أن تكاليف الاكتتاب والتكاليف القانونية وغيرها من التكاليف الأخرى عادة ما تكون أقل في الأسواق الأجنبية.

وتعتبر سوق الاستثمارات البديلة (إيه آي إم) جزءا من بورصة لندن والمخصصة لعمليات إدراج الأسهم الخاصة بالشركات الصغيرة، وجهة معروفة لبعض الشركات الأميركية. وتتراوح تكلفة الاكتتاب العام الأولي هناك ما بين 10 و12 في المائة من إجمالي رأس المال المجمع، مقارنة بنسبة 13 إلى 15 في المائة في بورصة «ناسداك»، على حد قول مارك ماكغوان المسؤول بشركة «إيه آي إم أدفيزرز»، التي تمد يد العون للشركات الأميركية الراغبة في إدراج أسهمها في سوق الاستثمارات البديلة.

فضلا عن ذلك، فإن التكلفة السنوية الإضافية للإبقاء على إدراج الأسهم في البورصة، التي تضم الالتزام بقواعد قانون «ساربينز أوكسلي»، يمكن أن تكون أعلى بكثير في الولايات المتحدة: تتراوح ما بين مليونين و3 ملايين دولار سنويا وفقا لحجم الشركة مقارنة بتكلفة أقل تقدر بنحو 320.000 دولار في سوق الاستثمارات البديلة أو تتراوح ما بين 100.000 و300.000 دولار في سوق مثل تايوان، بحسب مستشارين.

وهناك مخاوف من أن تجذب بعض أسواق الأوراق المالية الأجنبية الشركات نظرا لأن الرقابة عليها ربما تكون أقل صرامة. غير أن الشركات تؤكد صرامة المعايير التي تحكم هذه الأسواق.

وأشار سانجاي سوبهيدار، المدير العام لشركة «ستورم فينتشرز»، شركة رأسمال المخاطرة الكائنة في كاليفورنيا، إلى أن هناك عاملا أكثر أهمية من التكلفة، ألا وهو أن المستثمرين في الولايات المتحدة الذين عادة ما يشاركون في عروض الاكتتاب الأولي للأسهم والبنوك التي تضمن عروض الاكتتاب لم يعودوا مهتمين بعمليات بيع الأسهم من قبل شركات صغيرة.

وقال إن الشركات الاستثمارية، مثل صناديق الاستثمار المشتركة، ترغب في السيولة التي توفرها عروض الاكتتاب الأكبر التي تكون فيها وفرة في المشترين والبائعين، ويرغب ضامنو الاكتتاب في البنوك في التركيز على الأرباح الطائلة التي تتحقق من الصفقات الأضخم. وأصبحت واحدة من الشركات التي يستثمر فيها، وهي «إنتيغريتد ميموري لوجيك» (آي إم إل) في كامبيل بولاية كاليفورنيا، واحدة من أوائل الشركات غير التايوانية التي تدرج أسهمها في بورصة تايوان. ونظرا لكونها موردا للشرائح شبه الموصلة للكهرباء الخاصة بشاشات «إل سي دي»، حققت ربحا قيمته 40 مليون دولار، مع بيع حصة نسبتها 10 في المائة من أسهم الشركة، بعد أن غيرت البورصة قواعدها على نحو يسمح للشركات الأجنبية بالمشاركة. ومنذ أن طرحت أسهم شركة «إنتيغريتد ميموري لوجيك»، التي كان إجمالي قوتها العاملة 60 عاملا، للاكتتاب العام، زودت الولايات المتحدة بمجموعة إضافية من المهندسين، كما مدت أيضا شنغهاي وتايبيه وسيول في كوريا الجنوبية بـ40 موظفا.

وقال سوبهيدار: «نظرا لطبيعة الصناعة، فإن شركات صناديق الاستثمار وبنوك الاستثمار الضخمة لا ترغب في طرح اكتتاب عام تقل قيمته عن 100 مليون دولار». وأضاف: «وهذا يعني أنه ما لم يكن حجم الشركة في السوق 500 مليون دولار، لا يمكن بالفعل أن تطرح أسهمها للاكتتاب العام في الولايات المتحدة. وكنا في النطاق ما بين 250 و350 مليون دولار».

واكتشفت شركات أميركية أخرى مثل «هالو سورس» في سياتل، سببا آخر للاكتتاب في الخارج، وهو أن المستثمرين في الولايات المتحدة ربما لا يكونون مهتمين بالاستثمار في الشركات التي تبلغ إمكانات نموها أعلى مستوياتها بالخارج بقدر اهتمام المستثمرين الأجانب.

وتصنع شركة «هالو سورس» أجهزة تنقية المياه للاستخدام في حمامات السباحة والمنتجعات الأميركية، وأيضا في مياه الشرب في دول مثل الهند والصين والبرازيل. وفي العام الماضي، طرحت اكتتابا عاما أوليا بقيمة 80 مليون دولار في سوق الاستثمارات البديلة. ويتمثل أحد أسباب اختيارها لندن، وفقا لجيمس ثومبسون، المدير المالي للشركة، في أن المستثمرين هناك كانوا أكثر دعما لفرص النمو في الأسواق الناشئة. واستطرد قائلا «على الرغم من أن سوق الاستثمارات البديلة هي سوق رأسمال أصغر من بورصة نيويورك، فإن محور تركيزها أوسع نطاقا على المستوى العالمي».

وبالنسبة لبعض الشركات مثل «هالو سورس»، ربما يكون الاتجاه إلى أسواق الأوراق المالية الأجنبية خطوة ذات أهمية استراتيجية على المدى الأبعد، نظرا لأن نموها يتحول بعيدا عن أميركا إلى أسواق مثل الصين والهند. ويوجد أكبر موردي الشرائح شبه الموصلة للكهرباء لشركة «إنتيغريتد ميموري لوجيك» وأكبر عملائها في آسيا – ومن ثم، يرفع إدراجها في بورصة تايوان مكانتها في منطقة تعتبر بالفعل موطنا لمعظم شركائها من الشركات.

وترى شركة أخرى، وهي شركة «سامسونيت»، شركة حقائب السفر التي تأسست في دنفر في 1910، ولكنها حولت موقع شركتها إلى لوكسمبورغ في 2009، أن معظم نموها يأتي من آسيا. وتخطط لطرح اكتتاب عام بقيمة 1.5 مليار دولار في هونغ كونغ الأسبوع المقبل.

وستتأكد جاذبية إدراج الأسهم في إحدى أسواق الأوراق المالية الآسيوية بدرجة أكبر هذا الشهر بطرح شركة «برادا»، بيت الأزياء الإيطالي، أسهمها في اكتتاب عام يمكن أن يحقق لها أرباحا قيمتها 2.5 مليار دولار، في هونغ كونغ أيضا.

غير أنه في الوقت الذي تنظر فيه بعض الشركات إلى طرح أسهمها للاكتتاب العام في الخارج على أنه خطوة طويلة المدى، تنظر إليه شركات أخرى باعتباره خطوة مؤقتة، يمكن بعد مزيد من التوسع أن تؤدي إلى جذب المستثمرين إلى الوطن من جديد وإلى إدراج الشركات أسهمها في أكثر من بورصة داخل الولايات المتحدة.

وكان أحد أسباب اختيار «ريفا ميديكال» أستراليا هو نظام المستشفيات الخاص بالدولة الذي تعتزم استخدامه في تجاربها الإكلينيكية.

ويعتبر ستوكمان، الرئيس التنفيذي لشركة «ريفا ميديكال»، من ضمن أعضاء مجلس إدارة شركة أخرى، هي «هارت وير إنترناشيونال»، الكائنة في ماساتشوستس وفلوريدا، والتي طرحت أسهمها للاكتتاب العام في أستراليا في 2005، ثم أدرجت أسهمها في بورصة «ناسداك» في الولايات المتحدة في 2008.

وفي اكتتابها العام الأولي في أستراليا، باعت «ريفا» أسهما إلى مستثمرين من بريطانيا وأستراليا وهونغ كونغ، بالإضافة إلى أميركا.

وقال ستوكمان إن بنكي استثمار في «وول ستريت» أخبراه أنه لم يكن هناك اهتمام بطرح أسهم الشركة للاكتتاب العام في الولايات المتحدة. وبدلا من ذلك، وجد ضامن اكتتاب، شركة «إنتيك»، في أستراليا. وفي النهاية، بلغت تكلفة الإدراج في البورصة الأسترالية 7 ملايين دولار، وهي تقارب التكلفة التي ستتكبدها «ريفا» لإدراج أسهمها في الولايات المتحدة، على حد ذكره. وتمثلت أكبر التكاليف في وقت السفر ورحلات الطيران. واعترف ستوكمان بأنه سيفضل إدراج الأسهم في البورصة في الولايات المتحدة في المقام الأول، بعد كل رحلات السفر ذهابا وإيابا إلى أستراليا، ومعارض الترويج الهادفة لاجتذاب المستثمرين في آسيا والولايات المتحدة وأوروبا.

وقال: «أرى أنه سيكون من الأسهل أن نجري عمليات الاكتتاب داخل الولايات المتحدة. إنه طريق طويل».

* خدمة «نيويورك تايمز»