قطار الاستثمار الألماني يتجه شرقا.. هربا من ضعف منطقة اليورو

حصة آسيا من الصادرات الألمانية ارتفعت من 12 إلى 16%

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مع فريقها الاقتصادي («الشرق الأوسط»)
TT

كثيرا ما كانت ألمانيا قلب ومركز الاقتصاد الأوروبي، لكن أوروبا لم تعد كذلك بالنسبة إلى ألمانيا كما كان في الماضي. في الوقت الذي تعاني فيه أجزاء كثيرة من أوروبا من التراجع الاقتصادي وتبذل جهدا جهيدا للتأقلم مع أزمة الدين، تنفق ألمانيا أموالها وتبذل طاقتها خارج منطقة اليورو لدفع نموها القوي نحو الاستمرار. ويمكن لهذا التحول، الذي لا يزال في مراحله المبكرة، أن يؤدي إلى عواقب اقتصادية وسياسية كبيرة لأنه يحدث في وقت حرج تعوّل فيه باقي الدول الأوروبية على ألمانيا في استمرار لعب دورها التقليدي كقوة دافعة للاقتصاد الأوروبي.

بدلا من أن تقيم الشركات الألمانية استثماراتها في دول مثل فرنسا وإيطاليا، تخصص جزءا من أموالها لإقامة استثمارات في دول مثل بولندا وروسيا والبرازيل والصين، التي تعد أكبر سوق لسيارة «فولكس فاغن»، ويمكن أن تصبح كذلك بالنسبة لسيارات «مرسيدس» و«بي إم دابليو». وتسير الحكومة الألمانية على هذا النهج، حيث تخصص المزيد من الموارد الدبلوماسية للشركاء التجاريين المتزايدين، وبخاصة الصين، حيث اصطحب رئيس وزرائها، وين جياباو، معه 13 وزيرا و300 مدير خلال زيارته للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الشهر الماضي. واصطحب الرئيس الروسي، ديمتري ميدفيديف، معه وفدا مماثلا خلال زيارته يوم الاثنين الماضي إلى هانوفر من أجل إجراء الاستشارات الألمانية - الروسية السنوية. وكان ضمن هذا الوفد ألكسندر ميدفيديف، نائب الرئيس التنفيذي لشركة «غازبروم».

وقد أدى هذا التحول في التوجه الاقتصادي بالفعل إلى عواقب كبيرة داخل أوروبا. ومع تراجع اعتماد ألمانيا على أسواق منطقة اليورو، هناك مؤشرات توضح اتخاذها موقفا أكثر صرامة تجاه شركاء حليفين لها مثل اليونان وإيطاليا والبرتغال، مما يزيد من الضغوط التي تهدد بالفعل الوحدة الأوروبية. ويقول كيفين فيزرستون، خبير السياسة الأوروبية في كلية لندن للاقتصاد: «إن هذا يدعم اتجاه ألمانيا الذي شاهدناه خلال السنوات القليلة الماضية نحو التركيز بقدر أكبر على مصالحها عوضا عن التضحية من أجل المصلحة الأوروبية. لن تتخلى ألمانيا عن أوروبا، لكنها تشعر بالإحباط».

تتماشى السياسة الألمانية مع مؤسسات الأعمال الألمانية مثل شركة «فريزينيوس» التي تعمل في مجال الرعاية الصحية في باد هامبورغ بالقرب من فرانكفورت. حققت الشركة العام الماضي زيادة في المبيعات بآسيا نسبتها 20 في المائة، حيث وصلت المبيعات إلى 1.3 مليار يورو بما يعادل 1.8 مليار دولار، بينما بلغ حجم مبيعاتها في أوروبا 6.5 مليار يورو بزيادة نسبتها 8 في المائة. وقال مارك شنايدر، الرئيس التنفيذي لشركة «فريزينيوس»، إنه توقع استمرار هذا، مشيرا إلى أن الصين كانت تحاول إنشاء نظام رعاية صحية عالمي يضمن توفير الغسيل الكلوي والعلاج عن طريق الحقن للمواطنين، وهو من ضمن ما توفره الشركة.

بالطبع تظل ألمانيا مرتبطة بمنطقة اليورو، التي لا تزال المصدر الأكبر للتجارة إلى حد بعيد. لكن من الواضح أن نصيب أوروبا الغربية من الكعكة الألمانية يتضاءل في ظل تركيز الشركات على إقامة استثمارات في الأسواق الأكثر حيوية. يقول مارك ليرميت، أحد الشركاء في شركة الاستشارات «إرنست آند يانغ»: «لا أظن أن باستطاعتي وصف ألمانيا بأنها لا تزال القوة الدافعة لأوروبا، بل محرك». وكان ليرميت أحد المشاركين في دراسة أجرتها الشركة في مايو (أيار)، التي بحثت في توجهات الاستثمارات حول العالم.

وتراجعت حصة منطقة اليورو من الصادرات الألمانية خلال العام الماضي إلى 41 في المائة بعد أن كانت 43 في المائة عام 2008، بينما ارتفعت نسبة حصة آسيا من 12 إلى 16 في المائة طبقا لأرقام مصرف «بانديس بنك». خلال الفترة نفسها، وازدادت الصادرات إلى آسيا بمقدار 28 مليار يورو، بينما انخفضت الصادرات إلى منطقة اليورو بالقدر نفسه. وتعد «فريزينيوس» من الشركات الكثيرة التي توضح هذا التوجه. ولا تزال استثمارات الشركة في أوروبا الغربية في تزايد، على حد قول شنايدر، لكن لا يزداد إنفاق رأس المال والتوظيف بالقدر الذي نراه في الأسواق الناشئة. هناك مؤشرات تؤكد أن رخاء ألمانيا لم يعد يساعد باقي الدول الأوروبية كما كان في السنوات القليلة الماضية. على العكس من ذلك، تتراجع باقي الدول الأوروبية، خصوصا تلك التي توجد في النصف الجنوبي في ظل محاولة الاتحاد الأوروبي التعامل مع أزمة الديون السيادية. لم يعد الاقتصاد الإيطالي على سبيل المثال في نطاق اهتمام ألمانيا.

يقول جينس سونديرغارد، خبير الاقتصاد في «نومورا» بلندن: «لقد اعتادت إيطاليا إنتاج الكثير من السلع التي تغذي الماكينة الألمانية الصناعية. لكن جزءا كبيرا من الصناعة الألمانية يتجه إلى أوروبا الشرقية أو أماكن أخرى حيث التكاليف أقل والشركات القادرة على الوصول إلى مستوى الجودة الإيطالية». رغم قوة الاقتصاد الألماني، انخفضت الصادرات الإيطالية إلى ألمانيا بمقدار 3.2 مليار يورو عام 2010 مقارنة بعام 2008. ويقول سونديرغارد: «هذا أمر سيئ بالنسبة إلى إيطاليا».

الأماكن التي تنفق فيها ألمانيا أموالها من الأمور الهامة بالنسبة إلى اقتصاد منطقة اليورو التي يبلغ عدد دولها 17 دولة. وتمثل ألمانيا نحو ثلث صادرات منطقة اليورو. كذلك لدى ألمانيا فائض تجاري حتى هذا العام، بينما تعاني فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ودول المنطقة ككل من عجز كبير في الميزان التجاري. بالنظر إلى عقود من التكامل الاقتصادي الأوروبي، صدّرت الشركات الألمانية الكثير من السلع إلى فرنسا العام الماضي أكثر مما صدرته إلى الصين، حيث بلغت قيمة صادراتها إلى فرنسا 91 مليار يورو في مقابل 54 مليار يورو للصين. لكن الفجوة تقل سريعا، حيث ارتفعت قيمة الصادرات الألمانية إلى الصين بنسبة 44 في المائة عام 2010 مقارنة بزيادة قدرها 12 في المائة لفرنسا. وتوقع وين، رئيس الوزراء الصيني، خلال زيارته إلى برلين الشهر الماضي أن يتضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال الـ5 سنوات المقبلة.

والجدير بالذكر أن المصانع الألمانية زادت عام 2009 من استثماراتها في الصين للمرة الأولى، حيث بلغت 11.6 مليار يورو بزيادة نسبتها 50 في المائة مقارنة بعام 2006، عن استثماراتها في فرنسا التي بدأ يقل جذبها هي وإيطاليا وإسبانيا للاستثمارات ألمانية مقارنة بالسنوات الماضية. ويتضح هذا التحول الجوهري في مصانع شركة «ترمف» في مدينة ديتزينجين بالقرب من شتوتغارت. منذ وقت ليس بالطويل كانت الشركة تعد من مجموعة شركات «ميتيلستاند» المتوسطة للأعمال الهندسية التي تعتبر من دعائم الاقتصاد الألماني. لكن هذه الأيام أصبحت شركة «ترمف» قوة دافعة عالمية.

من بداية متواضعة خلال فترة ما قبل الحرب العالمية، أصبحت شركة «ترمف» التي تعمل في مجال صناعة السيارات، والتي تستخدم الليزر في العمل على المعادن، كيانا هائلا يعمل به نحو ألفي شخص في ديتزينجين و6 آلاف في أماكن أخرى من العالم. هذا دون النظر إلى آلة جز العشب التي تزمجر خارج المبنى الإداري والتي تعد إشارة على ندرة العمل في جنوب غربي ألمانيا، التي تقل نسبة البطالة بها عن 5 في المائة.

هناك عدة أسباب لتطور شركة «ترمف» من ورشة صغيرة إلى شركة متعددة الجنسيات، لكن تمثل الصين أهم تلك الأسباب. مثلما هو الحال بالنسبة إلى شركات ألمانية أخرى، عوضت المبيعات في الصين وأسواق الدول النامية الأخرى التراجع في أسواق الصادرات التقليدية في أعقاب فترة الركود الاقتصادي عام 2009. ويقول ماتياس كامولر، أحد أعضاء مجلس إدارة الشركة ورئيس قسم الماكينات في الشركة: «من المتوقع أن تصبح الصين أكبر سوق لنا خلال فترة تتراوح من 3 إلى 5 سنوات». وفي عام 2009 افتتحت الشركة مصنعا على مساحة 15 ألف متر مربع أو ما يعادل 160 ألف قدم مربع في تايكانغ بالقرب من شنغهاي. وقبل مرور عامين على ذلك، ضاق المكان على الشركة وقامت بعمل توسعات على مساحة 10 آلاف متر مربع. ويوجد الكثير من الشركات من جنوب غربي ألمانيا في هذه المنطقة التي تعرف باسم منطقة شفابيا الصغيرة التي توجد في ألمانيا. وقامت شركة «ترمف» بتوظيف نحو 450 في الصين، أي أكثر من نصف العمال لديها في منطقة دول اليورو خارج ألمانيا التي ظلت نسبة العمالة بها ثابتة. تقول نيكولا لايبنر كامولر، رئيسة شركة «ترمف» وزوجة كامولر: «نحن لا ننتج في الصين لخفض التكلفة أو التصدير إلى أوروبا، بل ننتج من أجل السوق الصينية».

وليست شركة «ترمف» وحدها في هذا المضمار، حيث تعد الصين إلى حد ما أكبر سوق لصناعة الماكينات الهامة، حيث يجهز أصحاب المصانع في الخارج مصانعهم بتكنولوجيا الدقة من بافاريا أو وادي الرور.

ويوضح نجاح الصادرات الألمانية في الأسواق الناشئة قدرة رجال الصناعة على إدخال صناعات تحتاجها الدول المتجهة نحو التحديث مثل القطارات ومصانع الصلب والأجهزة الإلكترونية وخطوط التجميع.

من جانبه يقول هاينريش ويس، الرئيس التنفيذي لمجموعة شركات «إس إم إس غروب» في دوسلدورف التي تعمل في بناء وتجهيز مصانع المعادن والألمونيوم: «توجد أحدث مصانعنا في روسيا والصين والهند. إن أوروبا الغربية والولايات المتحدة هادئة للغاية». وهناك نموذج آخر لشركة ازدهرت مع نهضة الأسواق الناشئة وهي شركة «مالتيفاك» التي مقرها في ولفيرتشويندين، بجنوب ألمانيا. وتسعى الشركة لصناعة ماكينات تعبئة سلع قابلة للفساد التي توجد فقط في دول يمكن أن يتم الحفاظ على درجة برودة السلع خلال الرحلة من المصنع إلى أرفف المتاجر. لذا؛ تعد «مالتيفاك» مؤشرا لتقدم القوة الإلكترونية التي يمكن الاعتماد عليها وارتفاع الدخول. وقال هانز جواكيم بوجستيغرس، رئيس الشركة، إنه أمضى 150 يوما بعيدا عن دياره العام الماضي في زيارة أسواق دول مثل أذربيجان وتشيلي وتركيا. ويقول جواكيم إن لديه الكثير من الأعمال في أوروبا وحتى في اليونان، حيث أوضح قائلا: «يحتاج الناس دائما إلى الطعام. لكن ليس هذا هو حيث يوجد النمو». ويضيف: «نصيحتي أن لا يعتمد الجميع على السوق الأوروبية ويتوسع خارجها».

وحتى داخل أوروبا، هناك تحول من الغرب إلى الشرق مع تركيز رجال الصناعة الألمان على الاستثمار في دول مثل المجر وسلوفاكيا. هذا التحول الألماني تجاه أسواق الدول النامية ليس وليد اللحظة، لكنه ازداد بعد التراجع الاقتصادي عام 2009 عندما تعافى الاقتصاد الآسيوي بسرعة أكبر من أوروبا والولايات المتحدة. وتقول نيكولا كامولر: «استمرت الأزمة المالية في الصين لنصف عام فقط وأعقبها نمو كبير». يبدو أن تراجع اعتماد ألمانيا على اقتصاد منطقة اليورو سمح لميركل بقدر أكبر من الحرية في مواجهة حلفائها الأوروبيين والتصادم معهم. فعلى سبيل المثال تصادمت مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في ما يتعلق ببعض القضايا مثل اليونان وليبيا. وعندما تم انتخاب ميركل للمرة الأولى كمستشارة لألمانيا عام 2005، كانت نادرا ما تدعو مسؤولين تنفيذيين من ألمانيا لمصاحبتها في رحلاتها إلى الصين أو روسيا أو أي بلد آخر، من أجل ذلك. لكنها الآن تترأس رحلات إلى الخارج، خصوصا إلى آسيا. وفي نهاية شهر مايو (أيار) قامت برحلة مدتها 3 أيام إلى الهند وسنغافورة واصطحبت معها وفدا من كبار المسؤولين التنفيذيين.

واستغلت ميركل نفوذها في فتح الأبواب أمام المؤسسات التجارية وساعدت الشركات في التعامل مع مخاطر أسواق الدول النامية التي تعد أكبر من أوروبا. وحث مديرو المؤسسات ميركل على انتقاد ضعف الحماية من سرقة حقوق الملكية الفكرية في الصين، وقد التزمت بذلك. في أحد الاجتماعات مع مسؤولين تنفيذيين من ألمانيا والصين، تساءلت ميركل عما إذا كان تم تقليد قطع غيار موديل جديد من السيارة «فولكس فاغن»، لكن ميركل ليست فقط ممثلة لرجال الأعمال الألمان، حيث أزعجت المسؤولين التنفيذيين بانتقادها لانتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها الصين. غضب المديرون الألمان منها بعد أن قابلت الدلاي لاما، الزعيم الروحي لإقليم التبت المنفي، عام 2007. ورغم تهديدات السلطات الصينية، لم يكن هناك تأثير عظيم على التجارة، لكن من الواضح أن ميركل لم تقل الكثير عن التبت مؤخرا.

يحذر بعض المحللين من تركيز ألمانيا كثيرا على أسواق الدول النامية، في إشارة إلى أن هذا قد يعرضها إلى صدمة في حال تباطؤ الاقتصاد الصيني. وتحاول الصين اكتساب خبرة في مجال السيارات والماكينات وتسعى إلى أن تصبح منافسا ومستهلكا في الوقت ذاته. ويدرك رجال الأعمال هذه المخاطرة، لكن لا تزال نيكولا تصر على القول: «يعد عدم الوجود هناك مخاطرة أكبر».

* خدمة «نيويورك تايمز»