في أميركا.. الشيوعية للأثرياء والرأسمالية للفقراء

«احتلوا وول ستريت» تعيد مشاهد مظاهرات السبعينات ضد حرب فيتنام

TT

هل تطبق أميركا مبدأ الشيوعية على الأثرياء والرأسمالية على الفقراء؟ سؤال ساخر ولكنه منطقي أثارته حركة «احتلوا وول ستريت» التي تهدد الحركة التجارية في سوق المال الأميركية، وامتدت إلى أكثر من 80 مدينة داخل أميركا وخارجها، كما كسبت أعضاء مشهورين ومن أبناء المليارديرات وعلى رأسهم ابن الملياردير وارن بيفت. الحركة تتهم الأداء الاقتصادي والسياسي في أميركا بأنه يتناقض مع المبادئ الديمقراطية والرأسمالية. العالم الأميركي هاري براون، أحد كبار المناصرين ويخطط لترشيح نفسه للانتخابات الأميركية، يقول إن أميركا ليست دولة ديمقراطية، ولكنها جمهورية تحكم سريا من قبل مجموعة من أصحاب المصالح. ويقول في تصريحات نقلتها أجهزة الإعلام الأميركية حول تصرف الكونغرس حيال أزمة الدين العام التي تمر بها أميركا: «في الديمقراطية الحقيقية يأمر الشعب الكونغرس بإلغاء الإعفاءات الضريبية على الأثرياء وإلغاء خطط إنقاذ البنوك بدلا من رفع سقف الدين». ولكن هل هنالك منطق يدعم حجة أن أميركا تطبق المبادئ الشيوعية على الأثرياء والمبادئ الديمقراطية على الفقراء؟

بقراءة بسيطة للتاريخ الاقتصادي السياسي يكتشف أي محلل أن ما طبقته أميركا وحليفاتها في المعسكر الغربي أثناء الأزمة المالية يخالف المعايير الرأسمالية. التاريخ السياسي الاقتصادي الحديث للرأسمالية أسس له الاقتصادي الفيلسوف آدم سميث في كتابه «ثورة الأمم»، الذي ظهر إبان الثورة الصناعية 1776، ثم تلاه ديفيد ريكاردو وجون ستيورات، وهي مدرسة دعت إلى ترك العرض والطلب يتصارع بحرية كاملة دون تدخل الدولة لإنشاء السوق الحرة، وتقصر النظرية دور الدولة على التشريعات القانونية وبناء المناخ الذي يضمن حرية السوق دون تدخل. ثم جاء الاقتصادي جون مينيارد كينغ بعد الحرب العالمية، وتحديدا في العشرينات من القرن الماضي، الذي لطف الوجه الاجتماعي للرأسمالية، ودعا إلى تدخل الدولة في السوق عبر الإنفاق لتحريك السوق وقوى الإنتاج لتوفير الوظائف. حدث ذلك على أيام الكساد الذي ضرب العالم بعد الحرب العالمية الأولى التي خرجت منها الكثير من دول أوروبا مفلسة. وأخيرا تطورت «مدرسة كينز» في الستينات لترسي معايير دولة الرفاه في أوروبا، لتسد الباب بذلك على مخاطر امتداد الشيوعية التي انتشرت بدعاوى تمليك الأرباح ووسائل الإنتاج للشعب. مبادئ «دولة الرفاه» القائمة على العدل والمساواة وتوفير سقف أدنى للمعيشة لكل مواطن، منحت العمال مزايا أكبر من تلك التي تعد بها الشيوعية في روسيا. وفي أميركا نشأت مدرسة شيكاغو في الستينات وسيطرت على الفلسفة الاقتصادية الأميركية، وهي مدرسة دعت إلى ترك قوى السوق تأخذ مجراها دون تدخل الدولة، ولكن ثبت أن قوى السوق وحدها قادت إلى إفلاسات وكوارث مالية كادت أن تعصف بالنظام المالي العالمي، لولا تدخل الدولة.

يقول بعض أنصار حركة «احتلوا وول ستريت»، إن الدولة تدخلت لحماية الشركات برأس مال الشعب، ولم تتدخل لحماية المواطن الذي فقد عمله، ويقولون ما كان للدولة أن تتدخل إذا كانت فعلا تطبق الرأسمالية. من يتابع تطورات الأزمة المالية العالمية التي تفجرت في عام 2008، يلاحظ أن الإدارة الأميركية صرفت المال العام وأنفقت بسخاء لإنقاذ المصارف الأميركية من الإفلاس على الرغم من أنها تسببت في أزمة المال العالمية، أي أنها أنفقت المال العام على إنقاذ البنوك والشركات المالية التي يملكها الأثرياء، بدلا من ترك قوانين السوق الحرة تأخذ مجراها، أي بمعنى ترك الشركات التي غامرت بالأموال في المضاربات لتفلس، وهذه سنة السوق الحرة في كل مرحلة من مراحلها، يحدث فشل يعقبه نجاح في صراع قوى السوق والعرض والطلب، ولكن الإدارة الأميركية تعتقد أنها بإنقاذها لشركات «وول ستريت»، بما ضخته من أموال، قد خدمت الفقراء، لأن هذه الشركات هي التي توفر الوظائف للفقراء، ولكن الشركات المالية الأميركية أخذت التريليونات التي ضخها الاحتياط الفيدرالي «البنك المركزي الأميركي» وتاجرت بها في الأسواق الناشئة خارج أميركا، وضاربت بها على السلع، دون أن تعطي اعتبارا لاحتياجات النمو الاقتصادي في أميركا وتوفير الوظائف.

ولكن كيف طبقت الإدارة الأميركية مبدأ الرأسمالية على الفقراء؟ يقول أنصار الحركة إن الإدارة الأميركية التي تنفق المال العام بسخاء لإنقاذ شركات «وول ستريت»، خلافا لمبدأ السوق الحرة، تقول للمواطنين العاطلين عن العمل اذهبوا وابحثوا عن عمل في السوق الحرة، لأن مبدأنا قائم على أن الدولة لا توفر الوظائف للمواطن، وإنما الشركات هي التي توفر الوظائف. وهي بهذا المنطق تطبق المبدأ الرأسمالي على الشعب، حيث تطالبه بالذهاب للسوق، وهو ما لم تفعله مع الشركات حينما تعرضت للإفلاس.

ولكن في مقابل هذا المنطق البسيط، فإن ما حدث في أميركا في أعقاب الأزمة المالية وظروف السوق العالمية أصبحت أعمق بكثير من هذا المنطق، وإن الحركة تمثل عدم قناعة في الشارع الأميركي بجدوى معالجات الإدارة للأزمة المالية. في هذا الصدد يلاحظ اقتصاديون أن الشركات الأميركية الكبرى أو ما يطلق عليها المتعددة الجنسيات لم تعد شركات وطنية تهتم بالمواطن الأميركي والمصلحة الأميركية، مثلما كان الحال في العقود الماضية، باتت هذه الشركات تهتم بالربحية والأسواق أينما وجدت، ولا يهمها حال الاقتصاد الأميركي أو المواطن على الرغم من أنه أنقذها من الإفلاس من جيبه عبر أموال الضرائب. والسؤال الذي يطرحه المتظاهرون في «وول ستريت» لا يختلف كثيرا عن السؤال ذاته الذي طرحه كبار الاقتصاديين في أميركا، ألا وهو لماذا فشلت سياسة التحفيز في خلق الوظائف وإنعاش الاقتصاد على الرغم من أنها ضخت قرابة ثلاثة تريليونات دولار في البنوك والشركات الكبرى عبر شراء سندات الديون والأصول الفاسدة؟ وكانت الإجابة واحدة وهي أن الشركات الكبرى، وعلى رأسها المصارف، لم تمرر مئات المليارات التي حصلت عليها من الإدارة الأميركية على المواطن الأميركي والأعمال التجارية الصغيرة والمتوسطة، التي عادة ما تقوم بتوفير الحصة الأكبر من الوظائف، ولم تقف عند هذا الحد، بل إن المصارف الأميركية رفضت إقراض الكثير من القطاعات الصناعية والتجارية التي واجهت أزمات مالية أجبرتها على إلغاء الكثير من الوظائف، ولكن الأدهى من ذلك والأمر أن المصارف الأميركية أخذت أموال التحفيز التي حصلت عليها بالمجان من مصرف الاحتياط الفيدرالي «البنك المركزي الأميركي» لتستثمرها خارج الولايات المتحدة وتتاجر بها في الأسواق الآسيوية وأسواق الدول الناشئة الأخرى، دون اعتبار لحقيقة أن هذه الأموال دفعت في المقام الأول والأخير لإخراج الاقتصاد من الكساد إلى الانتعاش، وتوفير فرص الوظائف للمواطن الأميركي وليس للمواطن في آسيا أو دول أميركا اللاتينية. بهذا المنطق يعتقد الكثير من خبراء المال والاقتصاد أن خطة التحفيز الشجاعة والضخمة التي نفذها «بنك الاحتياط الفيدرالي»، خطة ناجحة من حيث المبدأ، وأن أسباب الفشل ترجع إلى سياسة البنوك التجارية أو شركات «وول ستريت».

بهذا المنطق الساخر تعيد حركة «احتلوا وول ستريت»، من حيث عدم القناعة الشعبية بأداء المؤسسة الحاكمة في واشنطن، إلى الأذهان المسرح السياسي الأميركي في حقبة السبعينات، حينما انتشرت المظاهرات السياسية ضد إدارة الرئيس نيكسون لحرب فيتنام التي أنهكت الاقتصاد الأميركي، وأجبرت الدولار على الخروج من ارتباط سعر صرفه بـ«معيار الذهب». في ذلك الوقت اتهمت السلطات الأميركية الشيوعية العالمية بتأليب المتظاهرين، وأغلبهم من الشباب وطلاب الجامعات. وعندما انجلى الغبار اتضح أن حسابات الإدارة الأميركية كانت خاطئة في فيتنام، وأن مكاسب الحرب لم ترق إلى حجم الخسائر، وأن الطلاب والمتظاهرين ليسوا شيوعيين وإنما مواطنين شرفاء عملوا على تصحيح مسار السياسة الأميركية. والآن يبدو أن المسرح الاحتجاجي، وإن اختلف من حيث القضايا والأطروحات، فهو كذلك يدعو إلى تصحيح مسار الأداء الاقتصادي والسياسي في واشنطن.