المصارف الأوروبية فرت من وهم السندات العقارية إلى سراب السندات الآمنة

هزات تشهدها الأسواق المالية العالمية لم يسبق لها مثيل منذ سقوط «ليمان براذرز»

TT

مع خسارة الرهانات التي وضعتها المصارف الأوروبية على استثمارات الرهون العقارية الأميركية قبل عدة سنوات، تدافع المستثمرون نحو ما اعتبروه ملاذا آمنا، وهو المتمثل في السندات التي أصدرتها دول الاتحاد الأوروبي التي تبدو حصينة.وقد حولت الأزمة السياسية والمالية التي تجتاح القارة الكثير من الديون السيادية الأوروبية إلى أحدث الأصول المتعثرة، مرسلة هزات عبر الأسواق المالية العالمية لم يسبق لها مثيل منذ سقوط بنك «ليمان براذرز» قبل أكثر من ثلاث سنوات مضت. وصلت موجات الصدمة هذا الأسبوع إلى إيطاليا، ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو بعد ألمانيا وفرنسا، بعد وقت قصير من إقرار القادة الأوروبيين رسميا أن اليونان لا تستطيع سداد ديونها وإجبار المصارف على قبول الخسائر. ورغم الجهود المحمومة من قبل السياسيين لاحتواء الضرر، قال محللو السوق إن فرنسا، إحدى أقوى الدول في منطقة اليورو، قد تشعر قريبا بأثر هذه الأزمة.

وقال يانيس ستوراناراس، مدير مؤسسة للبحوث الاقتصادية والصناعية، ومقرها في أثينا: «عندما بدأ الأفراد في شراء المزيد من الديون السيادية الأوروبية، لم تلح في الأفق أي نوع من المخاطر، لكن هذه الأزمة ستستمر الآن نظرا لتغير تصورات المخاطر بشكل كبير». وتواجه المصارف الأوروبية عشرات وربما مئات المليارات من الدولارات من الخسائر على القروض للدول التي تستخدم اليورو، وخشية نزيف المزيد من الخسائر إذا ما تفاقمت الأزمة، سعت المصارف جاهدة للحد من سنداتها الاستثمارية، مثل سندات الرهن العقاري الممتازة، التي كان يعتقد في السابق أنها بالغة الحصانة، أشبه ما تكون بالسترات الواقية من الرصاص.

فمصرف «سوسيتيه جنرال» الفرنسي، على سبيل المثال، قام هذا الأسبوع بخفض 333 مليون يورو من سندات الديون السيادية اليونانية، وفي أكتوبر (تشرين الأول) خفض من تعرضها لهذا البلد إلى 575 مليون يورو، من 2.4 مليار يورو في بداية عام 2011، وخفض مصرف فرنسي آخر، (بي إن بي باريبا)، سنداته من الدين الحكومي الإيطالي بنسبة 40 في المائة منذ يوليو (تموز)، إلى 12.2 مليار يورو. الطريقة التي تحولت بها الديون السيادية الأوروبية إلى رهن عقاري جديد قصة شارك فيها الكثير من الجناة، بما في ذلك الحكومات التي اقترضت بصورة تفوق قدرتها على السداد، والمنظمون الذين أباحوا للمصارف التعامل معها كسندات خالية من المخاطر، والمستثمرون الذين لم يبذلوا جهدا للتمييز بين السندات في الاقتصادات المتعثرة مثل اليونان وإيطاليا وتلك التي تصدرها ألمانيا التي تقف على أرض صلبة.

في الوقت ذاته حصلت المصارف على مزيد من الحوافز للتغاضي عن الأخطار الفردية لدول منطقة اليورو نتيجة الرسوم التي يحصلون عليها لاكتتاب الديون السيادية التي تباع لمستثمرين آخرين.

وقد حصلت عشرات البنوك في أوروبا والولايات المتحدة منذ عام 2005 على 1.1 مليار دولار في شكل رسوم نظير بيع السندات للحكومات الأوروبية، وفقا لوكالة «رويترز» و«فريمان كونسلتنغ سيرفيسيز». وكحال المستثمرين الآخرين، تشبثت المصارف لفترة طويلة باعتقاد شبه جازم بأن جميع البلدان التي تستخدم اليورو من شأنها الوفاء بديونها. ولسنوات، لم ترتفع فوائد السندات اليونانية والإيطالية أكثر من نظيراتها الألمانية، ولكن المصارف كانت نهمة على الدوام في تعقب حتى ولو جزء ضئيل من الأرباح الإضافية. وقامت هذه المصارف خلال أكثر سنوات العقد الماضي بشراء السندات ذات الفوائد المرتفعة، متجاهلة المشاكل السياسية والمالية المتزايدة لتلك البلدان فضلا عن غيرها من دول منطقة اليورو المعرضة للعجز عن سداد الديون مثل آيرلندا وإسبانيا والبرتغال.

كما يتحمل المنظمون قدرا كبيرا من المسؤولية، فقبل عام 1999، عندما كونت أوروبا اتحادها النقدي وسمحت للمصارف بالتعامل مع ديون أي دولة تنتمي إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي نادي الدول المتقدمة الذي يضم الولايات المتحدة ومعظم أوروبا، كديون عديمة المخاطر. وقال نيكولا فيرون، وهو زميل بارز في «بروغل»، وهي شركة أبحاث في بروكسكان «كان هناك تشجيع من السلطات الأوروبية للمصارف لشراء المزيد من الديون، لأنه كان ينظر إليها على أنها آمنة، لكنها أدركت حال وقوعها أنها كانت إدارة مخاطر غير حكيمة».

وقد أدرك بعض المنظمين أن السماح للبنوك بعدم تخصيص رأس مال للعجز عن سد الديون السيادية يمكن أن يمثل مشكلة ومن ثم تم التصدي لذلك عبر اتفاق أبرم في 2006 وهو المعروف باسم اتفاق «بازل 2»، الذي تم تفويض المصارف الكبرى من خلاله باستخدام أنماطها الخاصة بها لتحديد ما إذا كانت بعض الدول عرضة للخطر، والاحتفاظ ببعض رأس المال ضدها. لكن الاتحاد الأوروبي لم يطبق نظام أكثر قوة. ووسط أزمة الرهن العقاري، زاد المنظمون في أوروبا من تعقيد المشكلة من خلال المطالبة بضرورة احتفاظ المصارف بأصول أكثر أمنا، أكثر من الديون السيادية التي تملكها.

وكتب أكيم كاسو، وهو عضو سابق في مجلس إدارة مصرف «كومرتس»، في دراسة نشرت من قبل البرلمان الأوروبي «نتيجة لذلك لم تثبط المصارف عن وضع أصولها الأكثر سيولة في أسوأ الديون الحكومية الممكنة». والآن، لا يستطيع «سوسيتيه جنرال» و«كومرتس» والمصارف الأخرى التخلص من ديونها الهشة بسرعة كافية. وخلال الأشهر القليلة الماضية، سجلت هذه المصارف خسائر بمليارات اليوروات خلال عملية التخلص من هذه الديون على الرغم من أن احتمالات تعرضها لا تزال كبيرة. وإلى جانب تأثير صناديق التحوط، تعرضت المصارف الأوروبية لخسائر صافية بقيمة 120 مليار دولار لقروض الحكومة اليونانية وديون القطاع الخاص بنهاية شهر يونيو (حزيران)، وفقا لبنك التسويات الدولية. وكان الأمر الأكثر مدعاة للقلق، بحسب المحللين، احتمالية خسارة المصارف 643 مليار دولار على الديون الإسبانية، و837 مليار دولار لإيطاليا. ودخلت المصارف في الولايات المتحدة على خط الأزمة، ففي إيطاليا وحدها، تعرضت المصارف لخسائر صافية محتملة تصل إلى 47 مليار دولار على القروض الحكومية وديون القطاع الخاص بنهاية يونيو، بحسب الإحصاءات التي نشرها بنك التسويات الدولية.

ويواجه مصرف «غولدمان ساكس» إمكانية خسارة 700 مليون دولار في إيطاليا، بحسب الملفات التنظيمية التي صدرت هذا الأسبوع، وقد يشعر بهذه النتائج المؤسفة في حال خفض السندات، حيث تلغي الخسائر من شطب مماثل لذلك الذي حدث في اليونان - 50 سنتا على الدولار - 10 في المائة من 3.43 مليار دولار هي أرباح «غولدمان» في الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي. ويطلب المنظمون من المصارف الأوروبية جمع رأس مال جديد بقيمة 106 مليارات يورو بحلول الصيف المقبل لحماية نفسها ضد مزيد من الخسائر، فيما تصر المصارف على أن المخاطر قابلة للتحكم بها، لكن التخوف الأكبر يتمثل في أنها قد لا تملك ما يكفي من رأس المال لتغطية الخسائر المحتملة من منطقة اليورو، وقد قاد هذا النوع من أزمة الثقة صندوق النقد الدولي، قاد شركة «إم إف غلوبال»، شركة سمسرة مالية كبيرة في نيويورك، إلى الإفلاس الأسبوع الماضي بعد رهانها بـ6.3 مليار دولار على مستثمري الديون الأوروبية المنزعجين. وعلى الرغم من الكفاءة الكبيرة التي تتحلى بها الأسواق في الوقت الراهن في الإعلان عن مخاطر الديون المختلفة بين الدول الأوروبية، فإنها فشلت في القيام بتلك الوظيفة لفترة طويلة، مثلما فشلت في أن تعكس مخاطر قروض الرهن العقاري وفقاعة العقارات التي تشكلت في الولايات المتحدة.

وخلال الشطر الأكبر من العقد الماضي، كانت الفوارق بين عائدات السندات في ألمانيا واليونان والبرتغال وآيرلندا وإيطاليا وإسبانيا ضئيلة للغاية، وهو ما يعني أن المستثمرين كانوا يقومون بعمليات الشراء والبيع لهذه السندات كما لو كانت البلدان آمنة بشكل متساو لمجرد أنهم أعضاء في منطقة اليورو، على الرغم من الموارد المالية الهشة في اليونان وفقاعات العقارات في آيرلندا وإسبانيا والديون المرتفعة في إيطاليا.

وقد أكد مسؤول بارز شارك في اجتماعات بروكسل الخاصة بتشريع المصارف أن الظاهرة قرعت أجراس الإنذار تماما كعام 2005 عندما عقدت المصارف ووزارات الخزانة والمفوضية الأوروبية مناقشات داخلية مكثفة حول السبب في عدم عكس التباين بين ألمانيا والبلدان الأخرى المخاطر المختلفة. وعندما بدأت أزمة الرهن العقاري في التأثير على وول ستريت في عام 2007، سعت المصارف إلى البحث عن ملاذ آمن عبر التحول إلى شراء المزيد من الديون السيادية الأوروبية، لا سيما البلدان ذات العوائد الأعلى. وتشير بيانات شركة «بي آي إس» إلى أن الإقراض المصرفي لحكومات البرتغال وآيرلندا وإيطاليا واليونان وإسبانيا، جاء إلى حد كبير من خلال شراء السندات التي ارتفعت بشكل أسرع من المعتاد، وصلت إلى 24.2 في المائة، لتصل إلى 827 مليار دولار، بين الربع الثاني من عام 2007 والربع الثالث من عام 2009، عندما بدأت الأزمة في اليونان أولا لتصيب الديون السيادية الأوروبية تباعا. وقد شاركت المصارف في جميع أنحاء العالم في هذا التهافت على الإقراض نتيجة لنهمها المفرط للعائدات الأعلى، وكان على رأس هذه المصارف التي سعت إلى ذلك مصرف «كومرسني»، وهو بنك كبير في جمهورية التشيك يمتلك مصرف «سوسيتيه جنرال» النصيب الأكبر فيه.

* ساهم في إعداد التقرير كل من ليز ألدرمان من باريس وسوزان كريغ من نيويورك

* خدمة «نيويورك تايمز»