مفارقة اقتصادية على الحدود الفرنسية ـ الألمانية

ارتفاع البطالة في فرنسا.. وانخفاضها على بعد خطوات في ألمانيا

ميركل وساركوزي في مؤتمر صحافي مشترك (رويترز)
TT

تثري مدينة إيميندينجين القديمة، في قلب الألزاس، الإنسانية بشكل استثنائي منذ القرن الخامس عشر، لكن على الجانب الآخر من الحدود تعاني مدينة سيلستا من ارتفاع معدل البطالة، حيث وصل إلى نحو 8% وهو معدل يفوق البطالة في المدن الألمانية التي تقع على الجانب الآخر من الحدود. لا تزيد مساحة مدينة إيميندينجين الألمانية ذات الـ27 ألف نسمة كثيرا عن مدينة سيلستا التي تبعد عنها نحو 20 ميلا، ويقل معدل البطالة بها عن 3%. وفي الوقت الذي يبلغ فيه معدل البطالة بين من هم دون الـ25 في سيلستا 23%، يبلغ معدل البطالة في إيميندينجين 7% فقط.

الاختلاف الكبير بين الظروف الاقتصادية في المدينتين شاسع، خاصة بالنظر إلى الروابط الثقافية بين المدن الحدودية في تلك المنطقة. وهناك جدل كبير حول أسباب هذا الاختلاف، وكان محور الحملة الانتخابية الرئاسية الفرنسية.

ويقول الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي يحاول جاهدا الفوز بفترة رئاسية ثانية، صراحة إن الفرنسيين ينبغي أن يكونوا مثل الألمان. وأدهش الألمانيين خلال مقابلة تلفزيونية أخيرة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حين كرر كلمة ألماني أو ألمانيا لـ15 مرة على الأقل أو بمعدل مرة كل دقيقة.

وتبقى القضية الأساسية بالنسبة لساركوزي هي توفير فرص عمل، حيث وصل معدل البطالة في فرنسا إلى أعلى مستوى له منذ 12 عاما ولا يزال في ارتفاع، في حين بلغ معدل البطالة في ألمانيا 7.4% وهو أقل معدل لها منذ الوحدة عام 1991.

وأوضح ساركوزي أنه في حال فوزه بفترة رئاسية ثانية سوف يجري استفتاء على خلق سوق عمل أكثر مرونة اقتداء بألمانيا. إنه يريد توفير عدد أكبر من الوظائف بدوام جزئي مثل الألمانيين وتقديم الدعم الحكومي للمزيد من الوظائف للشباب وزيادة ضريبة القيمة المضافة من أجل خفض تكاليف الرفاهة الاجتماعية بالنسبة لأصحاب العمل كما يفعل الألمان.

ويرفض خصمه الاشتراكي، فرنسوا هولاند، أكثر تلك الأفكار ويفضل اتخاذ إجراءات أكثر اشتراكية مثل زيادة إنفاق الدولة على التعليم وتوفير فرص عمل. ويعجب الكثير من الفرنسيين بالألمان، لكنهم لا يريدون أن يحذوا حذوهم. ويقول ألكسندر بوير، البالغ من العمر 52 عاما ويعمل في سيلستا مع شباب يعانون من مشكلة البطالة منذ فترة طويلة: «لم نعد عام 1945، لقد كان هذا نموذجا ألمانيا أيضا».

توترت علاقة ساركوزي بميركل، لكنها عادت إلى التحسن بشكل ملحوظ تحت ضغط أزمة الديون الأوروبية الطاحنة، فضلا عن ذلك كانت ميركل تعتزم التخطيط لحملته الانتخابية في الماضي، لكن يبدو أنها تراجعت مؤخرا عندما اتضح لها أن دعمها المعلن له سيضر به أكثر مما ينفعه، حيث سيجرح ذلك الكبرياء الفرنسي ويجعله يبدو مثل المستجدي.

مع ذلك، يراهن ساركوزي على أن المشاكل الاقتصادية الفرنسية من زيادة معدل البطالة بين الشباب وانخفاض الصادرات سوف تدفع الناخبين إلى تجاوز ترددهم العميق وتجعلهم أكثر استعدادا لتقبل النموذج الألماني. مع ذلك لم تتضح بعد ما سينتج عن هذا وما إذا كان الفرنسيون سوف يتبنون هذا النموذج أم لا.

الأمر الواضح بشدة هو أن الاقتصاد الألماني متفوق كثيرا عن الاقتصاد الفرنسي وأن الهوة بينهما تتسع كل عام، فقد حافظت ألمانيا على قاعدتها الصناعية والحد الأدنى من التنافسية سواء من حيث التكنولوجيا أو التكلفة، بينما يفتقر الفرنسيون إلى قطاع عريض من المشروعات الصناعية المتوسطة وباتت فرنسا تعتمد على قطاع الخدمات بشكل أكبر. وتراجع نصيب فرنسا من الصادرات العالمية، بينما يتزايد نصيب ألمانيا منها. وفي حين ازدادت رواتب الفرنسيين، انخفضت رواتب الألمان مما جعل من العمالة الفرنسية عمالة أكثر تكلفة وأقل إنتاجية وتنافسية. هناك مبالغة في الإجراءات الاجتماعية الفرنسية التي تهدف إلى حماية العاطلين عن العمل، خاصة بعد اتجاه الألمان إلى ما يسمى بإصلاحات «هآرتس»، التي وضعت حدا أقصى لإعانة البطالة وهو 12 شهرا. على الجانب الآخر في فرنسا، يحصل من هم أقل من 50 عاما على إعانة بطالة لمدة 23 شهرا، بينما يحصل من هم أكبر من 50 عاما، الذين عادة ما لا يحصلون على وظيفة بعد هذا العمر، على إعانة بطالة لمدة 3 سنوات. ونتيجة دفع هذه الإعانات، تكون تكلفة ساعة العمل أكبر في فرنسا بنسبة 11%. على الجانب الآخر، لا يوجد شعور بالأمان الوظيفي في ألمانيا وهناك عدد أكبر من الوظائف ذات الدوام الجزئي. ولا يوجد حد أدنى ثابت للأجور في ألمانيا، بينما يوجد في فرنسا.

تتضح النتائج العملية لهذه التوجهات أكثر ما تتضح على تلك المدينتين الحدوديتين، حيث تتشابه المشروعات الصناعية، التي أكثرها ما بين شركات أو مصانع صغيرة إلى متوسطة للمشغولات المعدنية. على سبيل المثال فرص عمل على الجانب الألماني من الحدود أكبر من تلك الفرص في الجانب الفرنسي من الحدود بمقدار 10 أمثال على حد قول نوربرت ماتوسك، الذي يعمل على التعاون الحدودي في هيئة التوظيف الفيدرالية الألمانية في فرايبورغ.

وفي الوقت الذي يعبر فيه بعض الألمان الحدود للعمل في فرنسا، يقوم القليل من الفرنسيين بهذا الأمر باستثناء مواسم العمل في المتنزه الترفيهي الكبير «يوروبا بارك» الذي يعد الأكبر في ألمانيا وثالث أكبر متنزه في أوروبا ويجذب عددا كبيرا من الزوار الذين يتحدثون الفرنسية.

وقال ماتوسك: «لدينا وظائف شاغرة حاليا لـ70 سائق شاحنات ضخمة، لكن المشكلة الرئيسية تكمن في عدم إجادة الفرنسيين للغة الألمانية». ويؤدي هذا إلى عدم تأهلهم لشغل تلك الوظائف، كذلك لم يعد الشباب هنا يتحدثون لهجة الألزاس التي كانت منتشرة على جانبي الحدود يوما ما. ويقول عمدة إيميندينجين، ستيفان شلاترير: «توجد فرصة عمل هنا لأي شخص يمكنه أن يعد حتى 10»، لكنه أشار إلى أن العد يجب أن يكون باللغة الألمانية.

رواتب الوظائف نفسها على الجانب الألماني من الحدود أكثر ارتفاعا، والسلع أرخص ثمنا، وتكلفة توظيف عاملين بدوام كامل أقل والعلاقة بين العمال الألمان ورؤسائهم في العمل أكثر مرونة وتخلو من اللوائح المركزية كما هو الحال في فرنسا.

مع ذلك ربما تثير الصرامة الألمانية إعجاب الفرنسيين، حيث يتردد الفرنسيون في تقديم التضحيات نفسها مثل العمل لساعات إضافية وتحمل عدم الشعور بالأمان الوظيفي.

وأوضح بوريس غورديال، مدير فرع فرايبورغ من هيئة التوظيف الفيدرالية الألمانية، أن عقلية الفرنسيين تختلف عن عقلية الألمان رغم تاريخهم المشترك وتقاربهم. وقال: «الفرنسيون يعملون حتى يعيشوا، بينما يعيش الألمان ليعملوا». وما زال لهذه العبارة صدى وانتشار واسع حتى هذه اللحظة. وتبتسم زميلته الفرنسية، روكسان بيريل، مديرة مكتب توظيف في سيلستا، بأدب وتوضح أن الفرنسيين ينجبون أطفالا أكثر من الألمان وعدد النساء العاملات أكبر، وهو يفوق عدد الباحثات عن عمل. رغم ذلك تقر أن أداء الشباب الألمان خلال التدريب على العمل أفضل، خاصة في ظل نظام التدريب الموحد الذي يطبق في جميع أنحاء الدولة والذي يريد ساركوزي أن يطبقه على نطاق أوسع في فرنسا. وقالت روكسان: «ربما يكون النظام مختلفا، لكن تبحث جميع المشروعات على جانبي الحدود عن الكفاءة».

ويرى الكثير من الخبراء في مجال العمل أن نظام التدريب في ألمانيا من المزايا التنافسية الهامة، حيث تعمل على تدريب طلبة الجامعات وهم في الـ16 من العمر على المهارات الصناعية مع استكمالهم لدراستهم للحصول على شهادة علمية والعمل بعد ذلك مقابل راتب محدد. ويحصل أكثرهم على وظائف بدوام كامل في شركات لها استثمارات في مجال التدريب.

على عكس باقي أنحاء فرنسا، يوجد في مقاطعة الألزاس، التي كانت جزءا من ألمانيا ذات يوم، نظام تدريب قديم. مع ذلك يوجد نظام فرنسي «يقوم على التزامن» للتعليم الفني، ويجمع بين التعليم والعمل، لكنه أقل انتشارا بين الشركات وأقل شعبية.

لا يزال يرى الكثير من الآباء الفرنسيين وأبنائهم الحصول على شهادة مهنية أو تدريب مهني عوضا عن شهادة جامعية دليلا على الغباء أو الفشل على حد قول بيريل. وأضافت: «علينا إقناع الشباب نظرا لعدم تقبل هذه الفكرة داخل الأسرة». وتشير إلى أن هذا يعني في فرنسا «أنك طالب فاشل، أما في ألمانيا فلا يتم التقليل من قيمة المرء».

مع ذلك بدأت روكسانا ملاحظة بعض التغيير، حيث قالت: «تعمل الشركات مع المدارس هنا من أجل تعزيز فكرة التدريب». ويزداد عدد الشباب الذين يفضلون الحصول على راتب من وظيفة محترمة عن البطالة.

ويلاحظ عمدة سيلستا، مارسيل بوير، وعدد سكان المدينة البالغ 21 ألف نسمة، هذا التغيير، حيث يعبر عن فخره بنظام التدريب المحلي في المدينة ويعتقد أنه يجب أن يطبق في جميع أنحاء البلاد. وعلى عكس ألمانيا حيث يتاح للولايات والمجالس المحلية وضع القوانين الخاصة بهم، تريد وزارة التعليم في فرنسا أن يكون لها السيطرة الكاملة. ويأسى مارسيل على الصراع المستمر في سوق العمل في فرنسا. ويقول: «يقبل العاملون الألمان فكرة ضرورة بذل الجهد في وقت الأزمة ويعملون لوقت أقل ومقابل أجر أقل من أجل الحفاظ على وظيفتهم، بينما يتحول الوضع عندنا إلى ساحة معركة وإضرابات ومظاهرات».

ويعمل العمدة، الذي تولى منصبه منذ عام 2001، على الترويج لتعلم اللغات لتتاح للطلبة في المدينة تعلم اللغة الألمانية. ويحاول الترويج لبرامج التدريب المحلية بالتعاون مع الألمان ومنهم عمدة مدينة إيميندينجين. يتحدث كل من بوير وشلاترير بحماسة عن أهمية التعاون بين فرنسا وألمانيا. ويقول شلاتيرير: «أشعر أن الفكرة الأوروبية أقرب ما تكون إلى شراكة بين فرنسا وألمانيا. تصبح أوروبا في حال أفضل عندما يكون هناك علاقة وطيدة بين فرنسا وألمانيا».

* شاركت مايا دي لابوم في إعداد هذا التقرير

* خدمة «نيويورك تايمز»