«جعل البنوك أكثر حذرًا».. هل هي معركة خاسرة؟

مساع لتنظيم عملها لكي لا تتكرر أزمة 2008

TT

بالنسبة لفيليب هيلدبراند، كان ذلك تذكيرا بما يحدث عندما تتدخل بين مصرفيين وأرباحهما. نعت مصرفيون، لم يتم الكشف عن هويتهم، في صفحات الصحف السويسرية، هيلدبراند، رئيس البنك المركزي السويسري، بصفتي «المغرور» و«الأناني». وكانت خطيئته في رأيهم هي رغبته في أن تمتلك البنوك رؤوس أموال إضافية. وبدت حقيقة أن هيلدبراند نفسه كان مديرا سابقا لصندوق تحوط في نيويورك تعزز فكرة أنه قد خان مهنته.

«إنه لن يعثر مطلقا على أية وظيفة أخرى في سويسرا»، هذه هي العبارة التي نقلتها مجلة «دير سونتاغ» السويسرية عن مصرفي رفيع المستوى لم يفصح عن هويته، بوصفها عبارة تهديدية موجهة لهيلدبراند عام 2010.

كانت أشكال الهجوم الحادة الموجهة لرئيس بنك مركزي مقياسا لما هو مهدد بالخطر. كان لهيلدبراند (48 عاما) دور واضح في الصراع الدائر بين المصرفيين الذين يحاولون الحفاظ على أكثر ممارسات العمل تحقيقا للربح، ويحاول المنظمون التخفيف من حدة نظام يرى كثيرون أنه قد دمر اقتصاد العالم.

«تعين على كثيرين منا على الجانب العام التعامل مع مشكلة تأخر الصناعة، التي ضخمت من حجمها في بعض الفترات التغطية العامة»، هذا ما قاله هيلدبراند. وأضاف قائلا: «أحد الأسباب أن قدرة الصناعة المالية على الضغط من أجل تحقيق مصالحها قصيرة الأجل واسعة المدى». يتمحور الجدل حول اتفاق دولي لم يسمع به السواد الأعظم من الناس خارج نطاق الصناعة قط، والممثل في ما يعرف باسم قواعد اتفاقية «بازل 3». وتتمثل القضية المحورية ونقطة النزاع الأساسية في رأس المال – الأموال التي جمعتها البنوك من خلال إصدار الأسهم والاحتفاظ بالأرباح، الأموال التي لا يتعين عليها إعادة سدادها. المنظمون يرغبون في أن تقوم البنوك بتمويل عملياتها من خلال رأس مال أكبر وقروض أقل. ويشير المؤيدون إلى أنه كلما زاد رأس المال الإضافي الاحتياطي، زادت درجة استقرار النظام المالي. غير أن تمويل العمليات من رأس المال، لا من القروض، أقل ربحية، وهذا يعني تحقيق أرباح أقل.

«في الأزمة المالية، يكون للبنوك الأفضلية وتحصل على المزايا، فيما يعود التأثير السلبي على عامة الشعب»، هذا ما قاله ستيفن جي تشيكيتي، رئيس القسم النقدي والاقتصادي ببنك التسويات الدولية في بازل بسويسرا. يضم البنك لجنة بازل للرقابة المصرفية، اللجنة السرية التي تضع المعايير المصرفية العالمية. وأضاف: «نرغب في أن نضمن عدم حدوث ذلك مجددا».

وفي أعقاب بعض المعارك الشرسة، تمكن مؤيدو فرض القواعد الأكثر صرامة من تحقيق بعض النجاح في تمرير إجراءات من شأنها أن تلزم البنوك بتقليل حجم المخاطر. ونشر الاحتياطي الفيدرالي يوم الثلاثاء مسودة لوائح اعتمدت بدرجة كبيرة على الاتفاقات التي تم إبرامها في بازل. غير أن هناك فترة تمهيدية يمكن للصناعة المصرفية استغلالها في محاولة التخفيف من درجة صرامة القواعد. ويخشى كثير من الاقتصاديين من أن يدع النظام الرقابي الجديد البنوك تتحمل قدرا هائلا من المخاطر.

لقد أدت الثغرات في قواعد بازل الأولية، المعروفة باسم قواعد «بازل 2»، في المقام الأول، إلى ظهور الأزمة المالية، على حد قول العديد من الاقتصاديين، مما رسخ اعتقاد أن البنوك محصنة ضد المخاطر. في حقيقة الأمر، قللت البنوك بشكل كبير من شأن احتمالية تعرض الأوراق المالية التي بحوزتها للمخاطر. كذلك، أدت الرقابة المعيبة إلى تفاقم أزمة الدين السيادي الأوروبي، من خلال تحديد مخاطر صفرية للسندات الحكومية. وشجع هذا البنوك على منح قروض تقدر بالمليارات لدول مثل اليونان وإيطاليا، مما حدد ارتباطا خطيرا بين ملاءة الدول وازدهار البنوك. كانت الفكرة فعليا هي «لماذا يتم احتجاز رأس المال للتأمين ضد الخسائر التي لم يكن من المحتمل مطلقا أن تحدث؟».

كان المصطلح التقني المستخدم هو «الأصول مقدرة المخاطر». كان الأمر كما لو أن على صاحب المنزل دفع مقدم فقط على الجزء الذي يحتمل أن يندلع به حريق من المنزل. ولا يتم تضمين الأجزاء الأخرى من العقار، مثل حمام السباحة والمساحات الخضراء.

أصبحت الثغرات في هذا النموذج واضحة في الأيام التي تلت انهيار البنك الاستثماري «ليمان براذرز» في عام 2008. واكتشفت البنوك التي بدا رأسمالها جيدا أنها قد استهانت بشكل مبالغ فيه بحجم المخاطر. أصبح فجأة من المستحيل ومن غير المجدي بيع المشتقات المرتبطة بسوق العقارات في الولايات المتحدة، مع التصنيفات الائتمانية المرتفعة.

كان من المحتمل أن يتجسد أحد أوضح الأمثلة في مكتب هيلدبراند في زيوريخ، البنك السويسري «يو بي إس». وفي الأعوام التي سبقت الأزمة، كان بنك «يو بي إس»، على الورق، واحدا من أفضل البنوك المرسملة في العالم. لكن في خلال عام 2008، سرعان ما استنزفت البنوك مخزونها المالي، إذ امتصت خسائر من استثمارات في سوق العقارات الأميركية.

على الورق، بلغت قيمة أصول بنك «يو بي إس» مقدرة المخاطر – إجمالي أموالها التي كانت عرضة لمخاطر – 374 مليار فرانك سويسري (نحو 400 مليار دولار بقيمة الدولار الحالية) في نهاية عام 2007. لكن ذلك كان رقما معدلا وفقا للتقدير التفاؤلي بشكل مبالغ فيه لحجم الأموال المعرضة لمخاطر.

كان إجمالي الأصول، بحساب إجمالي الأصول من دون التعديل بحسب المخاطر المدركة، أكبر بكثير: 3.3 تريليون فرانك سويسري. وبتقديره وفقا لإجمالي هذه الأصول، كانت نسبة رأسمال بنك «يو بي إس» أقل من 2 في المائة. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2008، أجبر البنك الوطني السويسري، الذي كان هيلدبراند نائب رئيسه وقتها، على دفع مبلغ قيمته 60 مليار دولار لإنقاذ بنك «يو بي إس».

واستجابة لذلك، بدأ هيلدبراند ومسؤولون آخرون رفيعو المستوى في الولايات المتحدة وبريطانيا يحاولون إحياء فكرة عتيقة الطراز، والممثلة في ما يعرف باسم نسبة الرفع المالي، كسقف تأمين إضافي، إلى جانب المتطلبات الرأسمالية الأكثر صرامة الخاصة بالأصول مقدرة المخاطر. وكان الهدف هو وضع حد أدنى لرأس المال يتم الاحتفاظ به مقابل إجمالي الأصول، بصرف النظر عن المخاطر المقدرة، لكبح جماح الحافز القوي لدى البنوك بوضع افتراضات تفاؤلية وزيادة نسبة الرفع المالي.

اعتبرت البنوك نسبة الرفع المالي أداة سيئة، تلحق الضرر بكل الاستثمارات التي قامت بها في العقد الأخير من أجل وضع أنظمة إدارة مخاطر معقدة، إضافة إلى كونها تهدد الأرباح المحتملة والتعويضات المدفوعة لكبار المصرفيين.

وقبل بضعة أشهر من إفلاس بنك «ليمان براذرز»، عندما كان بنك «يو بي إس» بالفعل في مأزق واقترح المنظمون السويسريون نسبة رفع مالي كجزء من حزمة إجراءات جديدة خاصة برأس المال. قال دانيال زوبير بوليه، نائب رئيس مجلس إدارة الجهة التنظيمية المالية السويسرية، المعروفة باسم «فينما»: بعد انهيار «ليمان براذرز» تغير المزاج العام بشدة. ويقول ستيفان إنغيفز، رئيس المصرف المركزي السويدي ورئيس لجنة بازل منذ يونيو (حزيران): «كان انطباعي أن القيادة السياسية كانت على وشك التوصل إلى توافق على التغيرات اللازمة». مع ذلك كانت هناك مقاومة قوية من بعض المنظمات مثل معهد التمويل الدولي ومقره في واشنطن والذي من أعضائه أكبر المصارف في العالم. حشدت جماعات المصالح ممثليها لدى لجنة بازل. وساعد مصرفيون في دول مثل ألمانيا وفرنسا على إقناع كبار المسؤولين بأن الاختلافات بين معايير المحاسبة فرضت على المصارف الأوروبية امتلاك رأسمال أكبر من المصارف الأميركية وهو ما يضرّ بها.

وصل الجدال إلى ذروته في منتصف عام 2010 حين ظهرت أزمة الديون الأوروبية على الساحة كمصدر تهديد لعملة اليورو. في يوليو (تموز) من ذلك العام، اجتمع رؤساء المصارف المركزية وكبار المنظمين الذي يشرفون على عمل لجنة بازل في محاولة لإبرام اتفاقية يقرّها قادة مجموعة العشرين. لقد كان اجتماعًا صعبًا على حد قول هيلدبراند ومشاركين آخرين، حيث جلس أكثر من 50 ممثلا لـ27 دولة حول طاولة كبيرة في غرفة اجتماعات في مصرف التسويات الدولية في بازل. وترأس الاجتماع جان كلود تريشيه، الذي كان رئيسًا للبنك المركزي الأوروبي آنذاك. وبحسب عدة مشاركين، كان الجدال كثيرًا ما يتخذ منحى عاطفيا، وبدا وكأن الاجتماع قد ينتهي دون التوصل إلى اتفاق مما يجعل النظام المالي العالمي في وضع ضعيف مثل السابق. وذكّرنا تريشيه بأن في يدهم تفادي حدوث أزمة مالية أخرى، فلا يمكن للدول الغربية تحمل أزمة أخرى. واستخدم طريقة ضغط بسيطة، حيث بدأ الاجتماع في الصباح، ولم يقدم به سوى مشروبات مثل القهوة والمياه. وعندما حان موعد الغداء، أعد العاملون الطعام، لكن تريشيه رفض قطع الاجتماع. واستمر الاجتماع حتى وقت متأخر من ذلك اليوم، وأخيرًا وافق الممثلون المنهكون الجائعون على حل وسط تضمن التوصل إلى نسبة اقتراض قدرها 3 في المائة من الأصول، إضافة إلى بعض البنود الأخرى التي أيدها السويسريون والبريطانيون والأميركيون، بينما عارضتها المصارف. على أي حال ليس من المفترض أن يتم العمل بنسبة الاقتراض قبل عام 2018 حتى تُمنح المصارف وقتا لزيادة رأس مالها. بعد وقت قصير من الاجتماع، دعم قادة مجموعة العشرين المقترحات، لكن لم تكن هذه هي النهاية، فالقواعد ما هي إلا إطار منظم، ويظل أمر تطبيقها في كل الدول المشاركة مهمة منوطة بها كل دولة. وصدر عن معهد التمويل الدولي دراسات توضح أن القواعد التي تم التوصل إليها في بازل سوف تجبر المصارف على تقييد عملية الإقراض بشكل كبير وتؤدي إلى انخفاض النمو الاقتصادي. وتوقعت إحدى الدراسات بأن تؤدي قواعد بازل (3) إلى خسارة 7 ملايين وظيفة. ويتجاهل الكثير من خبراء الاقتصاد الذين لا يتفقون مع هذه الدراسات الثمن الباهظ الذي يدفعه المجتمع بسبب الأزمات المالية. ووصف سيتتشيتي من مصرف التسويات الدولية توقعات معهد التمويل الدولي بأنها «خارج السياق التاريخي تمامًا».

هل ستجعل قواعد بازل (3) العالم مكانًا أكثر أمانًا؟

يشعر كثير من خبراء الاقتصاد بالقلق من تدني نسبة الاقتراض التي تبلغ 3 في المائة، حيث يمكن للمصارف أن تقترض 32 دولارا مقابل كل دولار تمتلكه كجزء من رأسمالها. ودفع هيلدبراند في سويسرا باتجاه سنّ قوانين محلية تكون أكثر صرامة من قواعد بازل. أدى هذا الضغط إلى شعور المصارف بالمرارة عام 2010. مع ذلك كانت الظروف تعمل لصالح هيلدبراند. وفي الوقت الذي كان يناقش فيه المنظمون المقترحات بداية العام الحالي، كشفت مؤسسة «يو بي إس» عن خسارة قدرها 2.3 مليار دولار نتيجة قيام موظف يبلغ من العمر 31 عامًا بعمليات تداول غير مصرح بها. مما جعل من الصعب على المصارف بعد ذلك زعم أنها تعلمت واستخلصت العبر من الأزمات. لقد تم سنّ القانون.

* خدمة «نيويورك تايمز»