الاضطرابات السياسية تتسبب في هجرة 50 مليار دولار إلى مصارف عالمية

الأمين المساعد لمجلس التعاون لـ«الشرق الأوسط»: الاستقرار السياسي أنعش اقتصادات الخليج وجذب الاستثمارات الأجنبية

TT

قدرت مصادر اقتصادية حجم الأموال التي رحلت من مصارف الدول التي شهدت ثورات واحتجاجات بنحو 50 مليار دولار، وأن النسبة قد تزيد بسبب الانخفاض المستمر في العملات، وبخاصة في بعض الدول التي ما زالت الاحتجاجات فيها مستمرة، بالإضافة إلى الخشية من الملاحقات الأمنية لرجال الأعمال والقيادات الحكومية.

ويأتي ذلك في وقت أعلن فيه مسؤول رفيع في مجلس التعاون الخليجي لـ«الشرق الأوسط» عن انتعاش اقتصادي في معظم القطاعات وإقبال من قبل الاستثمار الأجنبي، وسيولة كبيرة في البنوك الخليجية، ويرجع السبب في ذلك إلى الاستقرار السياسي. وقال عدد من المستثمرين العرب ومن الهند وإسبانيا لـ«الشرق الأوسط»: «إن الاستثمار في الدول العربية التي شهدت اضطرابات سياسية تعتبر مخاطرة على المدى القريب الذي يتراوح ما بين عامين و5 أعوام، وأن كثيرا من المستثمرين لا يفضلون الدخول في الأسواق العربية التي شهدت اضطرابات سياسية، ويفضلون دول الخليج التي أسهم الاستقرار السياسي فيها إلى ضمان الاستثمار من قبل أصحاب رؤوس الأموال».

وأوضح عبد الله الرشود، الخبير الاقتصادي والمدير التنفيذي لـ«مجموعة تبارك المالية»، لـ«الشرق الأوسط» أن المعادلة الاقتصادية في أي دول تشهد مطالبات واحتجاجات سياسية تنعكس بشكل كبير على الاقتصاد وانخفاضه في جميع القطاعات، ولكن يمكن أن ينتعش الاقتصاد على المدى البعيد، وهذا مرهون بنجاح الثورة، وليس بالضرورة أن تنجح، على العكس في كثير من الثورات، فمعظم دول العالم لا تتناسب معها مطالب ثوراتها لتولي قيادات لا تفرض قرارات اقتصادية مناسبة مع فتراتها.

وأشار الرشود إلى أن «البنوك في دول كمصر وتونس وسوريا واليمن والبحرين قد خسرت ودائع تقدر بـ50 مليار دولار ورحلت إلى مصارف غربية، وهذا ليس بسبب الملاحقات الأمنية فقط، وإنما يرجع إلى انخفاض قيمة العملة في تلك البلدان رغم ما تحرص عليه حكوماتها من التحسن في قيمتها».

وقلل حازم البيلاوي، مستشار صندوق النقد العربي، من حجم الأموال المرحلة رغم وجود تقارير بنكية تؤكد انخفاض الاحتياط النقدي إلى ما بين 28 و38 مليار دولار فقط في مصر وحدها، لكنه أكد أن الوضع مؤقت، وبخاصة في مصر وتونس، نتيجة الدعم الذي توفره الحكومات الجديدة والمساعدات الدولية لها، وأن نقص الودائع في البنوك جعلها حاليا تفرض سياسات لا تتناسب مع الوضع الراهن من خلال التشدد في عمليات الإقراض، وهذا الأمر يؤثر على المستهلك والبنوك. وأضاف البيلاوي أن «مصر وتونس يعتبر وضعهما غير مقلق نظرا لأن ثورتيهما لم تكونا طويلتين وآثارهما قليلة مقارنة بالثورات الأخرى في بعض دول العالم، وهذا الأمر سيزول خلال الفترة المقبلة».

وحول إشكالية تضاعف نسبة البطالة مع استمرار الوضع الاقتصادي المنهار في دول الثورات، التي قامت على أيدي شباب يعانون من البطالة، والتي وصلت تقديراتها إلى 42 في المائة، قال مستشار صندوق النقد العربي: «المشكلة تكمن في انخفاض الإنتاج من السلع والخدمات في جميع المصانع وبنسبة كبيرة، الأمر الذي يؤدي إلى تسريح موظفين، ولكن الأمر مرهون بتعاون الأجهزة الحكومية في دعم الاقتصاد المحلي وتوفير فرص إضافية للعاطلين».

وبالعودة إلى عبد الله الرشود، الخبير الاقتصادي، توقع أن تتضاعف نسب البطالة بسبب توقف غالبية المجالات الاستثمارية وعدم وجود استثمارات أجنبية، حيث وصلت نسبتها إلى صفر، على حد قوله. وقال الرشود إن تعامل مصر وتونس مع الاستثمارات الأجنبية في مجالات الصناعة والسياحة وحل مشكلاتها ووضع ضمانات وتطمينات لأصحابها، وبخاصة من دول الخليج، من شأنه الإسهام في جلب استثمارات، والتعامل بجدية مع قرارات اقتصادية ناجحة تطلقها للقطاع الخاص مع وجود دعم من الحكومات العربية والعالمية.

من جهة أخرى قال الدكتور ناصر القعود، الأمين المساعد لمجلس التعاون الخليجي، لـ«الشرق الأوسط» إن الثورات في بعض الدول العربية خلقت انتعاشا في معظم القطاعات الاقتصادية في دول الخليج، وبخاصة من جانب السياحة وجلب الاستثمار الأجنبي ووجود العوائد المالية في المصارف.

وأضاف: «أسهم الاستقرار في الدول الخليجية في إعطاء ضمانات جيدة لأصحاب رؤوس الأموال، إلى جانب الحوافز والمبادرات الاستثمارية للمستثمر الأجنبي، وكذلك عودة أموال خليجية لرجال أعمال لا مصارف في بلدانهم».

وحول مصير الاستثمارات الخليجية في مصر وتونس، وبخاصة الاستثمارات التي دخلت في شراكات مع أقارب للرئيسين مبارك وزين العابدين، قال القعود: «هذه الأقاويل مبنية على افتراضات، ولكن الاستثمارات الخليجية تحظى باهتمام من الجهات ذات العلاقة، والخسائر بسيطة، وهي مؤقتة، والمستثمرون في الغالب ينظرون دائما إلى الأرباح على المدى المتوسط والطويل».

وأعلنت دول كبرى عن دعمها مصر وتونس لإنعاش الاقتصاد بعد الثورة في كل منهما، وأكد وزير الخارجية الفرنسي، ألان جوبيه، أن هناك التزاما قويا من جانب المجتمع الدولي لدعم الاقتصاد في كل من مصر وتونس.

وأشار الوزير في خبر تناقلته وكالات الأنباء الفرنسية إلى أن وزراء المالية والخارجية من مجموعة الـ8 يعملون من أجل وضع خطط عمل تتوافق مع أولويات مصر وتونس لحشد الموارد الكبيرة التي تم الإعلان عنها في قمة دوفيل، والتي تصل تقديراتها إلى 40 مليار دولار، بينما أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنه سيتم إسقاط مليار دولار من الدين المستحق لمصر على أميركا من خلال برنامج مبادلة ديون، لمساعدتها في نمو اقتصادي وخلق فرص عمل.

واعتبر برهان غليون، رئيس مركز الشرق في باريس، أن المساعدات الدولية والعربية العامل الأهم في ضمان نجاح الثورات والاحتجاجات السياسة، وبخاصة في الدول الفقيرة كاليمن، حيث تقع على عاتق الدول الخليجية الغنية بمواردها الطبيعية مهمة كبرى للمساعدة في تحسين الوضع الاقتصادي.

وأضاف كل بلد يوجد فيه احتجاجات له ظروفه الخاصة في كيفية الخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية، فبعض الدول تخرج من الثورات إلى الحروب الأهلية والاحتكام للطوائف والأعراق والمذاهب وغيرها، وهذا الأمر لم يحدث في ثورتي مصر وتونس، ولكن هذا الأمر مختلف في اليمن، وعلى دول الخليج دعم اليمن، لأن اليمن من دون الدعم الخليجي سيواجه كارثة.

وكانت السعودية قد تبرعت مؤخرا في الأسبوع الماضي لليمن بنحو 3 ملايين برميل من النفط الخام. ونقلت وكالة الأنباء اليمنية عن أمير العيدروس، وزير النفط اليمني، قوله: «الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود وجه بتقديم 3 ملايين برميل من النفط الخام هبة لليمن»، معتبرا ذلك داعما كبيرا للاقتصاد للإسهام في توفير احتياجات المواطنين وتخفيف معاناتهم جراء النقص الحاد من المشتقات النفطية الذي تواجهه البلاد في ظل الوضع الاستثنائي الذي يعيشه اليمن. وأضاف الوزير: «هذه الكمية التي تبلغ 3 ملايين برميل سيتم تكريرها في مصافي عدن لمعاودة نشاط المصافي».

كما اقترح الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، رئيس مجلس الوزراء القطري، إطلاق مبادرة استثمار جديدة تنشأ وتتطور ضمن حدود المنطقة ولمصلحتها، حيث تمول البنى التحتية طويلة الأجل والعمالة والمبادرات الإنسانية بموارد ذاتية ومن المجتمع الدولي، وأضاف: «تستند هذه المبادرة الجديدة على الخصائص الواضحة للمنطقة التي تتمثل في غناها بموارد الطاقة وبشريحة واسعة من الشباب والعمالة المتمكنة، فضلا عن مرونتها الاقتصادية في مواجهة الأزمة المالية العالمية».

وأكد وجود عدة أسباب تبرر الحاجة لإنشاء «بنك الشرق الأوسط للتنمية»، ومنها انعدام التنوع الاقتصادي، فضلا عن معدل البطالة العالي في قطاع الشباب، مما يعني استمرارية معدل النمو بدرجة أقل من الإمكانيات الضخمة المتاحة في المنطقة.

وكشف تقرير للبنك الدولي يتوقع فيه أن تتسارع وتيرة النشاط الاقتصادي في مصر وتونس خلال عام 2012، وأن يصل النمو إلى قرابة 5 في المائة في 2013، وأنه من بين الدول النامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستكون أضعف نسبة نمو في مصر وتونس وليبيا هذا العام.

واعتبر البنك الدولي أنه تم تجاوز الأزمة الاقتصادية في الدول الناشئة، إلا أنه أشار إلى التحديات التي تواجهها الدول النامية من الآن فصاعدا، والتي تتمثل في الحفاظ على نمو مستقر، وضبط التضخم.

يشار إلى أن مصر قد وضعت خطة للتمنية الاقتصادية كأول خطة بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك باستثمارات تصل إلى 233 مليار جنيه مصري، ونسبة نمو مستهدف قدرها 2.3 في المائة.

وتوقعت فايزة أبو النجا، وزيرة التخطيط والتعاون الدولي، تباطؤ معدل النمو الاقتصادي بنهاية العام الحالي إلى 2.5 في المائة واستمرار تباطؤ معدلات النمو خلال العام المقبل 2011 – 2012 ليصل إلى نحو 2.3.

واعتبر رجال أعمال أجانب وعرب الدخول في البلدان التي شهدت مؤخرا ثورات الاستثمارات فيها بمثابة المغامرة، وأن كثيرا من المستثمرين الراغبين في الدخول للأسواق العربية حولوا استثماراتهم من بلدان الثورات إلى دول الخليج العربي لرغبتهم في عدم التأجيل والاستفادة من الحوافز الاستثمارية مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة.

وقال رجل الأعمال الهندي إعجاز محمود خان، في اتصال هاتفي لـ«الشرق الأوسط»، إن اقتصادات دول كمصر وتونس غامضة خلال الفترة القصيرة، ويمكن أن تنتعش على المدى الطويل وتتضح معالمها والدراسات الاقتصادية للمشاريع المقدمة في تلك البلدان.

وأشار إلى أن «خيار مستثمري الهند حاليا في الشرق الأوسط هو دبي، بالدرجة الأولى، حيث يمثل الاستثمار السياسي والاقتصادي حافزا كبيرا للدخول بالاستثمار فيها لتكون بوابة للتوسع في البلدان المجاورة».

وشارك إعجاز خان الرأي محمد مظهر الزعيم، رجل الأعمال السوري الأصل الإسباني الجنسية، وحذر من مخاطر الدخول في الاستثمار خلال العامين المقبلين رغم أن الاستثمارات في مصر وتونس لم تشهد خسائر كبيرة ويمكن تعويضها مع الإنتاج في الفترات القادمة.

وأشار إلى أن «هناك مشاريع على علم بها تم تغيير الوجهة الاستثمارية لها من مشاريع صناعية وغيرها كانت قد أعدت دراسات لطرحها في مصر وتم تحويلها إلى دول مجلس التعاون الخليجي، من بينها مشروع صيني بتكلفة 60 مليون دولار لرغبة المستثمرين في الدخول بشكل عاجل الأسواق العربية».

وأرجع الزعيم زيادة إقبال المستثمرين الأجانب للخليج، وبخاصة في السعودية لرخص الأيدي العاملة ووجود قطاعات تدعمها الدول الخليجية وتطرح حوافز جيدة للمستثمرين وبالرجة الأولى الصناعية في مجالات البتروكيماويات.

أما رجل الأعمال اليمني نايل حميد الحطامي، فأكد أن الوضع في اليمن سيئ جدا من الناحية الاقتصادي، وأن هناك قطاعات متأثرة جدا رغم جهود الحكومة في دعم الاقتصاد وخصوصا تحسين العملة اليمنية، متوقعا أن الاقتصاد اليمني يحتاج إلى وقت للرجوع إلى استقرار، ولكن بعد أن يتم الاستقرار السياسي.

ولخص عبد العزيز الحاري، الاقتصادي وخبير الموارد البشرية، الحلول الاقتصادية في أن تسهم المؤسسات المالية في مصر وتونس من الجهاز المصرفي، وسوق الأوراق المالية، وغيرها من الشركات المالية.. في إعادة استراتيجيتها وأن تتوافق مع الوضع الراهن وبخاصة في طريق توظيف ودائعها وتوظيف استثماراتها، لتمويل مشاريع إنتاجية مدروسة بشكل صحيح، والتركيز بشكل كبير على تمويل حقيقي للمشاريع المتوسطة والصغيرة، وكذلك تحويل البورصة إلى بورصة للاستثمار لا للمضاربة، فتكبر فيها سوق الإصدار وتتضاءل سوق التداول، ويتم التوجه نحو الشفافية في التعاملات لجميع المتعاملين على حد سواء.

وطبعا قبل كل ذلك يجب إعادة تخصيص موارد الموازنة العامة، فينبغي أن يعاد فيها النظر ليكون التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، في أول مخصصات الميزانية، مع مكافحة الفساد والقضاء عليه من خلال إنشاء هيئات لمراقبة أداء الأجهزة الحكومية.

يذكر أن قطاع السياحة أكثر المجالات الاقتصادية تأثرا، وخصوصا في مصر وتونس، حيث تعتبر السياحة أهم رافد اقتصادي لهما، بينما تبين تقارير اقتصادية إقبالا كبيرا في الخليج في دبي ومسقط وعدد من المدن في غرب وجنوب السعودية.

وبحسب المعلومات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط»، فإن التأثير وصل إلى بلدان أخرى وبشكل غير مباشر، كالمغرب ولبنان والأردن والجزائر، نظرا لتنفيذ المستثمرين عمليات بيع بطرق عشوائية ولارتباط الأسواق العربية بعضها ببعض في كل المجالات، وخصوصا المجال السياحي. ويسعى وزراء السياحة العرب إلى عقد اجتماعات اضطرارية لبحث تعطل السياحة العربية في الدول المضطربة سياسيا، كمصر وتونس واليمن والبحرين، وتسببها في خسائر تقدر بـ3 مليارات دولار، وبطالة بنسبة 25 في المائة من القوى العاملة، وفقا لمصادر رفيعة المستوى.

مع منح ضمانات بنكية للمستثمرين الجدد في قطاع السياحة وتعويض المتضررين من رجال الأعمال عن الخسائر في الممتلكات جراء السرقات والحرائق في عدد من الفنادق والمنتجعات، وخصوصا في مصر وتونس، التي تمثل الاستثمارات العربية فيها 90 في المائة في مصر، و80 في المائة في تونس، بينما تتراوح الاستثمارات العربية ما بين 15 و40 في المائة في بقية البلدان.

وأعلنت المنظمة العربية للسياحة عن تضرر دول عربية أخرى لما تشهده من اضطرابات سياحية لارتباطها بالأسواق والسياحة العربية كالمغرب ولبنان وسوريا والأردن، الأمر الذي انعكس بشكل كبير على استمرار آلاف الفرص الوظيفية.