تونس تواجه تحديات اقتصادية كبيرة مع ارتفاع الأسعار وأزمات الغاز والخبز

الإضرابات والاحتجاجات العمالية زادت الأوضاع سوءا

تونسيون يحتفلون بالذكرى الأولى لنجاح الثورة التونسية بهروب الرئيس الأسبق بن علي (إ.ب.أ)
TT

كشفت الأحداث التي عاشتها تونس نهاية 2011 وبداية 2012 عن خلل استراتيجي في الأمن القومي التونسي، حيث تؤثر الأوضاع المعيشية على كل ما هو أمني وسياسي واقتصادي. بمعنى التأثير على الأمن القومي العام بمفهومه الشامل. وقد بدا ذلك واضحا للعيان من خلال الإضرابات العمالية وتوقف عدة شركات منها مصنع ملء قوارير الغاز، ومصنع الأسمنت، وكذلك وقف مصنع لإنتاج الخميرة، تلك المادة الضرورية لصناعة الخبز، حيث أحدث ذلك أزمة حادة، كادت تتحول سريعا إلى كارثة.

لكن الكارثة البطيئة كما يقول الخبراء هي التي لم توقف عجلتها حتى الآن في تونس، هي كارثة رفع الأسعار من قبل التجار والباعة الذين يستغلون الظروف الراهنة لتحقيق الربح السريع، في غفلة من الدولة أو دوسا على هيبتها، حيث تعرضت بعض فرق مراقبة الأسعار لاعتداءات. ويتزامن ذلك مع حالة استمرار مؤشر البطالة في حدود 800 ألف عاطل عن العمل.

الخلل الاستراتيجي المذكور آنفا، لا يتمثل «خاصة» في إضراب عمال مصنعي الغاز والخميرة، في حد ذاته، ولكن في وجود مصنع وحيد لملء قوارير الغاز، ومصنع وحيد لإنتاج الخميرة. حيث يدعو الكثير من الخبراء إلى أن يكون هناك عديد المصانع في جهات مختلفة، لمواجهة الأحداث التي يمكن أن تتحول إلى كوارث عند نشوب الحرب، أو حصول كوارث طبيعية. والمفارقة، هي أن 12 عاملا في مصنع الخميرة، تمكنوا من «تجويع» 11 مليون تونسي بمجرد رفضهم العمل.

ورغم التغلب على أزمة الغاز، والخميرة في ظرف أسبوع واحد فإن الأزمة تركت آثارها على تفكير الناس، وزادت من هواجسهم لا سيما أن إنتاج الغاز انخفض إبان الأزمة إلى 8 في المائة. واستدعى الوضع من الحكومة جلب باخرتين محملتين بالغاز من الخارج لسد النقص الحاد داخل السوق التونسية. وفي تلك الأثناء ارتفعت أسعار قارورة الغاز من 7.500 دينار تونسي، إلى 20 دينارا (نحو 10 يوروات). وزاد سعر الخبز في السوق السوداء أثناء أزمة الخميرة 100 في المائة.

ومن بين المواد التي تم الترفيع في أسعارها، دون اتفاق مع الحكومة اللحوم، والأسماك وبعض المواد الغذائية. وقال تاجر مواد غذائية يدعى خميس المثناني لـ«الشرق الأوسط»: «الحمص كان بـ1100 وأصبح بـ2500 ميليم، والحمص المقلي كان 2250 وأصبح بـ3250 ميليما (ألف ميليم تساوي دينارا واحدا) في حين حافظت مواد أخرى كالحناء والبخور على أسعارها، والبندق كان بـ32 دينارا وأصبح ب 56 دينارا، والفستق، كان بـ32 وأصبح بـ37 دينارا للكيلو الواحد، والسنوبر بـ13 دينارا وكان بـ9 دنانير، والفول السوداني ارتفعت أسعاره للضعف»، والسبب هو أن «التجار يستغلون حالة الإرباك ليزيدوا إرباك السوق أكثر فأكثر ويجنون أرباحا خيالية مستغلين الأوضاع الحالية وعدم دراية الحكومة الجديدة بحال الأسواق».

خلال عام تمكنت الدولة التونسية من المحافظة على نفسها، ومنها دفع رواتب الموظفين، كما تمكنت من توفير ديمومة الخدمات، الكهرباء، والماء، والغاز (رغم الأزمة المفتعلة) والمواد الغذائية، ليس ذلك فحسب، بل مثلت شريانا غذائيا وخدماتيا حيويا لليبيا إبان ثورتها وإلى الغد. وقد رفع ذلك قيمة التبادل التجاري بين البلدين من 186 مليون دولار إلى نحو 600 مليون دولار.

ويقول الخبير الاقتصادي مكي السائحي لـ«الشرق الأوسط»: «الوضع الاقتصادي من الملفات التي لم تحل الثورة مشكلاتها، خلال السنة الماضية، وإن كانت أحد أهم الأسس لاندلاعها، فما جاءت الثورة لمعالجته هو الملف الاقتصادي، فليس بالحرية وحدها يعيش الإنسان». كما أنه «ليس بالاعتصامات والاحتجاجات والمظاهرات تتحقق المطالب، وشعار داويها بالتي كانت هي الداء، ليس دواء وليس حلا للأزمة الاقتصادية. ففي 2011 شهدت تونس نحو 400 اعتصام ومظاهرة تطالب إما بالعمل، أو تحسين الظروف المادية، أو لوضع العصا في عجلة الإنتاج كإيقاف شركة الفسفاط في قفصة وهو ما تسبب في خسائر للدولة تقدر بـ6 مليارات دينار تونسي. فضلا عن إيقاف مصانع الأسمنت، ووصل سعر كيس الأسمنت الواحد ثلاثة أضعاف السعر الطبيعي، إلى جانب إيقاف المصانع الكيميائية في الجنوب، والتي عصب الحياة في حياة الناس، وكذلك الأمر بالنسبة لاقتصاد البلاد».

وقد صادق المجلس الوطني التأسيسي التونسي على مشروعي المالية وميزانية الدولة للعام الجاري، وتم تخصيص ميزانية للتنمية في حدود 500 مليون دينار تونس (نحو 250 مليون يورو) لصالح 90 منطقة في تونس. وقد تضمن مشروع الميزانية التي بلغ حجمها 22935 مليون دينار، تخصيص 5200 مليون دينار فقط لنفقات التنمية مقابل 13540 مليون دينار لنفقات التصرف. وقال رئيس الوزراء التونسي، حمادي الجبالي، إن «مبلغ 5200 مليون دينار قليل وسنرفع فيه بالربع على الأقل» وأفاد بأن «الدولة تريد التعويل على إمكاناتها الذاتية وأنها لن تلجأ إلى مصادر التمويل الخارجية، أي الاقتراض، إلا للضرورة» وتوقع الجبالي أن «تمكن الشفافية والحوكمة الرشيدة من تحسين تغطية الموارد الجبائية والجمركية» وأردف أن «عهد التدخل والتحايل وسلب الأموال، المتأتية من الجباية والأداءات الجمركية، قد انتهى وحسب خبراء الجباية تخسر الدولة سنويا 15 ألف مليون دينار جراء التهرب الضريبي والجمركي الذي كان سائدا في عهد المخلوع».

وتوقع الجبالي تحسن أداء المؤسسات العمومية المنتجة، وخاصة شركة فسفات قفصة والمركب الكيميائي بقابس، بعد أن شرعتا في استئناف نشاطهما الذي عطلته الاعتصامات. وأفاد بأن نصيب الأسد في مشاريع التنمية لعام 2012 سيكون للجهات الداخلية التي تم تهميشها في العهد البائد. وأن أحزمة وجيوب الفقر التي نسميها مترفة ستأخذ نصيبها أيضا.

وزير التنمية الجهوية والتخطيط، جمال الدين الغربي، أكد على أنه تم إقرار نسبة نمو في حدود 4.5 في المائة ضمن الميزان الاقتصادي للعام الجاري، يقابله إحداث 75 ألف موطن عمل جديد. ويربط وزير المالية الجديد، حسين الديماسي، التنمية بالأمن، إذ إن «استتباب الأمن في البلاد، وإرساء توافق اجتماعي بين الأطراف الاجتماعية والسياسية، من شأنه أن يعيد الاقتصاد إلى نسق نمو أفضل».

الشيء الذي يمكن تسجيله باهتمام بالغ، هو تعب الناس من الانتظار بعد عام من الثورة. وتحول الاعتصامات والمظاهرات ومساعي بعض القوى السياسية المهزومة في الانتخابات إلى تعطيل حركة الإنتاج، والتشجيع على البطالة باسم المطالبة بالحقوق، حيث زادت الاحتجاجات من عدد العاطلين ولم تقلصه. كما تهرب بعض الشركات الأجنبية إلى المغرب الأقصى، وتنتظر أخرى حالة الأمن والاستقرار المرجوة للدخول إلى تونس والاستثمار في المناطق المحرومة. وأغلبية المحتجين يتفهمون الوضع عند لقائهم بمن يجيد الشرح، لكنهم يؤكدون أنهم في حالة صعبة، ولذلك غالبا ما يعقب بعض المحتجين على أوضاعهم المعيشية أو الوظيفية ومطالبهم بعبارة، «توا توا». ولكنهم يتراجعون عن المضي في العناد المبرر اجتماعيا رغم عدم موضوعيته من الناحية الإجرائية، «فلا أحد يملك عصا سحرية لتحقيق مطالب كل الناس في وقت واحد». بينما ارتفع سقف البطالة إلى نحو 800 ألف عاطل عن العمل، وأصحاب الشهادات العليا الذين ينتظرون منذ نحو 10 سنوات يؤكدون أن صبرهم نفد.

وتقول الحكومة الجديدة إنها لم تستلم الوزارات سوى منذ أيام، وهي في حاجة لوقت لمعرفة ما لديها من إمكانات إضافية، لتوظيفها في مشروعها التنموي الإصلاحي، علاوة على أن برنامج الحكومة المنتخبة يحتاج لوقت كاف حتى يحيط بأكثر الحالات الاجتماعية تضررا، وفق البرنامج الذي تم وضعه.