هل تصبح لندن مدينة للأثرياء فقط؟

في أعقاب سحب الدعم الحكومي للفقراء وغلاء الإيجارات

أحياء العاصمة البريطانية ستخلو من محدودي الدخل في السنوات المقبلة («واشنطن بوست»)
TT

يعد حي «سانت جونز وود» من الأحياء الراقية في لندن بشوارعه المزدهرة بالأشجار المورقة والمصطف على جانبيها منزل بول مكارتني وإيوان ماكريغور وكيت موس. لكن المفاجئ أن لهم جيرانا مثل عائلة كاستراتي. ويحاول المهاجرون الفقراء الصمود في أكثر المدن ارتفاعا في مستوى المعيشة. وتتكون هذه الأسرة من أربعة أفراد يعيشون في شقة من حجرتين تدخلها أشعة الشمس في أحد الأحياء الراقية. وتتكفل الحكومة البريطانية بدفع 85 في المائة من الإيجار الشهري للوحدة السكنية والذي يقدر بـ3600 دولار من خلال دعم تقدمه لآلاف من محدودي الدخل حتى يستطيعوا الإقامة في أفضل الأحياء السكنية، لكن يبدو أن زمن دعم السكن في لندن قد أوشك على الانتهاء.

لقد بدأت الحكومة التي يقودها المحافظون لأول مرة تطبيق أكبر برنامج إصلاح منذ أربعينات القرن الماضي. ويستهدف هذا البرنامج خفض النفقات المتضخمة في مدن مثل لندن، حيث تحصل القليل من الأسر على 160 ألف دولار سنويا وذلك من أجل ضمان التنوع الاقتصادي وتوفير مساكن جيدة للفقراء في بعض الأحياء الراقية. لكن مع انخفاض الدعم يحذر الأكاديميون من أثر جانبي خطير هو إقصاء عدد كبير من الفقراء لم تشهده لندن منذ هدم العشوائيات التي صورها ديكنز في رواياته في القرن التاسع عشر عن وسط لندن.

ويعد هذا التغير في سكان لندن من أوضح الأمثلة على المحاولة الجادة لخفض العجز في أنحاء أوروبا والتي يدور جدل حولها في واشنطن حاليا. على هذا الجانب من المحيط الأطلسي تعمل الدول التي تعاني من عجز في السيولة النقدية من اليونان إلى آيرلندا، والتي غرقت في الديون في أعقاب الكساد الكبير، على خفض ميزانية برامج الرعاية الاجتماعية، حيث لم يعد باستطاعتهم تحمل تلك التكاليف.

ويقول منتقدو هذا التوجه إن برامج الإصلاح قد تؤدي إلى حالة من الاستقطاب الطبقي في مدينة يبلغ تعداد سكانها 8.6 مليون نسمة، مما يؤدي في النهاية إلى تقسيم المدينة إلى جيتوهات على النسق الأميركي. يقول الخبراء إنه على مدى السنوات الأربع القادمة من المرجح أن تُضطر 82 ألف أسرة فقيرة إلى الانتقال من شقق ذات إيجار مرتفع في وسط لندن إلى شقق ذات إيجارات أقل على أطراف المدينة أو أبعد من ذلك. وتوضح دراسة أجرتها جامعة كمبريدج أنه بحلول عام 2016 ستبلغ نسبة ساكني أحياء لندن من محدودي الدخل 36 في المائة فقط بعد أن كانت 75 في المائة عام 2010. وتقول هيلين دينت، الرئيس التنفيذي لمؤسسة «فاميلي أكشن» الخيرية ومقرها لندن: «ستنتقل الأسر من السكن في وسط لندن إلى ضواحيها. ومع ارتفاع الإيجارات ربما يضطرون إلى الانتقال إلى أبعد من هذا. سيغير هذا طبيعة لندن».

وندد روان ويليامز، كبير أساقفة كنيسة كانتربري، بالإصلاحات ووصفها بـ«تقسيم اجتماعي للمناطق» من شأنه أن يدفع الفقراء إلى خارج لندن، بينما وصفها بوريس جونسون، عمدة لندن بـ«التطهير الاجتماعي على غرار كوسوفو». ورغم تراجعه عن هذه التصريحات بعدما أثارت استهجان زملائه من حزب المحافظين، تظل المقارنة محزنة لبشبيجتيم كاستراتي البالغ من العمر 25 عاما، والذي هربت أسرته من كوسوفو إلى لندن في التسعينات. يقول إنه وزوجته وابنتيه ربما ينضمون إلى طبقة اللاجئين في لندن قريبا، فقد استلموا إخطارا يفيد بضرورة العثور على منزل آخر في يناير (كانون الثاني)، حيث سيتم خفض الدعم على الإيجار الشهري من 3100 دولار إلى 1660 دولارا. وليس أمام كاستراتي الذي يعمل نادلا في فندق ويتقاضى 800 دولار شهريا سوى الانتقال إلى حي تكون إيجارات المساكن به أقل أو إلى مسكن مؤقت في ملاجئ المشردين نتيجة لارتفاع الإيجارات في حي سانت جونز وود الراقي الواقع ضمن التقسيم الإداري لمدينة لندن مثل ويستمنيستر آبي وبيغ بين.

ويقول وهو يحمل ابنته الصغيرة ذات الأربعة أعوام التي كان من المقرر أن تلتحق بصف الحضانة في مدرسة سانت جونز وود الخريف المقبل: «إنهم لا يريدون سوى الأثرياء هنا».

مدينة التناقضات

* توجد أغلى شقة في العالم فوق مبنى فخم مصنوع من المعدن والزجاج في جنوب شرق هايد بارك بمدينة لندن. وكان عبق عارضات الزهور الاستوائية النفّاذ يفوح في مدخل المبنى ذي الأبواب الزجاجية الضخمة التي لا تصدر أي صوت عند انفتاحها أمام السكان والضيوف الأثرياء. تم بيع شقة في الطابق العلوي مساحتها 30 ألف قدم مربع في مبنى مكون من ثلاثة طوابق في وان هايد بارك مقابل 216 مليون دولار. وأسقف الشقة مزودة بنظام تبريد إلكتروني للتحكم في درجة حرارة جو الشقة. وتم استجلاب رخام الحمامات من 15 دولة مختلفة.

وبيعت الشقة التي في الطابق الأدنى مقابل 108 ملايين دولار. وتتكون من خمس غرف وتقدم لنا نوعا جديدا من سكان مدينة لندن الذين ينتمون إلى طبقة من الأثرياء من مختلف الجنسيات الذين يتحدث أكثرهم الروسية أو الصينية أو العربية كلغة أولى لا الإنجليزية. مساحة الغرفة الرئيسية التي تبلغ 1500 قدم مربع أكبر من مساحة منازل كثيرة في لندن. لم يكن مثل ذلك المبنى موجودا منذ عشر سنوات على حد قول سيمون واكر، الوكيل العقاري لهذا المبنى. وأضاف: «لقد أصبحت لندن الآن مركزا عالميا لذوي الدخول المرتفعة».

بعد سنوات من ابتعاد سكانها عنها بدأت لندن تشهد نهضة منذ نهاية الثمانينات مع منافستها لمدينة نيويورك كمركز مالي عالمي. ومع العالمية التي اكتسبتها المدينة وارتفاع مستوى المعيشة بها، ازدادت تكلفة الإقامة في بعض الأحياء التي كانت يوما مركزا للطبقة العاملة مثل تشيلسي ونوتينغ هيل، بحيث أصبحت حلما بعيد المنال بالنسبة إلى ساكني لندن من الطبقة المتوسطة.

ورغم انخفاض الأسعار قليلا خلال الأزمة المالية، عاودت الإيجارات بشكل خاص الارتفاع بقوة بعد ذلك، حيث وصل متوسط الإيجار الشهري لوحدة سكنية في وسط لندن إلى 6400 دولار، حيث ارتفع بنسبة 19 في المائة العام الماضي فقط. باستثناء بعض الأحياء مثل حي مايفير، تضم أكثر أحياء وسط لندن خليطا من مختلف الطبقات، بينما تقع الأحياء الفقيرة على أطراف المدينة. كيف يمكن للفقراء أن يعيشوا وسط هذا الثراء؟ الإجابة بالنسبة إلى مئات الآلاف من سكان لندن هي برامج الرعاية الاجتماعية.

هناك 823 ألف وحدة سكنية في أنحاء لندن، إيجارات أكثرها منخفض للغاية. لكن في ظل وجود 326 ألف أسرة على قائمة الانتظار، على أي شخص يتقدم بطلب للحصول على دعم الإيجار أن ينتظر عشر سنوات. ويقول الخبراء إنه ربما يستمر هذا السخاء بحلول ذلك الوقت. سيفرض إجراء جديد تتخذه الحكومة تحديد إيجارات مرتفعة لكل الوحدات السكنية الحكومية التي تبنى في بريطانيا.

لكن نتيجة لطول قائمة الانتظار حصلت الأسر محدودة الدخل على بطاقة ذهبية منذ نهاية الثمانينات، تسمح لهم بالإقامة في شقق ومنازل خاصة تتكفل الدولة بدفع الجزء الأكبر من إيجارها. ووصل عدد الأسر التي تطلب الحصول على هذا الدعم إلى 150 ألفا في لندن، و1.6 مليون في الأنحاء الأخرى من البلاد، مما أدى إلى زيادة الدعم الحكومي لإيجارات الوحدات السكنية بنسبة 50 في المائة على مدى السنوات العشر الماضية بحيث وصل إلى 34.4 مليار دولار بحسب قول مسؤولين. وتسعى الحكومة إلى خفض هذا المبلغ بنسبة 11 في المائة على الأقل.

إنها فقط بداية لإعادة صياغة برامج الرعاية الاجتماعية، حيث سيتم تجميع كل المزايا والدعم بدءا من دعم السكن وصولا إلى إعانة البطالة بحلول عام 2013 تحت مظلة «نظام ائتماني عالمي» بقيمة 41 ألف دولار سنويا أو بمتوسط أجر العامل البريطاني.

مع ارتفاع تكلفة دعم الإيجارات في بعض أحياء لندن، الذي فاق إجمالي دعم الإيجارات في كل مدن لندن، ومن ضمنها مانشستر وبرمنغهام، سيتم تركيز خفض الدعم على المساكن التي توجد في لندن.

وطبقا لدراسة أجراها مركز لندن البحثي للتضمين الاجتماعي والاقتصادي الذي لا يهدف إلى الربح والذي يتناول القضايا الاجتماعية، واحد من بين كل أبوين في لندن سيواجهون خفضا للدعم على الإيجارات يقدر بنحو 8 آلاف دولار سنويا.

ولتبرير الحكومة موقفها سلطت الضوء على بعض الأمثلة المبالغ بها، فعلى سبيل المثال أشير إلى حالة أُم عزباء لثمانية أطفال تقيم في فيلا في نوتينغ هيل يقدر ثمنها بـ4.1 مليون دولار تتكفل الحكومة بدفع إيجار شهري لها قدره 10200 دولار. لكن سلّط كثيرون الضوء على حالات معتدلة مثل حالة كستراتيس الذي يعيش في شقة ذات أرضية خشبية بها جهاز تلفزيون بشاشة مسطحة في حي لا يمكن أن يقيم فيه الأغلبية الساحقة من البريطانيين لولا المعونة التي تقدمها الدولة.

يقول اللورد ديفيد أنطوني فرويد، وزير برنامج الرعاية الاجتماعية في الحكومة البريطانية وحفيد سيغموند فرويد: «إنها قضية نفسية معقدة. القضية هي التوقعات التي تغرسها الدولة في الشعب. علينا أن نخفض من سقف التوقعات».

واعترض فرويد على تحذير المنتقدين من تهميش الفقراء واصفا إياهم بـ«مروجي الرعب»، لكنه أقرّ باضطرار بعض سكان لندن إلى الانتقال من منازلهم، حيث قال: «لا أعتقد أن الناس الذين سيُضطرون إلى ترك المكان الذي يحب الأثرياء الروس الإقامة به، سوف يشعرون بالسوء». لكن يقول المنتقدون إن الكثير ممن يتلقون دعما يناضلون من أجل الصمود في مدينة يزيد ثراؤها من هذا الأمر صعوبة يوما بعد الآخر.

علينا الانتقال

* حتى في عالم الغرباء وهو كامدن ماركيت، تبرز أسرة راين كنجم ساطع. هنا في قلب المشهد القوطي في لندن تقودنا الأم لويزا، وهي فنانة كادحة ذات شعر فيروزي لامع، ووراءها ابنتها جورجيا وهي في الصف السادس ترتدي فستانا ذا كشكشة وتضع حلقة لامعة برّاقة في أنفها. ويرتدي كيفر، وهو في الصف الثالث، ملابس فريق ليفربول وقرطا من الكريستال.

تعيش هذه الأسرة منذ عام 2010 في شقة مكونة من ثلاث غرف في حي إيزلنغتون، وهو الحي الذي قضت فيه لويز راين طفولتها في منازل الدولة. تلتزم الدولة بدفع إيجار شقة لويز وزوجها، الذي أصيب مؤخرا بانهيار عصبي بسبب الإجهاد الزائد في العمل، والذي يبلغ 2800 دولار. وقد تلقيا إخطارا يفيد بأن دعم الإيجار الذي سيقدم إليهم في يناير القادم هو 2173 دولارا. وقالت لويز: «لا يكفي دخلنا دفع الإيجار في هذه الحالة. لذا سيتعين علينا الانتقال إلى منزل آخر». وأخذت لويز تتصفح إعلانات العقارات، لكن ارتفع إيجار الشقة التي كان من الممكن تحمل تكلفة إيجارها في حي في لندن خلال فترة الستينات والسبعينات كثيرا هذه الأيام. من الذين سيضطرون إلى الانتقال إلى منزل آخر توني وتشيري بلير، اللذان انتقلا إلى هذا الحي في التسعينات. ويبلغ متوسط إيجار الشقة المكونة من ثلاث غرف في هذا الحي 3530 دولارا شهريا.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»