هل يتجه الاقتصاد الأميركي نحو الركود الثاني؟

خيارات قليلة متاحة أمام بنك الاحتياط لتحفيز النمو

تزايد القلق والشك خلال الأيام القليلة الماضية، بعد قرار «ستاندرد آند بورز» في خفض تصنيف الولايات المتحدة الائتماني (أ.ف.ب)
TT

يعتقد مصرف غولدمان ساكس، أكبر المصارف الاستثمارية، أن هنالك فرصة 33% أن يدخل الاقتصاد الأميركي مرحلة الركود خلال الشهور الستة المقبلة. ويستند غولدمان ساكس والكثير من المصارف العاملة في الأسواق الأميركية على عدة أسباب، ويقولون إن هنالك خيارات قليلة متاحة أمام الرئيس أوباما ومجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) يمكن فعلها لإنقاذ الاقتصاد من الدخول في مرحلة الركود الثاني. ومن بين النقاط التي ترشح دخول الاقتصاد الأميركي مرحلة الركود.

أولا: خفض مجلس الاحتياط الفائدة إلى قرابة الصفر، وبالتالي ليس لديه خيار لخفض الفائدة أقل من مستواها الحالي 0.1%.

ثانيا: نفذ مجلس الاحتياط الفيدرالي عمليتي تحفيز للاقتصاد تحت مسمى «التيسر الكمي»، ضخ بموجبهما أكثر من ثلاثة تريليونات دولار في الاقتصاد عبر شراء السندات المتعثرة.

ثالثا: يواجه الاقتصاد الأميركي مرحلة زيادة في الإنفاق، بسبب فاتورة الإعانات الاجتماعية المتزايدة، حيث بلغ عدد الذين يحصلون على الإعانة 41.8 مليون مواطن، كما أن فاتورة خدمة الدين سترتفع من مستواها الحالي البالغ 250 مليار دولار، لأن الدين العام الأميركي ارتفع من 64.4 كنسبة من الناتج المحلي إلى ما يقارب الآن 100%. ومن المعتقد أن يصل إلى 150% خلال عام 2015.

رابعا: انخفاض دخل الدولة من الضرائب لعدة أسباب، أهمها تزايد معدل البطالة، حيث بلغ معدل البطالة في أميركا 9.6%. وهذا أكبر معدل منذ الكساد الكبير في الثلاثينات، كما تواصل الشركات المالية خفض الإنفاق عبر تقليص الوظائف.

إذا ما دخل الاقتصاد إلى مرحلة الكساد، كما يحذر الكثير من الاقتصاديين في الوقت الراهن، فقد يكون أشد وطأة عما كان عليه في المرة الأولى. ونتيجة للاضطراب الذي شهدته البلاد خلال الكساد الكبير، ربما يكون ذلك صعب التصديق. لكن الاقتصاد أضعف مما كان عليه في بداية الكساد الماضي الذي بدأ في ديسمبر (كانون الأول) 2007، حيث باتت أبرز تدابير التعافي الاقتصادي - التي تشمل الوظائف والدخل والناتج والإنتاج الصناعي - اليوم أسوأ عما كانت عليه من قبل. وكان النمو من الضعف بحيث إنه لم يتمكن من استعادة عافيته السابقة على الرغم من بدء الانتعاشة من الناحية التقنية في يونيو (حزيران) من عام 2009.

ويقول كونراد ديكوادروس، الاقتصادي البارز في «آر دي كيو إكونوميكس»: «إذا دخلنا كسادا آخر في هذه المرحلة فسيكون كارثيا، فنحن لم نتمكن من التغلب بشكل كامل على الكساد السابق». عندما أصاب الركود الماضي الولايات المتحدة تركت فقاعة الائتمان الكثير من الأميركيين مجبرين على خفض النفقات، لكنّ ركودا آخر قد يدفع الأسر الأميركية إلى خفض المزيد من الإنفاق. ما زاد الأوضاع سوءا هو أن صانعي السياسة استخدموا غالبية الأدوات الاقتصادية التي في متناول أيديهم لمحاربة الركود الأخير، ولم يتبقَّ لهم سوى عدد محدود من الخيارات.

أضف إلى ذلك تزايد القلق والشك خلال الأيام القليلة الماضية، بعد قرار «ستاندرد آند بورز» في خفض تصنيف الولايات المتحدة الائتماني ومواصلة أوروبا لمحاولاتها اليائسة التعافي من أزمة الديون التي تلاحقها.

وقد اعترف الرئيس أوباما بالتحدي الذي تواجهه بلاده في كلمته التي ألقاها عبر الإذاعة والإنترنت يوم السبت، عندما قال إن الولايات المتحدة تقف أمام مهمة ملحة لتوسعة الاقتصاد الآن وخلق فرص عمل. أما تيموثي غيتنر وزير الخزانة فأكد في مقابلة مع قناة «سي إن بي سي» يوم الأحد على أن الولايات المتحدة لديها الكثير مما ينبغي القيام به بسبب موقفها المالي غير المدعوم وبعيد المدى. لكنه أضاف: «لدى ثقة كبيرة في عودة القدرة المتجددة للاقتصاد والشعب الأميركي»، بيد أن الأرقام لا تزال مخيفة، فخلال أربع سنوات منذ بداية الكساد ارتفعت نسبة السكان في سن العمل بنسبة 3 في المائة. وإذا كان الاقتصاد صحيا فيفترض أن تزيد أعداد الوظائف بنفس القدر على الأقل. غير أن أعداد الوظائف أخذت في التقلص بدلا عن ذلك، حيث انخفضت نسبة الوظائف في الاقتصاد اليوم بنسبة 5 في المائة - أو 6.8 مليون - عما كانت عليه قبل بداية الكساد الأخير. وكان معدل البطالة حينها 5 في المائة مقارنة بـ9.1 في المائة اليوم.

وعلى الرغم من أن الأميركيين الذين يعملون عادة ما يكونون من الطبقة العاملة، فإن عامل القطاع الخاص النموذجي تراجعت ساعات العمل عنده عنه قبل أربع سنوات.

من ناحية أخرى قام أصحاب الأعمال بالتخلي عن نوبات العمل الإضافية وتسريح أكبر قدر ممكن من الموظفين الضعفاء خلال الكساد الأخير. وكما هو واضح من المكاسب الإنتاجية القوية غير المعتادة، تقوم الشركات الآن بالحصول على أكبر قدر ممكن من العمل من موظفيها الجدد. لكن لم يتضح بعد حجم العمالة التي ستتخلى عنها الشركات في الوقت الذي تواصل فيه عملية التصنيع إذا ما عاد الركود.

مع تراجع الوظائف وساعات العمل يتراجع دخل الأسر الأميركية، وهو ما يخلق عقبة كبيرة أمام الاقتصاد القائم على الاستهلاك. ولضبط التضخم انخفض الدخل الشخصي بنسبة 4 في المائة، ناهيك بالإعانات الحكومية مثل إعانات البطالة. مستويات الدخل منخفضة للغاية والتحرك في الاتجاه الخاطئ، فقد انخفضت الأجور والرواتب في يونيو الماضي، التي توافرت البيانات الخاصة بها.

عادة ما يقود إنفاق المستهلك، إلى جانب الإسكان، الانتعاش. لكن الدخل ضعيف للغاية إلى درجة أنه يقف عند الحد الذي كان عليه في بداية الكساد، وإذا ما كان الاقتصاد صحيا فسوف يكون الإنفاق الإجمالي على الاستهلاك أعلى بسبب نمو السكان. ومع التوقف شبه التام لعمليات الإنشاء وانخفاض أسعار المنازل بنسبة 24 في المائة منذ ديسمبر 2007 لا تملك الدولة حاجزا يحمي صناعة الإسكان من الانهيار.

نتيجة لذلك وصلت كل المؤشرات الاقتصادية الرئيسية والإنتاج الصناعي - كما تعقبه المصرف الاحتياطي الفيدرالي - إلى مرحلة بالغة السوء، فمؤشر الاحتياطي الفيدرالي لهذا النشاط ينخفض بنسبة 8 في المائة عن مستواه في ديسمبر 2007.

وربما الأكثر إثارة للقلق الإنتاج الإجمالي للبلاد، فبحسب البيانات الصادرة حديثا عن وزارة التجارة فإن الاقتصاد بات الآن أصغر مما كان عليه في وقت بداية الكساد، نتيجة للنمو البطيء خلال العامين الماضيين.

ولو أن الاقتصاد صحيح لكان الإنتاج أكبر مما كان عليه قبل أربع سنوات، ويشير الاقتصاديون إلى الاختلاف بين ما عليه الاقتصاد الآن عما يمكن أن يكون عليه إذا ما استغل كامل قدراته بـ«فجوة الإنتاج». ويقدر منزي تشين، أستاذ الاقتصاد في جامعة ويسكنسون، أن الاقتصاد كان أقل بنحو 7 في المائة من مقوماته في بداية العام.

وعلى عكس ما كان عليه خلال الركود الأول سيكون هناك قليل من الحلول السياسية المتوافرة إذا ما عاد الاقتصاد مرة أخرى. إذ لا يمكن خفض معدل الفائدة لأنها تقف في الوقت الراهن عند صفر، وقد غمر المصرف المركزي الأسواق المالية بالأموال عبر عمليات بالمليارات لسندات الرهن العقاري وسندات الخزانة، ولا يعتقد الاقتصاديون بقدرة عمليات الشراء تلك على مساعدة الاقتصاد. لذا فقد لا يشهد المصرف المركزي مزيدا من التراجع خلال جولة أخرى مثيرة للجدل من عمليات الشراء.

ويقول تورستن سلوك، الاقتصادي الدولي البارز في دويتشه بنك: «كان هناك الكثير من الفرص التي يمكن من خلالها للمصرف الفيدرالي صنع الأعاجيب»، فالكونغرس الأميركي كانت لديه مساحة للتحرك - ماليا وسياسيا - لبدء خطة تحفيز مالية خلال الكساد الأخير، لكن بنهاية عام 2007 كان الدين الفيدرالي 64.4 في المائة من الاقتصاد، وتشير التقديرات إلى وصوله اليوم ما يقرب من 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة لم نشهدها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، والفرصة ضعيفة أمام المشرعين للتوصل إلى إجماع حول خطة تحفيز إضافية تزيد الدين.

ويقول نيغل غولت، الاقتصاد الأميركي الأول في «اي اتش اس غلوبال انسايت»: «لا توجد سابقة معهودة، في فترة ما بعد الحرب، لما حدث عندما سقط الاقتصاد الذي تخطت نسبة البطالة فيه 9 في المائة في الركود. السابقة الوحيدة التي قد يراها البعض هي عام 1937، حيث سحبت الحوافز الاقتصادية بصورة سابقة لأوانها وسقط الاقتصاد في كساد ثانٍ أكثر إيلاما من الأول»، بيد أن هناك على الأقل عامل واحد قادر على جعل الركود الثاني أخف وطأة من الأول، يتمثل في أرباح الشركات، فأرباح الشركات وصلت إلى ارتفاعات قياسية ومعدلة للتضخم لترتفع بنسبة 22 في المائة في الربع الأول من العام الحالي أكثر مما كانت عليه في الربع الأخير من عام 2007.

الشكوك بشأن مستقبل الاقتصاد ما يدفع الشركات للتردد بشأن القيام بخطوات استثمارية كبرى مثل التوظيف، ونتيجة لذلك تكتنز الشركات الكثير من الأموال. وعلى الرغم من أن ذلك قد لا يكون مصدر راحة كبير بالنسبة لـ13.9 مليون عامل عاطل عن العمل، إلا أنها قد تكون كذلك بالنسبة لنظرائهم العاملين.

ويقول نيل سوس، الاقتصاد البارز في «كريدت سويسي»: «خلال الأزمة المالية عندما تجمدت حركة الأسواق كانت الاستجابة الأولى (أنا لدي بعض النقد)، وكانت أسرع طريقة للحصول على الأموال الاستغناء عن العمال، وقد كان ذلك السبب في أننا شهدنا حالات كبيرة من تسريح العمال».

وأشار إلى أن الاحتياطي النقدي للشركات اليوم يمكن أن يعمل بمثابة حاجز لتسريح العمال إذا ما انخفض الطلب. ويقول سوس: «هناك تأكيدات على أن كسادا آخر سيكون أشد وطأة، وهناك تأكيدات تشير إلى خلاف ذلك. لم يتضح ذلك في المرحلة الراهنة. لكنه سؤال لا ترغب في الإجابة عليه».