لهذه الأسباب يتوقع خبراء عصرين ذهبيين للاقتصاد العالمي

أجمعوا على أن التوترات الجيوسياسية ستلقي بثقلها على توجهاته

TT

في أمسية شديدة البرودة في منتصف شهر يناير (كانون الثاني) التقى مجموعة من المصرفيين والناشرين في الدور الثاني والأربعون للمقر العالمي لشركة «غولدمان ساكس» في نيويورك.

وبحسب تقرير لـ«نيويورك تايمز» أعدته كريستيا فريلاند كان الحفل تكريما لمفكر «غولدمان ساكس» الذي حذر مجتمع الاستثمارات الغربي قبل عقد بأن العالم تحول نتيجة نهضة الأسواق الناشئة وبشكل خاص، العمالقة الأربعة الكبار التي أسماها جيم أونيل، كبير الاقتصاديين في «غولدمان ساكس» بدول «بريكس» (البرازيل وروسيا والهند والصين).

وأكد أونيل في كتابه الجديد الذي نشره «خارطة النمو: فرصة اقتصادية في دول بريك وما وراءها» أن فكرة بريك أصبحت قصة مهيمنة لجيلنا وسمى إحدى عشرة سوقا ناشئة قادمة ستنضم إلى دول بريكس.

ولكن هناك قوة أخرى هي التي تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي اليوم، والمديرين التنفيذيين في «غولدمان» الذين شربوا نخب أونيل هم المثال على ذلك، من الارتفاع، في الاقتصادات الغربية المتقدمة، بنسبة 1 في المائة وتكون ما وصفه الكثيرون بعصر ذهبي جديد. في القرن التاسع عشر، خلقت الثورة الصناعية وفتح الحدود الأميركية العصر الذهبي ورجال الأعمال الذين سيطروا عليه. واليوم، في الوقت الذي يجري فيه حاليا إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي والثورة التكنولوجية والعولمة، سيخلق هذا التحول الاقتصادي الناجم عن ذلك عصرا ذهبيا جديدا ونخبة ثرية جديدة.

ترتبط القوتان بشكل معقد، فنحن في الواقع نعيش عصورا ذهبية مختلفة إلى حد ما تتكشف معالمها بشكل متزامن. فالغرب يمر بعصر ذهبي ثانٍ في الوقت الذي تمر فيه الأسواق الناشئة كما وثق أونيل وآخرون بأول عصر ذهبي.

سيكون التحول الاقتصادي الناجم عن ذلك أكثر تأثيرا مما كان عليه في العصر الذهبي، فهناك مليارات من الأفراد الذين يشاركون في نطاق واسع من الكرة الأرضية لا السكان القاطنون في الغرب فقط.

ويقول مايكل سبنس، الاقتصادي الحائز على جائرة نوبل، ومستشار الحكومة الصينية في الخطة الخمسية الثانية عشرة ومؤلف كتاب «التقارب القادم: مستقبل النمو العالمي في عالم متعدد السرعات»: «إنه أكثر تطرفا من الناحية البنيوية بأبعاد متعددة. وبما أن الأسواق الناشئة الآن صارت كبيرة جدا تحول ذلك إلى مشكلة أكبر. وهي تختلف تماما عن التغير الاقتصادي السابق لدرجة أنني أعتقد أن هذه هي القضايا التي لم نصارعها من قبل».

وأضاف سبنس: «خلال المائتي عام التي تلت الثورة الصناعية البريطانية وحتى الحرب العالمية الثانية كانت هناك تباين في الاقتصاد العالمي، لكن العالم بأكمله لم يكن صناعيا ولم يكن يتفاعل بنفس الطريقة. هناك ظواهر معقدة وينبغي علينا التعامل معها بكل تواضع».

العصر الذهبي للأسواق الناشئة أسهل في الفهم، فالصين والهند وأجزاء من أميركا اللاتينية وأفريقيا تقوم بالتصنيع والتحضر، كما فعل الغرب في القرن التاسع عشر، إضافة إلى جانب الجاذبية الإضافية للثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة. دول الاتحاد السوفياتي السابقة ليست دولا صناعية - ستالين هو من قام بذلك - لكنهم يحاولون استبدال نظام تخطيط مركزي فاشل قام بتنسيق اقتصاداتها العتيقة بنظام سوق ولذا تشهد العديد من هذه الدول الآن ارتفاعا في مستويات الدخل نتيجة لذلك. وسيكون الأفراد في كل الاقتصادات الناشئة هم الأكثر استفادة لكن التحول يسحب في الوقت ذاته الملايين من الأفراد إلى الطبقة الوسطى ويرفع مئات الملايين من الفقر المدفع.

كان انهيار الشيوعية أكثر من مجرد حاشية للعصرين الذهبيين اللذين نشهدهما اليوم. فلا يزال المؤرخون الاقتصاديون يبحثون عن صلة بين نهضة الديمقراطية الغربية، والعصر الذهبي. ولكن ربما يكون هناك شك في أن العصرين الذهبيين في الوقت الحاضر هما نتاج الثورة السياسية - انهيار الشيوعية وانتصار الفكرة الليبرالية في جميع أنحاء العالم - كما هو الحال بالنسبة للتكنولوجيا الجديدة.

بالنسبة للأسواق الناشئة التي تمر بعصرها الذهبي الأول، في الوقت الذي يمر فيه الغرب بالعصر الذهبي الثاني سيجعل ذلك الأوضاع سهلة وصعبة. وأحد الأسباب في ذلك هو أن هناك طريقا ينبغي سلوكه، ونحن نعلم أن الضربات المؤلمة عبر الطريق دائما ما تأتي بنهايات سعيدة، فقد طورت الثورة الصناعية حياة جميع الأفراد في الغرب وفتحت فجوة واسعة في مستويات المعيشة بين الشرق والغرب لا تزال سائدة حتى اليوم.

لا توجد مثل هذه النماذج في زمن العصر الذهبي - تذكر أنه كانت هناك طاحونات شيطانية مظلمة للثورة الصناعية التي ألهمت في نهاية المطاف الثورة ضد الرأسمالية والبنيان الدموي من قبل أولئك الثوار الذين نجحوا من نظام اقتصادي وسياسي بديل. لكن الأدلة اليوم على نجاح الرأسمالية واضحة وليس فقط في حطام الشيوعية.

وقد أسهمت القوة المشتركة للعولمة وثورة التكنولوجيا في دفع التحول الاقتصادي للأسواق الناشئة، ولعل ذلك كان السبب في إثبات أطروحة دول بريكس لأونيل صحتها على نطاق واسع.

وأوضح المسح الذي شارك فيه 10,000 من خريجي كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد الأسبوع الماضي هذه الفجوة، فقد أظهر المشاركون في المسح قلقا بالغا إزاء القدرة التنافسية لاقتصاد الولايات المتحدة في العالم - 71 في المائة ويتوقع أن ينخفض خلال السنوات الثلاث المقبلة.

لكن هذا الاهتمام الواسع يبدو مختلفا للغاية عندما تسأل كم سيتقاضى العمال في الاقتصاد العالمي الآخذ في التحول، وكيف ستتصرف الشركات تلقاء ذلك إذ يعتقد ما يقرب من ثلثي خريجي جامعة هارفارد لإدارة الأعمال أن الشركات ستكون أقل قدرة على دفع الأجور المرتفعة والأرباح، في حين أعرب أقل من النصف عن قلقهم من أن الشركات الأميركية ستكون أقل قدرة على تحقيق النجاح.

ويقول مايكل بورتر، الأستاذ الذي قاد الدراسة: «عندما تكون شركة مضغوطة ولديها العديد من المشكلات، يكون لديها نطاق الخيارات أكثر مما يفعله العامل الأميركي».

بالنسبة للطبقة الوسطى الغربية، ستكون الخيارات محدودة بشكل كبير.

ويقول جون فان ريم، رئيس مركز الأداء الاقتصادي في كلية لندن للاقتصاد: «من السهل القول، الحصول على مزيد من التعليم، لكن إذا ما كنت في سن الأربعين أو الخمسين سيكون من الصعب القيام بذلك. في الخمسة عشر عاما الأخيرة سيكون من يعاني هم الطبقة الوسطى».

ويشير فان ريفن الذي يدرس في كلية لندن لإدارة الأعمال في كاليفورنيا هذا الشهر، إلى أن هذه التوترات كانت تتراكم منذ سنوات، لكنها تفاقمت في ظل الأزمة المالية. وهو ما أدى إلى قيام موجة من الاحتجاجات الشعبية كان من بينها حركة حفل الشاي على اليمين و«احتلوا وول ستريت».

وقال: «هذه الأشياء كان تجري على مدار عقود، وما حدث مع بداية الأزمة المالية العالمية هو أن كل هذه الأشياء تتحول إلى بديل حاد».

ويقول أشوتش فارشني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة براون في رود أيلاند، خلال كلمته في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في مومباي في نوفمبر (تشرين الثاني): «العصران الذهبيان يسابق كل منهما الآخر صعودا، فالعصر الذهبي في الهند سيكون توليفة من العصرين الذهبيين الأول والثاني لأميركا».

وأضاف فارشني، الذي ولد في الهند وقضى شطرا من حياته في بنغالور: «ستمر الهند بهذه الظاهرة في القرن الحادي والعشرين على الرغم من اختلاف سرعة انتقال المعلومات في القرن التاسع عشر اختلافا كبيرا. فاليوم هناك 800 مليون هندي يستخدمون الهواتف الجوالة».

وقد يتصادم العصران الذهبيان، فكحال العديد من التفسيرات الجيدة للأزمة المالية عام 2008 ستكون النتيجة التصادم بين العصر الذهبي للصين والعصر الذهبي للغرب. وقد لعبت التباينات المالية التي تشكل جزءا أساسيا من النموذج الصيني القائم على التصدير دورا في تضخيم فقاعة الائتمان التي انفجرت بمثل هذه العواقب المدمرة في عام 2008.

وينطوي العصران الذهبيان على الكثير من السمات المشتركة ويعزز كل منهما الآخر. لكن تحولات كليهما تخلق توترا سياسيا وضغوطا مجتمعية، ربما لأن التغير صعب على الدوام وجزئي لأن الفوائد من هذا النوع من التحول المضطرب متباينة إلى حد بعيد.

علاوة على ذلك، لم يعد لدى العالم كله صمام الهروب، على الأقل لبعض الوقت، الذي أطلق سراح بعض ضغوط الثورة الصناعية فالجماهير المحتشدة في أوروبا يمكنها الهجرة إلى العالم الجديد. وحتى مع هذا الخيار، يجدر بنا أن نتذكر، في نهاية المطاف أن حل النزاعات وعدم المساواة الناجمة عن التصنيع والتحضر في الغرب لم تأت إلا بعد نصف قرن من الثورة والحرب.

ويقول فان رينان: «الأمر يعتمد على أفق الزمن، فرغم كل شيء كان الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية تكلفة ضخمة للإنسانية. وفي النهاية ستزدهر الإنسانية. وقد نجحت الرأسمالية لكن على المدى المتوسط، 30 أو 40 عاما، يمكن أن تحدث اختلالات هائلة».