قمة الدول العشرين وقعت رهينة أزمة الديون اليونانية

الرئيس ساركوزي أسمع باباندريو كلاما قاسيا

وزير المالية السعودي إبراهيم العساف مع الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي في كان أمس على هامش قمة العشرين (ا.ب)
TT

السماء المكفهرة التي سيطرت على سماء مدينة كان أمس كانت أفضل معبر عن الأجواء التي سادت انطلاقة القمة السادسة لمجموعة العشرين الاقتصادية. وما بين الأنباء الواردة من أثينا عن أزمة حكومية والأخرى عن تقهقر الأسواق المالية، سيطر الاكتئاب على تجمع قادة العالم الذين يمثلون 85 في المائة من الاقتصاد العالمي و90 في المائة من ناتجه الداخلي وثلثي المبادلات التجارية وأكثر من ثلثي السكان. ولم تكف لافتات الترحيب التي انتشرت من مطار نيس القريب وحتى مدخل قصر المؤتمرات في مدينة كان المعروفة بمهرجانها السينمائي السنوي لتبديد أجواء الحزن وخصوصا حزن الفرنسيين حيث خطفت أزمة الديون اليونانية القمة وحرفتها عن غرضها الأول. وبكر الرئيس الأميركي باراك أوباما في الوصول إلى كان وسط إجراءات أمنية لم تشهد المدينة مثيلا لها حيث انتشر ما لا يقل عن 12 ألف عسكري ورجل أمن على كل المداخل والطرقات المفضية إلى القصر وأخضع الجميع لتفتيش دقيق.

ومنذ ليل الأربعاء /الخميس، تلاحقت الاجتماعات لإيجاد مخرج للزلزال الذي أحدثه قرار رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو بطرح اتفاق الأوروبيين في 27 أكتوبر (تشرين الأول)، على خطة إنقاذية لليونان تتمثل بإلغاء ثلث ديونها الخارجية (مائة مليار يورو) وإعادة رسملة البنوك الأوروبية الدائنة وتعزيز صندوق الاستقرار المالي الأوروبي ورفع رأسماله إلى ألف مليار يورو بمساهمة من الصين والبرازيل وربما غيرهما من البلدان الناشئة. وسمع باباندريو كلاما قاسيا خلال اجتماعه مع الرئيس الفرنسي ساركوزي والمستشارة الألمانية ميركل ومديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد ورئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو ورئيس المجلس الأوروبي فون رومبوي مفاده أن عليه أن يحسم أمره. ووضع باباندريو أمام خيارين: إما الالتزام بتطبيق الخطة الأوروبية حرفيا والاستمرار في الاستفادة من دعم أووربا المالي وإما الخروج من اليورو والاتحاد وبالتالي حرمانه من أي مساعدة.

وأفادت المصادر الفرنسية أن الرئيس ساركوزي كان «بالغ القسوة والوضوح» في حديثه إلى باباندريو إذ نبهه إلى أن أثينا «لن تتلقى قرشا إضافيا واحدا» قبل أن تحسم خيارها وتكشف ما إذا كانت تود البقاء في منطقة اليورو أم تريد الخروج منها. والحال أن صناديق الدولة اليونانية فارغة وكان من المقرر أن تتلقى في الأيام القادمة مبلغ 8 مليارات يورو في إطار خطة المساعدة التي أقرت لها الخريف الماضي. ويبدو الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي على موجة واحدة إذ يرفضون مساعدة اليونان في حال تخلت عن التزاماتها. ويأخذ ساركوزي ومعه الاتحاد الأوروبي على باباندريو أنه «قرر الاستفتاء من غير أن يعلم أحدا» علما أن قراره يهدد استقرار منطقة اليورو كلها ومعها العملة الموحدة. ولمزيد من الضغوط، أكد وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي جان لونيتي أن الاتحاد الأوروبي «يمكن أن يعيش من غير اليونان». وزادت المفوضية الأوروبية الضغوط إذ أعلن أحد مسؤوليها أن التخلي عن اليورو غير ممكن من غير الخروج من الاتحاد الأوروبي. وأعلن جان كلود جونكر، رئيس مجموعة يورو - غروب ورئيس وزراء لوكسمبورغ أن الأوروبيين «غير قادرين على ضمان سعادة اليونانيين رغما عنهم» مما يعني عمليا أنه إذا أرادوا الخروج من اليورو فلن يمنعهم أحد. وهذه المرة الأولى التي يطرح فيها مثل هذا الاحتمال منذ إطلاق العملة الأوروبية الموحدة. وعلم في كان أن ساركوزي وميركل أصرا على أن يعجل باباندريو في إجراء الاستفتاء مما حمل الأخير على الإعلان لاحقا أنه سيجرى في 4 ديسمبر (كانون الأول) القادم بدل الموعد الأول (بداية عام 2012). كذلك شدد المسؤولان الألماني والفرنسي على ضرورة «توسيع» السؤال الوحيد الذي سيطرح في الاستفتاء بحيث يكون عن بقاء اليونان في منطقة اليورو أو خروجها وليس عن قبول أو رفض خطة الإنقاذ الأوروبية. وبرأيهما، أن هذا الخيار هو «الوحيد» الذي يمكن أن يلقى قبولا من اليونانيين وليس الاستفتاء على الخطة الأوروبية. وتعود خطورة الوضع اليوناني إلى أنه يهدد مجمل منطقة اليورو (17 بلدا من أصل 27) فضلا عن التهديد بالإطاحة العملة الأوروبية الموحدة. وصباح أمس، عقد اجتماع للقادة الأوروبيين أعضاء مجموعة العشرين بحضور باروسو وفون رومبوي للتداول في كيفية إنقاذ أوروبا من الأزمة التي تهدد بالانتقال إلى دول أخرى منها إسبانيا وإيطاليا وربما وصل الدور إلى فرنسا. وجاء إلغاء المؤتمر الصحافي للمسؤولين الأوروبيين ليدلل على مدى الارتباك الذي ألم بقمة العشرين وبتغير الأولويات. ومنذ الصباح، اعتبر أوباما أن «الجانب الأهم في عملنا في هذين اليومين هو إيجاد حل للأزمة المالية هنا في أوروبا». وكان الرئيس الصيني هو جينتاو الذي وصل مساء الأربعاء إلى كان قد «صدم» نوعا ما الأوروبيين عندما أكد بمناسبة عشاء العمل مع ساركوزي أنه «يتعين على الأوروبيين أن يحلوا مشكلة المديونية الأوروبية» مما فسر على أن بكين «غير متحمسة» للمشاركة في صندوق الاستقرار المالي. ويمني الأوروبيون أنفسهم بأن تقبل الصين بمده بمائة مليار دولار. غير أن مصادر أوروبية شاركت في المؤتمر توقعت أمس ألا تكون المساهمة الصينية «مجانية» بل أن يسعى الصينيون إلى الحصول على ثمن «سياسي» مثل رفع حظر بيع الأسلحة إلى بكين واعتبارها سوقا تجارية حرة ووضع حد لمطالبتها برفع قيمة عملتها الوطنية. وتريد الصين أن يثبت الصندوق الأوروبي «نجاعته» قبل أن تقبل بمد يد المساعدة لأوروبا. وينظر القادة غير الأوروبيين بقلق إلى ما يجري في منطقة اليورو ولم يعودوا يترددون في انتقاد سياساتها. وكما الرئيس الصيني، فقد أعلن الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف في كلمة ألقاها أمس أمام رجال أعمال ومسؤولي شركات في كان أن ما يقوم به الأوروبيون «يجب أن يكون أكثر دينامية وأكثر صلابة مما فعلوه حتى الآن». وأضاف ميدفيديف أنه في غياب ذلك، «فسنبقى رهائن مشكلاتهم». أما رئيس الوزراء الياباني فقد حذر من تعاقب المشكلات التي يمكن أن تنجم عن الصعوبات المالية لعدد من الدول الأوروبية. وأضاف يوشيهيكو نودا أن وضعا كهذا «ستكون له آثار على الاقتصاد الحقيقي في الدول الأوروبية وخارجها بما فيها البلدان الناشئة». وتريد اليابان أن تتعرف على التفاصيل «الفنية» التي ستحكم عمل صندوق الاستقرار النقدي الأوروبي قبل أن تقرر ما إذا كانت ستساهم فيه أم لا. وكان المسؤول الياباني يردد بذلك ما سبقه إليه الرئيس أوباما الذي اعترف بأن أوروبا «حققت خطوات مهمة من أجل التوصل إلى حل إجمالي». غير أن أوباما رأى أنه من الضروري «الدخول في تفاصيل» الخطة الأوروبية قبل اتخاذ موقف نهائي منها. وكشفت مصادر فرنسية أن باريس وبرلين «ممتعضتان» من السلبية التي يظهرها أوباما في خطاباته إزاء أوروبا التي يتهمها بأنها عجزت عن تنظيم أمورها وحل مشكلاتها المالية والنقدية. وحتى مساء أمس، كانت المشاورات الرسمية والجانبية مستمرة في محاولة للتوصل إلى «مخرج» من شأنه إطفاء الحريق اليوناني ووقف عدوى التمدد إلى اقتصاديات أوروبية أخرى ووقف النزيف وطمأنة الأسواق المالية وربما النظر في المواضيع الأخرى التي عقدت القمة لأجلها ومن بينها إصلاح النظام المالي العالمي وتقوية إجراءات الرقابة عليه والسعي لوضع حد لتقلب أسعار المواد الأولية خصوصا الزراعية منها والحد من الآثار السلبية الاجتماعية للعولمة ودعم التنمية في الدول الإفريقية ودول العامل الثالث عبر فرض رسوم على المعاملات المالية في العالم ومحاربة الفساد. وفي هذا السياق، دعا بيل غيتس العالم الغني إلى زيادة المساعدات للدول الفقيرة رغم الأزمات. وأمس اجتمعت دول البريكس الخمس (روسيا، الصين، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا) لتطرح تصوراتها للأزمة الراهنة ولمطالبها في الحصول على دور أكبر في إدارة شؤون العالم الاقتصادية من خلال إعطائها صلاحيات إضافية في المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. واليوم تستكمل القمة أعمالها التي ستتوجها بإصدار توصيات أو خلاصات تتناول كافة الملفات التي عملت عليها الرئاسة الفرنسية منذ شهر فبراير (شباط) الماضي.