«وول ستريت» تتخوف من المستقبل وتجري عمليات خفض للإنفاق

وسط النمو الضعيف وانعكاسات ديون أوروبا والرهونات العقارية على الأرباح

TT

تخطط «وول ستريت» للانكماش هذا الصيف، ففي مواجهة أسواق ضعيفة وشكوك حول التنظيمات، تستعد الكثير من الشركات الكبرى لتقليص أعداد العاملين ونفقات أخرى بصورة كبيرة. وتأتي خطط تقليص الوظائف والنفقات على الرغم من أن مؤسسات «وول ستريت» تعافت في معظمها من الأزمة المالية وأعلنت تحقيقها أرباحا كبيرة من جديد. إلا أن هذه الأرباح ليست بالضخامة التي كانت عليها قبل الأزمة، ومن المتوقع أن تزداد صعوبة تحقيق الشركات لأرباح خلال الشهور المقبلة. والواضح أن المصارف تتحرك بهذا الاتجاه تحت وطأة المخاوف بشأن الديون في أوروبا والشكل النهائي لإصلاحات «دود - فرانك» للتنظيمات المالية، إضافة إلى نوبات الركود المعتادة في موسم الصيف.

عن ذلك، قالت غلين شور، المحللة لدى مصرف «نومورا» الاستثماري: «الوضع العام يسوده التوتر حاليا».

اللافت أنه حتى «غولدمان ساكس»، أكثر مؤسسات «وول ستريت» ربحية، يتحرك هو الآخر نحو التخندق. وخلص مسؤولون تنفيذيون رفيعو المستوى داخل «غولدمان ساكس» إلى أن المؤسسة بحاجة إلى تقليص نفقاتها بنسبة 10 في المائة، ما يعادل مليار دولار، على مدار الشهور الـ12 المقبلة، طبقا لما كشف عنه مصدر مطلع رفض الكشف عن هويته. وسيجبر هذا الإجراء موظفي «غولدمان ساكس»، الذين صدرت لهم بالفعل أوامر بتخفيض النفقات، على إعادة النظر في جميع جوانب النشاطات التجارية التي يتولون إدارتها.

وأوضح المصدر أن المؤسسة لم تحدد بعد أهدافا نهائية بخصوص إجراءات تسريح العمالة، لكن يبقى من المؤكد أنها ستقلص أعداد عامليها خلال الشهور القادمة. أما القرارات المرتبطة بالعلاوات فلن يبت فيها قبل شهور، والمؤكد أن التخفيض سينالها هي الأخرى حال فشل عجلة النشاط التجاري في الإسراع.

على الصعيد ذاته، يدرس «بنك أوف أميركا» حاليا نفقاته ومن المحتمل خلال الشهور القليلة القادمة أن يخفض عدد موظفيه بقسم الأوراق المالية، طبقا لمسؤول تنفيذي رفيع المستوى رفض الكشف عن هويته. وبالمثل، يعكف مصرف «كريديت سويس» على تحديد العاملين الذين سيستغنى عنهم داخل وحدة الاستثمار المصرفي، طبقا لمصدر مطلع على خطط المصرف.

أيضا، من المتوقع أن يتخذ «مورغان ستانلي» قرارا بتسريح 300 مضارب من ذوي الأداء المنخفض على الأقل من قسم إدارة الثروات خلال العام الجاري، وهو عدد يفوق التوقعات المبدئية للمؤسسة. كما أعلن «مورغان ستانلي» خططا لتقليص النفقات بمقدار مليار دولار على امتداد السنوات الثلاث المقبلة. إلا أنه على خلاف الحال مع الكثير من المؤسسات المنافسة، لم تقر المؤسسة خططا لتقليص العمالة من قسمي الصرافة الاستثمارية والتداول في البورصة، اللذين استعانا بالمئات من الموظفين الجدد خلال العامين الماضيين في إطار جهود إعادة البناء بعد الأزمة المالية.

الملاحظ أن بعض المؤسسات شرعت بالفعل في تنفيذ مثل هذا الإجراء، فمثلا في يناير (كانون الثاني)، سرح «باركليز كابيتال» 600 من العاملين لديه، أي ما يعادل أكثر من 2 في المائة من إجمالي العاملين لديه على مستوى العالم. وبرر المصرف الخطوة بتباطؤ عجلة النشاط الاقتصادي، واستغنى مؤخرا عن مزيد من العاملين لـ«أسباب تتعلق بالأداء»، حسبما كشف عنه مصدر مطلع رفض الإفصاح عن هويته. وتركز ثلث إجراءات التسريح التي أقرت في يناير داخل نيويورك.

من جانبهم، أعرب مسؤولون تنفيذيون بارزون بقطاع المصارف أن الإصلاحات التنظيمية الأخيرة أثرت على قرارات تسريح العمالة. ويعتقدون أن التنظيمات الجديدة دفعت بعض مصارف «وول ستريت» للانسحاب من بعض المجالات التجارية، مثل الملكية التجارية. ومن المحتمل أن تدفع القواعد التي تلزم المصارف بالاحتفاظ بقدر أكبر من رأس المال لإغلاق مجالات تجارية معينة في إطار سعيها لتوظيف رأس المال بفعالية أكبر في مجالات أخرى. وفيما يخص منتجات مثل المشتقات، ربما تفقد المصارف بعض عوائدها مع انتقال بعض المقايضات التي كانت تتم بمعزل عن الأسواق المفتوحة إلى داخل هذه الأسواق.

في الوقت الذي لا تزال فيه الكثير من القواعد المالية تجري صياغتها، قررت بعض المؤسسات أنه ليس بمقدورها الانتظار لفترة أطول. يذكر أن آخر إجراءات تسريح العمالة على نطاق واسع داخل «وول ستريت» كان مطلع عام 2009. خلال الربع الأول من ذلك العام، قلص «غولدمان ساكس» وحده أعداد العاملين بنسبة قاربت 9 في المائة. ومنذ ذلك الحين، ثبتت معظم المؤسسات على أعداد عامليها أو زادتها قليلا. إلا أن هذا الوضع سيتبدل هذا الصيف. ويمثل حجم إجراءات تسريح العمالة المؤقتة أنباء سيئة لاقتصاد مدينة نيويورك المعتمد بشدة على الصناعة المالية المزدهرة في الضرائب وبث النشاط في المطاعم. وتأتي هذه الإجراءات في وقت لا يزال فيه الاقتصاد الوطني يناضل لاستعادة كامل عافيته بعد الأزمة المالية التي ألمت به.

في الوقت ذاته، تستفيد «وول ستريت» من الازدهار في شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية والاكتتاب العام لشركات التكنولوجيا. وخلال الأسابيع الأخيرة، طرحت أسماء تجارية كبرى مثل «باندورا ميديا» و«لينكدين» أسهما للاكتتاب العام، وساعدت المصارف في دفع هذه الخطوات. حتى الآن خلال هذا العام، جنت الشركات 29.3 مليار دولار من وراء الاكتتاب العام، بزيادة تتجاوز 200 في المائة عن عام مضى. وطبقا للبيانات الصادرة عن «تومسون رويترز»، فإن العام الحالي في طريقه لحصد لقب أكثر الأعوام إدرارا للربح منذ ازدهار أسهم شركات التكنولوجيا عام 2000. والملاحظ أن الوضع العام للأرباح مستقر إلى حد ما بالنسبة إلى المؤسسات المتنوعة مثل «جيه بي مورغان ستانلي» و«بنك أوف أميركا» و«سيتي غروب»، التي تتميز بعمليات تجارية ضخمة بالمجال المصرفي بالتجزئة، بجانب نشاطاتها بمجال المضاربة والمبيعات. ولا يتوافر لدى «جيه بي مورغان ستانلي» خطط فورية لتقليل العاملين بمجال المضاربة، طبقا لما أفاد به مصدر مطلع رفض الكشف عن هويته. إلا أن المؤسسة تحاول تقليص نفقاتها بخلاف الرواتب والأجور.

ولا تزال مؤسسات مثل «بنك أوف أميركا» تتكبد ثمن خطايا الرهن العقاري الماضية، الأمر الذي أثر بالسلب على أرباحها بصورة عامة. في وقت سابق من العام، نحى «بنك أوف أميركا» جانبا تغطية نفقات طلبات التعويض المقدمة من مستثمرين خارجيين خسروا أموالهم ويرغبون في أن ترد لهم المؤسسة مليارات الدولارات المفقودة بسبب رهون «كنتري وايد فايننشال» الرديئة. ومن المتوقع أيضا أن يؤدي «تعديل ديربين»، وهو مقترح لفرض قيود على رسوم بطاقات السحب المباشر من الرصيد، إلى خفض الأرباح مع بدء سريانه الشهر المقبل. وبالنسبة إلى المؤسسات المعتمدة على المضاربة، يبدو واضحا حجم التباطؤ الذي ألم بحركة «وول ستريت»، حيث تراجعت العائدات على الأسهم، وهي حجم الأموال التي تجنيها الشركة من وراء أسهمها العادية وتعد مقياسا مهما للأداء المالي، بدرجة بالغة منذ الأزمة المالية. على مستوى الصناعة بوجه عام، بلغت العائدات على الأسهم 8.2 في المائة عام 2010، بانخفاض عن 17.5 في المائة عام 2005، طبقا لما أعلنه مصرف «نومورا». وهذا العام هناك سبب آخر يدفع «وول ستريت» للتحرك بسرعة نحو مزيد من إجراءات تسريح العمالة. عادة ما تدفع «وول ستريت» تقريبا نصف عائداتها في صورة رواتب وأجور، وغالبا ما تنتظر المؤسسات حتى أواخر الصيف قبل الإقدام على تقليص العمالة حتى تكون صورة الأرباح السنوية قد اتضحت. ومن المتوقع أن يأتي أحدث إجراءات خفض العمالة في وقت مبكر من ذلك هذا العام بسبب التغييرات الأخيرة في أسلوب دفع الرواتب للموظفين.

جرت العادة على أن يحصل موظفو «وول ستريت» على مكافآتهم السنوية في صورة علاوة يتقاضونها مرة واحدة نهاية العام. إلا أنه في أعقاب الأزمة الائتمانية، بدلت غالبية المؤسسات أسلوب دفع المكافآت للموظفين في محاولة لتثبيط الإقدام على المخاطرة المفرطة، حيث زادت المؤسسات من الرواتب الأساسية، بينما قلصت المكافآت المرتبطة بالأداء. وعليه، أصبحت المصارف تدفع مزيدا من الأجور والمكافآت خلال العام، الأمر الذي أجبرها على إعادة تقييم احتياجاتها المرتبطة بأعداد العاملين في وقت مبكر من العام لأن جزءا أكبر من نفقات الأجور والمكافآت الخاصة بها أصبح ثابتا الآن.

أيضا، تحاول المصارف تقليص نفقاتها بعيدا عن تلك المخصصة للأجور والمكافآت، وتتطلع نحو سبل لإقرار تخفيضات ضخمة. من جانبه، يرمي «غولدمان ساكس» نحو تقليص النفقات بخلاف الأجور والمكافآت بمقدار مليار دولار خلال هذا العام، وهو هدف كبير حسب تقدير محللين. وسيوفر المصرف نفقات بصورة فورية وكبيرة نتيجة تراجع حجم المضاربات.

يذكر أن مؤسسات المضاربة تدفع رسوما مقابل المضاربة، ومن الممكن أن يوفر انحسار عمليات المضاربة سنويا قرابة 200 مليون دولار لـ«غولدمان ساكس» وحده، حسب تقدير أحد المحللين.

* خدمة «نيويورك تايمز»