حاويات الشحن آخر ضحايا الركود العالمي

البنوك تطالبها بتسديد القروض في وقت انخفض فيه إيجارها يوميا بأكثر من النصف

انخفضت أسعار الإيجار للحاويات الضخمة من 14 ألف دولار إلى 6 آلاف فقط («الشرق الأوسط»)
TT

تطل ناطحات السحاب والشواطئ النقية بهذا المرفأ على واحد من أضخم المراسي في العالم: ميلا بعد ميل من سفن البضائع الفارغة، على مرمى البصر. وتطل أساطيل مماثلة من المرسى، حيث تظهر سفن بضائع فارغة، قبالة سواحل جنوب شرق ماليزيا وهونغ كونغ.

وتطفو عشرات السفن المبنية حديثا فارغة بالقرب من أحواض بناء السفن العملاقة بكوريا الجنوبية والصين، والتي يرفض ملاكها من جميع أنحاء العالم قبول تسليم البضائع في إحدى أسوأ الأسواق أداء على الإطلاق بالنسبة لقطاع الشحن العالمي.

ومنذ ستة أسابيع، كانت الشاحنات الضخمة التي يمكنها أن تحمل بضائع غير معبأة مثل الحديد الخام أو الحبوب تعرض سعر تأجير قيمته 15.000 دولار لليوم الواحد. والآن يقول وسطاء وأصحاب شاحنات إن السعر الساري هو 6.000 دولار، في حالة العثور على عملاء من الأساس.

وعلى الرغم من أن الخطأ يكمن جزئيا في أشكال الركود في الاقتصاد العالمي، فإن العامل الأكبر يتمثل في وفرة الشاحنات الجديدة. وتلقي زيادة المعروض بضغط مالي على كاهل أصحاب السفن الذين قاموا بشرائها والبنوك الأوروبية التي تكافح بالأساس والتي مولت كثيرا من عمليات الشراء. ويحدو قادة صناعة الشحن أمل محدود في حدوث انتعاش اقتصادي سريع.

«إذا كان النفق المظلم هو عام 2012، فلا يمكنني أن أبصر أي ضوء في نهايته»، هذا ما قاله تيم هاكسلي، الرئيس التنفيذي لشركة «واه كوونغ ماريتايم ترانسبورت هولدينغز»، خط الشحن الذي يتخذ من هونغ كونغ مقرا له ويملك 29 شاحنة بضائع غير معبأة وناقلة. وبالرجوع إلى فترة انتعاش السلع العالمية، التي استمرت خلال ربيع 2008، نجد أنه كان من الصعب على أصحاب السفن التقدم بطلبات للحصول على شاحنات بالقدر الكافي من السرعة. لكن نظرا للفترات الطويلة المستغرقة في بناء السفن، يتم تسليم تلك السفن الآن بالمئات، لتدخل في نطاق اقتصاد دولي مختلف تماما وأقل قوة من الوقت الذي تم طلبها فيه.

وبالنسبة لقطاع الشحن، لا تؤدي الوفرة في الشاحنات إلى انخفاض إيجاراتها فحسب، وإنما أيضا إلى انخفاضات حادة في قيمة سفنها. ومع ذلك، ربما يتمثل الخاسر الأكبر في نهاية المطاف في بعض البنوك الأوروبية الكبرى، التي يعاني كثير منها بالفعل من خسائر ضخمة على ممتلكاته من السندات الحكومية من اليونان وإيطاليا، وغيرها من الدول الأوروبية الأخرى المثقلة بالديون.

وأشار تقدير أعده باسيل كاراتزاس، الرئيس التنفيذي لشركة «كاراتزاس مارين أدفيزورز»، شركة السمسرة البحرية والاستشارات المالية الكائنة في مانهاتن، إلى أن البنوك الأوروبية تمتلك مبلغا يقدر بنحو 500 مليار دولار في صورة قروض شحن في سجلاتها، وتتكبد خسائر يقترب حجمها من 100 مليار دولار في إعادة هيكلتها. ومثلما عانت البنوك الأميركية من خسائر قروض ضخمة على المنازل التي تقل قيمتها عن رهوناتها، تواجه البنوك الأوروبية خسائر تقدر بعشرات المليارات من الدولارات على قروض الشحن.

وقال كاراتزاس «إن أعظم مخاوف البنوك هو ماهية إجراء شطب الديون، وكيف تتعامل معه من وجهة نظر محاسبية». وأضاف «إنهم لا يدركون كيفية التعامل مع هذه الخسائر». لقد تربعت البنوك في أوروبا منذ أمد طويل على عرش قادة العالم في تمويل السفن نظرا لأن العديد من أكبر أصحاب الأساطيل موجودون هناك. غير أن كثيرا من هذه البنوك قد أحجمت عن إقراض أموال لأصحاب السفن. وقد حاول بعضها، من خلال المسارعة بجمع رأس المال اللازم، الوفاء بمتطلبات الاحتياطي الصعبة التي يلزم بها منظمو القطاع المصرفي الأوروبي. وتضغط هذه المتطلبات البنوك التي تسعى لجمع الأموال اللازمة بمطالبة بعض أصحاب السفن بسداد القروض مقابل خصم.

وهناك سوق ثانوية صغيرة لقروض السفن الآن، باستثناء كونها بخصومات كبيرة بحيث ترفض البنوك الموافقة عليها، بحسب خبراء في مجال تمويل قطاع الشحن. وحتى بالنسبة للقروض التي تكون فيها قيمة السفينة أكبر من قيمة الرهن، بحسب هؤلاء الخبراء، تقدر قيمة الخصم المطلوب بنحو 20 في المائة. ويعتبر كل من «كوميرز بنك» في ألمانيا ومجموعة «لويدز بانكينغ غروب» في بريطانيا من بين المؤسسات الأوروبية التي أعلنت بشكل واضح عن تقليلها التعامل في قروض الشحن. كذلك، بدأ مصرف «سوسيتيه جنرال» في فرنسا يتطلع إلى وسائل لتقليل حجم ممتلكاته من قروض الشحن والتركيز بدلا منها على تقديم النصائح المالية لشركات الشحن، بحسب شخصين مطلعين على تحركات البنك. ورفض البنك التعليق على تعاملاته في مجال الشحن قبل إصدار تقريره المالي السنوي الشهر المقبل.

في الوقت نفسه، يراقب أصحاب السفن بقلق مؤشرا معياريا خاصا بالصناعة، وهو مؤشر «بالتيك دراي» لأسعار تأجير شاحنات البضائع غير المعبأة، والذي خسر أكثر من نصف قيمته منذ بداية العام. وسجل المؤشر الآن أدنى مستوى له منذ يناير (كانون الثاني) 2009، أثناء ذروة الانكماش الاقتصادي في أعقاب إفلاس بنك «ليمان براذرز».

ومع هبوط أسعار تأجير الشاحنات، هبطت بالمثل أسعار السفن نفسها. وتمت استعادة ملكية ناقلة بضائع ضخمة بيعت بمبلغ 137 مليون دولار في بداية عام 2008، وهي «سامبو دريم»، من قبل مصرفيين نهاية العام المنصرم وبيعت الأسبوع الماضي في هونغ كونغ مقابل مبلغ 28.3 مليون دولار فقط. وتزداد حمولة الشاحنات الضخمة على مستوى العالم بنسبة تربو على 10 في المائة سنويا، مع توقع ظهور 1.650 شاحنة ضخمة للسلع غير المعبأة من أحواض بناء السفن هذا العام وحده. وما دام حجم الحمولة المشحونة من السلع التجارية العالمية استمر في الزيادة بمعدل سنوي تتراوح نسبته ما بين 2 إلى 3 في المائة، يمكن أن تشكل زيادة المعروض عبئا أكبر بالنسبة لقطاع الشحن البحري.

وما أسهم بشكل خاص في الوفرة الكبيرة في سفن الشحن في الوقت الراهن تسليم أحواض بناء السفن عددا ضخما من السفن للمالكين منذ بداية العام. وكما هو الحال في انتظار مشتري السيارات لشراء سيارة عند طرح موديل العام، لأنها ستظل محتفظة بقيمة إعادة بيعها فترة أطول، عادة ما يتسلم مالكو السفن أكبر عدد ممكن من السفن في يناير حتى تحظى بروزنامة استخدام مكتظة لعام كامل قبل أن تحتفل السفينة بعيد ميلادها الأول، بحسب ناتاشا بويدن، المحللة في شركة «كانتور فيتزجيرالد» في نيويورك.

أما المشترون الذين تسول لهم أنفسهم رفض تسليم السفن فهم عرضة لخسارة ودائعهم، التي عادة ما تصل إلى 40 في المائة من سعر عقد السفينة. غير أن هناك صعوبة في اقتراض المال من المصارف المتعثرة لسداد باقي قيمة العبارة، خاصة أن قيمة إعادة البيع في الوقت الراهن أقل بكثير من الأسعار التي كانت عليها التعاقدات قبل أربع أو خمس سنوات.

وتقترب معدلات الشحن في الوقت الراهن من تكاليف التشغيل بالنسبة للعديد من شركات الشحن الضخمة، وهو ما لا يخلف شيئا لسداد الرهن العقاري، ولذا ربما تتعرض المزيد من السفن القديمة إلى النبذ خلال السنوات القادمة، وهو ما سيخفض في نهاية المطاف من زيادة العرض.

من ناحية أخرى، بلغ مجموع ما اقترضته السفن على مستوى العالم خلال العام الماضي ما يقرب من 100 مليار دولار، بانخفاض طفيف عن السنوات السابقة، وفقا لتقديرات الصناعة. لكن ما يقرب من ثلاثة أرباع القروض في العام الماضي ذهبت لإعادة التمويل أو إعادة هيكلة القروض السابقة التي سعى المقترضون بقوة إلى سدادها، بحسب تنفيذي تمويل الشحن.

ومن بين أبرز التساؤلات التي تطل على الساحة الآن ما إذا كان الهبوط في أسعار الشحن إشارة أيضا لمزيد من المشاكل في الاقتصاد العالمي أم لا، فقد تراجع الطلب العالمي على النفط إلى حد ما في الآونة الأخيرة بسبب ضعف النمو الاقتصادي، لذلك كانت هناك حاجة محدودة لمزيد من الناقلات لنقل النفط.

تكمن أكبر سوق لناقلات البضائع الضخمة في نقل خام الحديد إلى مصانع الصلب النهمة في الصين، لكن تباطؤ الطلب على العقارات هناك قوض الطلب على الصلب، فقد تباطأ معدل النمو السنوي للواردات الصينية من خام الحديد فجأة منذ أكتوبر (تشرين الأول).

ويشير هارلي سيدن، رئيس غرفة التجارة الأميركية في جنوب الصين، إلى أن العديد من مشاريع البناء قد تباطأ إلى حد يكفي بالكاد لإقناع البنوك بمواصلة تمويل المشاريع قيد التنفيذ.

بيد أن الوفرة المتزايدة في أعداد السفن، إلى جانب العوامل الموسمية، ربما تؤثر على موثوقية الشحن كمؤشر اقتصادي عالمي، فقد أدى سوء الأحوال الجوية مؤخرا قبالة سواحل أستراليا والبرازيل، حيث تقوم سفن الشحن الضخمة على الأرجح بنقل خام الحديد والبضائع الأخرى، إلى توخي الشركات الحذر بشأن تأجير السفن والمخاطرة بالانتظار لعدة أيام لإعادة فتح الموانئ بعد العواصف.

ما يثير مزيدا من الارتباك في الصورة العامة هو ارتفاع تكلفة شحن حاوية من الصين إلى الولايات المتحدة أو أوروبا، والتي قفزت خلال الأسبوعين الأولين من هذا العام، حيث سارعت بعض المصانع لتقديم الطلبات قبل فترة الإغلاق التي تصل إلى شهر للاحتفال بالسنة الصينية الجديدة، التي بدأت الاثنين. لكن ذلك قد يبدو قياسا خاطئا، وذلك لأن معدلات الحاويات تزيد بشكل مؤقت كل عام سنويا للإبحار الأخير قبل السنة الصينية الجديدة.

وحتى لو لم تشهد التجارة العالمية تباطؤا خلال الأشهر المقبلة، فلا يزال أمام صناعة النقل البحري طريق طويل لتقطعه قبل أن يتمكن الطلب على الشحن من التوافق مع السعة. وفي غضون ذلك، ربما تظل سفن الشحن الضخمة، وسفن الحاويات وناقلات النفط وسفن التبريد وهي بالمئات، مكتوفة الأيدي في الأمواج هنا، تعرض أجسامها قطاعات واسعة من الطلاء من شأنها أن تكون مغمورة إذا كانت السفن محملة بالكامل.

* خدمة «نيويورك تايمز»