باحث في «بنك السودان المركزي» يحذر: السودان أمام أزمة مالية جديدة

قبيل إعداد أول ميزانية للبلاد بعد انفصال دولة الجنوب

د. مصطفى عبد الله
TT

يستعد السودان هذه الأيام لصياغة أول موازنة بعد الانفصال، وهي موازنة تواجه تحديات كبيرة، تتمثل في كيفية تحقيق الاستقرار الاقتصادي بتخفيض معدلات التضخم والمحافظة على استقرار سعر الصرف.

وفي هذا الإطار، أكد مسؤول في بنك السودان المركزي أن هناك جهودا مقدرة بذلت من أجل توفير التمويل المصرفي لسلع إحلال الواردات الرئيسية الأربعة، التي تشمل القمح والدقيق، والسكر، والأدوية، وزيوت الطعام، ومن المتوقع أن يسهم توفير السلع المذكورة أعلاه في تخفيض الضغوط التضخمية من ناحية، وتقليل الطلب على النقد الأجنبي من ناحية أخرى.

وقال الدكتور مصطفى محمد عبد الله، كبير الباحثين ببنك السودان المركزي، لـ«الشرق الأوسط»: «إن البنك المركزي يستهدف ترقية صادرات السلع الرئيسية الأربعة وهي الذهب، منتجات الثروة الحيوانية، الصمغ، القطن، وتم فتح خطوط تمويل خارجية، وكذلك إنشاء محافظ وصناديق تمويلية محلية من أجل توسيع قاعدة الإنتاج المحلية».

وكان السودان قد انفصل في التاسع من يوليو (تموز) الماضي، وذلك بعد حقبة من التاريخ استمرت قرونا عدة، حيث نشأت جمهورية السودان الجنوبي، تنفيذا لاتفاقية السلام التي أفضت نتيجة الاستفتاء فيها إلى الانفصال.

وأشار الدكتور مصطفى إلى توجه البنك المركزي ليشجع دخول المصارف في هذه الصناديق بعدد من المحفزات ستصدر في إطار السياسة التمويلية الجديدة، مبينا أن البنك المركزي يسعى أيضا إلى توفير التمويل للفقراء النشطين اقتصاديا، عن طريق تشجيع التمويل الأصغر.

وعن رأيه في ما يتعلق باتجاهات الاقتصاد العالمي وشركاء التجارة الخارجية للسودان، أكد الباحث عبد الله أن الاقتصاد العالمي يواجه تحديات متواصلة للتعافي من الآثار السالبة من الأزمة المالية العالمية، إلى جانب بعض القضايا في بعض البلدان، مثل تدني معدلات تشغيل العمالة، وارتفاع المديونية، وهشاشة القطاع المالي، ويمكن أن تقود إلى أزمة مالية جديدة إذا لم تتخذ التدابير اللازمة.

وأوضح أن مستوى الثقة في اقتصاديات أوروبا انخفض بعد تأزم مشكلة الديون الأوروبية، تزامنا مع تخفيض وكالة التصنيف العالمية «ستاندرد آند بورز» للتصنيف الائتماني لإيطاليا، الذي برأيه أشعل مجددا مخاوف تفشي عدوى مشكلات الدين في باقي الدول الأوروبية، إضافة إلى ظهور مؤشرات تشير إلى تباطؤ الاقتصاد الصيني والألماني، في الوقت الذي تأثرت فيه كل الأسواق العالمية بنشوء التضخم الدولي حاليا.

وفي ما يتعلق بانعكاسات هذا الوضع على شركاء التجارة الخارجية للسودان، أوضح الباحث الاقتصادي، أنه ارتفعت معدلات التضخم لهؤلاء الشركاء في شهر أغسطس (آب) 2011م، مصر 8.5 في المائة، كوريا 4.3 في المائة، منطقة اليورو 3 في المائة. وأما التضخم لبقية الشركاء: الصين 6.2 في المائة، الهند 8.99 في المائة، الإمارات العربية 1.9 في المائة، اليابان 0.20 في المائة، السعودية 4.74 في المائة.

وأضاف أن انتقال التضخم المستورد يؤدي إلى ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج المستوردة، مبينا أنه في حالة اتخاذ ضغوط سعر الصرف المباشرة في الاعتبار، فإنه يتوقع أن تؤدي إلى زيادة أسعار السلع والخدمات المحلية، في الوقت الذي سجل فيه التضخم المستورد ارتفاعا بلغ 20.1 في الاعتبار في سبتمبر (أيلول) 2011، مقارنة بـ17.4 في الاعتبار في أغسطس 2011م، ساهمت فيه كل من أسعار الأغذية المستوردة، مواد البناء، الأدوية والكيماويات، ومدخلات الإنتاج المتأثرة بارتفاع سعر الصرف.

وأشار إلى أن التضخم المستورد ساهم بشكل كبير في زيادة التضخم الأساسي؛ لأن أغلب الأغذية والمشروبات يتم استيرادها من الخارج، ويرجع ذلك إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة في السوق العالمية من ناحية، وارتفاع سعر الصرف من ناحية أخرى، ويتوقع أن تصبح ضغوط سعر الصرف المصدر الأساسي لارتفاع معدلات التضخم، وهذا برأيه يمثل تحديا كبيرا لواضعي السياسات، يستوجب معه ضبط الطلب على النقد الأجنبي، وزيادة المتحصلات عبر حزمة متناسقة من الإجراءات لكبح جماح التضخم.

ووفق عبد الله، فإن الاتجاه العام لمعدل النمو التراكمي متزايد للفترة من يناير (كانون الثاني) حتى سبتمبر 2011، منوها بانخفاض معدل النمو في شهر يوليو وارتفاعه في شهري أغسطس وسبتمبر، غير أنها بمعدلات متناقصة عما كان عليه في شهر يونيو (حزيران)، أي فترة ما قبل الانفصال، وهذه الظاهرة برأيه مؤقتة، وهي ناتجة عن استبدال العملة، وستتضح الرؤية كلية بعد إكمال إبادة وحريق العملة القديمة.

وفي ظل انفصال الجنوب يعتبر الباحث الاقتصادي عبد الله، أن معدل نمو نقدي بلغ 11.7 في المائة عال نسبيا، فكما أفاد فإن جزءا كبيرا من السلع والخدمات، على رأسها البترول، قد أصبحت خارج دورة الاقتصاد السوداني.

وهذا برأيه يفسر أيضا جزءا من الضغوط التضخمية التي يشهدها السودان حاليا، مبينا أن ارتفاع حجم الكتلة النقدية دون ارتفاع حقيقي في الإنتاج سيتسبب في ارتفاع معدلات التضخم، ولذلك كما يعتقد فإن سياسات الإصلاح الاقتصادي، أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى.

ويعتقد أن ذلك يحتاج إلى التنسيق الكامل مع وزارة المالية لرسم سياسة مالية ترشيدية ترمي إلى خفض الإنفاق العام، وزيادة الإيرادات العامة، من أجل تخفيض عجز الموازنة العامة ليكون في الحدود الآمنة، بحيث لا يتجاوز 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، على أن تكون الاستدانة من الجهاز المصرفي في حدود 0.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

وأضاف عبد الله أنه لا يكفي تنشيط أدوات السياسة المالية والنقدية فقط،، إذ يعتقد أنه لا بد من إعمال إجراءات متناسقة أيضا في مجال سياسات التجارة الخارجية، في إطار سياسة إحلال الواردات وترقية الصادرات لسلع البرنامج الإسعافي الثمانية، مع ضرورة إجراء تعديلات جوهرية لنظام سعر الصرف تساعد على ضبط الطلب على النقد الأجنبي، على أن يتوافق ذلك مع جهود محددة لزيادة متحصلات النقد الأجنبي وتقليل المدفوعات، ليصل العجز الكلي في ميزان المدفوعات إلى حدود 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

وشدد على ضرورة الاتجاه نحو بذل جهود متكاملة بين السياسة المالية والنقدية وسياسات التجارة الخارجية، وإجراءات محددة لإعادة هيكلة الدولة، وتصحيح مسار الاقتصاد الكلي، بحيث تهدف السياسات الكلية إلى حشد الموارد في القطاعات الإنتاجية وتخفيض معدلات التضخم.

وفي إطار سياسات ضبط الطلب على النقد الأجنبي، يرى عبد الله أنه لا بد من توظيف احتياطيات النقد الأجنبي لتغطية الفجوة في السلع الرئيسية، كالمحروقات والسكر والقمح والأدوية، والاهتمام بإصلاح سوق النقد الأجنبي، وتقليل اعتماد شركات الصرافة على الضخ بالعملة الأجنبية، حيث يصعب تمويل السفر والسياحة من الموارد الرسمية للدولة، وتشجيع شركات الصرافة للعمل على استقطاب مدخرات المغتربين والموارد الأخرى غير الرسمية، ومقابلة احتياجات النقد الأجنبي لهذه الشرائح من دون الاعتماد على البنك المركزي، لأن الغرض الأساسي من إنشاء شركات الصرافة، وفقا للائحة تنظيم أعمال الصرافة، هو تقنين التعامل في النقد الأجنبي في الموارد غير الرسمية، وتسهيل دخول هذه الموارد إلى النظام المصرفي.