أوروبا: خيارات قليلة أمام قنبلة تريليون دولار من الديون

البنوك تكتنز الأموال بدلا من توظيفها في شراء السندات الحكومية

رئيس «المركزي الاوروبي» يدرس خيارات مساعدة دول اليورو (إ.ب.أ)
TT

ربما يكون عام 2012 أشد قسوة وصعوبة على أوروبا من العامين الماضيين، وسيتعين على الدول الأوروبية، كل أسبوع، أن تبيع سندات بقيمة مليارات الدولارات - بقيمة إجمالية مذهلة تصل إلى تريليون دولار - لكي تتمكن من استبدال الديون القائمة بالفعل وتغطية العجز الحالي في ميزانياتها.

وفي حالة تعثر المصارف وصناديق المعاشات وكبار المستثمرين في مرحلة معينة، فمن الممكن أن يمتد القلق إلى الأسواق، وهو ما يجعل المسؤولين الحكوميين يشعرون بأنهم يمرون بأزمة مالية مخيفة يصعب الهروب منها، ولكن لو نجحت الحكومات في جذب مستثمرين بأسعار فائدة معقولة في أحد الشهور، فيتعين عليها إعادة نفس العملية مرة أخرى في الشهر التالي - ويمكن للمشترين القلقين أن يجعلوا إدارة أي عملية بيع أصعب من سابقتها.

ويقول نيك فيروزي، وهو كبير الاستراتيجيين في المعدلات الأوروبية في مصرف «نومورا إنترناشيونال» بلندن: «ثمة خطر هائل على أوروبا». ونظرا إلى هذه الدائرة المفرغة، يراقب صناع السياسات والمستثمرون عن كثب مزادات الديون في مقابل ضعف الإمكانات. وتواجه أوروبا تحديا كبيرا الآن يتمثل في إبعاد إيطاليا وإسبانيا عن نفس مصير اليونان والبرتغال حيث ارتفعت تكاليف اقتراضهما العام الماضي للدرجة التي زادت من احتمال تخلفهما عن سداد الديون، وهو ما جعل من المستحيل على حكومات البلدين أن تجد مشترين لتلك الديون. ومنذ ذلك الحين، اعتمدت اليونان والبرتغال على الدعم المالي المقدم من البنك الأوروبي وصندوق النقد الدولي.

إن التركيز الشديد على مزادات الديون السيادية - وأهميتها للاقتصاد الأوسع نطاقا - قد أظهر بوضوح الفرق بين ردود الفعل الأوروبية والأميركية خلال تعاملها مع تلك الأزمات. ومنذ عام 2008، أصبح القطاع الخاص غير مهتم بشراء قروض رهن عقارية جديدة في الولايات المتحدة، وهي الأصول المالية التي كانت أساس الأزمة التي تمر بها البلاد. ولكي يتم تعويض نقص الطلب من جانب المستثمرين، قامت الحكومة الفيدرالية بشراء وضمان مئات المليارات من الدولارات من القروض العقارية الجديدة.

وفي أوروبا، لا يزال صناع السياسات يتوقعون أن يقوم المشترون من القطاع الخاص بالاستحواذ على أغلبية الديون الحكومية. والشهر الماضي، وفي خطوة ربما تعد الأكثر شجاعة وجرأة منذ الأزمة، قدم البنك المركزي الأوروبي قروضا للمصارف بقيمة 620 مليار دولار على مدار أكثر من ثلاث سنوات بفائدة 1 في المائة.

وكان بعض المسؤولين قد أعربوا عن أمنياتهم أن تؤدي هذه القروض منخفضة الفائدة إلى دعم الطلب على شراء الديون الحكومية. وتكمن الفكرة في أن المؤسسات المالية ستكون قادرة على جني أرباح كبيرة عن طريق الاقتراض من البنك المركزي بفائدة 1 في المائة واستخدام تلك القروض لشراء سندات حكومية تحقق عائدا أكبر، مثل السندات الإسبانية أجل 10 سنوات بفائدة 5.5 في المائة.

ومع ذلك، لا تزال أسواق الديون السيادية تظهر علامات تدل على الإجهاد، حيث انخفضت أسعار السندات الحكومية الإيطالية أجل 10 سنوات، وهو ما رفع عائدها إلى أكثر من 7 في المائة، وهو المستوى الذي يظهر أن المستثمرين ما زالوا يشعرون بالقلق من القوة المالية للحكومة الإيطالية. ويبدو أن المصارف الأوروبية قد عملت على اكتناز كثير من الأموال التي اقترضتها من البنك المركزي، بدلا من إقراضها للحكومات. وقد ارتفعت المبالغ المالية التي تم إيداعها من قبل المصارف في البنك المركزي الأوروبي، والتي لا تزال غير مستغلة، إلى 617 مليار دولار من 425 مليار دولار قبل شهر من الآن. وقال فيليب سويغل، وهو أستاذ بكلية السياسة العامة بجامعة ميريلاند شغل منصب مساعد وزير الخزانة السابق هنري بولسون: «من الصعب أن تعرف السبب وراء قيام أي مصرفي بوضع أمواله في أي ديون سيادية أوروبية لمدة ثلاث سنوات، على سبيل المثال».

وقد أظهرت المشاكل والمتاعب الإيطالية مدى صعوبة وجود طلب على طوفان من الديون الجديدة من جانب عدد محدود من المستثمرين.

يذكر أن البلاد بحاجة إلى التغلب على ديون بقيمة 305 مليارات دولار خلال العام الجاري، وهي الأعلى في منطقة اليورو، في الوقت الذي تعمل فيه فرنسا، التي تعاني من ثاني أعلى معدل للديون، على إجراء مزاد لبيع ديون بقيمة 243 مليار دولار، حسب تقديرات مصرف «نومورا». وتقع الحكومات، مثل الحكومة الإيطالية على سبيل المثال، تحت رحمة الأسواق لأنها لا تملك الأموال اللازمة لسداد بعض من سنداتها التي أصبحت مستحقة الدفع. وأصبح لزاما على هذه الحكومات أن تقوم بإصدار سندات جديدة لتغطية ديونها القديمة، وكذلك تغطية العجز في ميزانيتها، في الوقت الذي تزيد فيه ندرة المستثمرين.

وتقوم المصارف، التي عادة ما تكون هي المستحوذة على الجزء الأكبر من السندات الحكومية، ببيع الديون. وقال لوران فرانسوليه، وهو رئيس استراتيجية معدل الفائدة الأوروبية بـ«باركليز كابيتال» في لندن: «رأينا الكثير من التصفيات من قبل مستثمرين غير أوروبيين». وقامت شركة «نومورا هولدنغز» اليابانية، على سبيل المثال، بتقليل الديون الإيطالية لديها وغالبيتها من السندات الحكومية، من 2.8 مليار دولار في نهاية شهر سبتمبر (أيلول) إلى 467 مليون دولار في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر (تشرين الثاني).

وقامت المصارف الأوروبية هي الأخرى بالتخلص من الديون، حيث قام مصرف «بي إن بي باريبا» الفرنسي بتخفيض السندات الحكومية الإيطالية من 26 مليار دولار في نهاية شهر يونيو (حزيران) إلى 15.5 مليار دولار في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول).

من جانبها، لا تريد المصارف الإيطالية أن يكون لديها مزيد من الديون والمشاكل حتى تحافظ على سعادة مستثمريها. وقد هبطت أسهم شركة «يونيكريدت» الإيطالية بأكثر من 40 في المائة منذ الأسبوع الماضي بعدما حاولت زيادة رأس مالها حتى يتوافق مع اللوائح الجديدة. وثمة بعض السبل لتجنب مزادات الديون المعدومة، على الأقل على المدى القصير. ويمكن للبنك المركزي أن يساهم من خلال شراء سندات الدولة في السوق قبل بيع الديون، وهو ما قد يعمل على دعم الأسعار في المزاد، أو يساعد على استقرارها على الأقل.

وهناك أيضا بعض الأدلة على أن بيع السندات الحكومية للبنوك قد انخفض في نهاية العام الماضي، وفقا لما أعلنه فرانسوليه. وقد أظهرت البيانات الصادرة عن البنك المركزي أن الشركات المالية الأوروبية قد استحوذت على سندات حكومية إسبانية بقيمة 2.4 مليار دولار في شهر نوفمبر، بعد بيع سندات بمعدل شهري يصل إلى 4.8 مليار دولار خلال الأشهر الثلاثة السابقة. وقد تكون الحكومات أيضا قادرة على جذب مشترين جدد لأسواق السندات الخاصة بها، فقد نجحت بلجيكا في بيع سندات حكومية بقيمة 7.2 مليار دولار لأحد المستثمرين المحليين في قطاع التجزئة الشهر الماضي.

ربما تشهد صناديق التحوط الانتهازية، التي تراهن على تشاؤم السوق تجاه دول أوروبية بعينها، تراجعا هي الأخرى. ويمتلك صندوق تحوط «سابا كابيتال مانجمينت» ومقره في نيويورك والذي يرأسه بواز وينشتاين، المتداول السابق في مصرف «دويتشه بنك»، سندات حكومية إيطالية رغم أن ذلك لا يتعدى كونه جزءا من استراتيجية التداول التي تتضمن مراهنات من شأنها أن تزيد مشاكل أوروبا سوءا. مع ذلك يعد تمكن إيطاليا وإسبانيا من العثور على مشترين جدد خلال العام الحالي من أجل الوصول بمستوى عائدات السندات إلى مستويات مستقرة أمرا غير مؤكد.. عوضا عن ذلك إذا حدث تباطؤ في الاقتصاد وإذا أصبحت حكومة الدولتين غير محبوبة من شعبيهما، يمكن أن تفشل مزادات الديون وتزداد تكلفة الاقتراض أكثر. وتتجه الأنظار إلى البنك المركزي في انتظار إجراء حاسم مثل منح قروض للمصارف بفوائد قليلة أملا في أن تستخدم في شراء سندات حكومية أو ربما شراء البنك ذاته للسندات الحكومية وإصدار عملات يورو لتمويل عملية الشراء. مع ذلك ربما لا يكون ذلك حلا دائما، حيث قد تخيف إجراءات البنك المركزي مستثمري القطاع الخاص. وبالمثل، عندما تمتلك مؤسسات مدعومة من الحكومة مثل البنك المركزي ديونا حكومية، تتمتع تلك المؤسسات بدرجة رفيعة على قائمة الدائنين وتصبح لها الأسبقية على الدائنين الآخرين. لهذا السبب، ربما يظن مستثمرو القطاع الخاص أن ما يمتلكونه من سندات ستنخفض قيمتها إذا اشترى البنك المركزي جزءا كبيرا من سندات الحكومة الإيطالية مما يدفعهم إلى التراجع.

على الجانب الآخر، لم تعتمد ردود الفعل إزاء الأزمة في الولايات المتحدة فقط على الكيانات المدعومة من الحكومة مثل مصرف الاحتياطي الفيدرالي في شراء قروض المنازل. ويوضح سويغل، الأستاذ بجامعة ميريلاند، أن المصارف والمستثمرين تكبدوا خسائر كبيرة بسبب ديون الرهن العقاري الحالية. وتعد ديون الرهن العقاري أقل تأثيرا على النظام المالي رغم قسوتها. حتى هذه اللحظة، تكره أوروبا تكبد خسائر دائمة جراء امتلاك سندات حكومية. باستثناء حالة الديون اليونانية، ابتعد واضعو السياسات الأوروبية عن أي خطة قد تعني الإضرار بمستثمري القطاع الخاص الذين يملكون سندات حكومية. مع ذلك، أوضح نوريل روبيني، أستاذ الاقتصاد بكلية الأعمال بجامعة نيويورك، في المقال الافتتاحي لصحيفة «فاينانشيال تايمز»، ضرورة خفض الديون الإيطالية من 120 إلى 90 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. في هذا الوضع، ربما يعاني المستثمرون من انخفاض في قيمة السندات الإيطالية بنسبة 25 في المائة على حد قوله. ربما يؤدي مثل هذا الخفض إلى المزيد من عدم الاستقرار، لكن إذا حاولت أوروبا جاهدة العثور على مشترين لديونها، من المحتمل النظر في خيارات أكثر حسما. مشكلة الديون الأوروبية مشكلة ضخمة وتوضح تجربة الولايات المتحدة أن التعامل معها ربما يتطلب المزيد من الخطوات الحاسمة. وقال سويغل: «إذا توقفت في منتصف الطريق، فلن تصل إلى النهاية أبدا. وهذا هو بالضبط حال صناعة القرار السياسي الأوروبي».

* خدمة «نيويورك تايمز»