المسلمون في «وول ستريت»: تقارب حذر بين ثقافتين

استطاعوا تعديل الحدود في إطار المسموح به دون تعارض مع الهوية

من اليسار: نايل إقبال، وعلي أكبر، وعائشة جوكاكو، من المسلمين العاملين في قطاع المال بنيويورك (نيويورك تايمز)
TT

لم يستطع زملاء نايل إقبال في العمل فهمه. لقد التحق لتوه بالعمل في أحد صناديق التحوط في منطقة ميد تاون مانهاتن، وهي منطقة راقية من ذلك النوع الذي يذهب إليه الطلاب المتفوقون لكسب بضع مئات من الآلاف قبل أن يتوجهوا إلى كلية هارفارد للأعمال. لكن إقبال (27 عاما)، المتخرج في كلية وارتون، لم يكن يتصرف مثل أي موظف مالي عادي. لم يقدم نفسه لزملائه بالمكتب، أو يذهب لتناول الغداء معهم.

بل والواقع أنه لم يتناول أي طعام أو شراب على الإطلاق، لا قهوة أو صودا أو حتى رشفة ماء من زجاجة المياه المعدنية الموضوعة على مكتبه. كل ما فعله طوال اليوم هو أن ظل جالسا مكانه، يتطلع إلى جهاز الكومبيوتر الموجود على المكتب أمامه. أهو مريض؟ أهو معتل المزاج؟ أهو إنسان غامض؟

لا شيء مما سبق: إنه مسلم يصوم شهر رمضان، وهو مرهق من الصيام كل يوم حتى المغرب.

يتذكر إقبال ذلك الموقف ضاحكا: «أنا في الحقيقة محب للطعام. بعد نهاية شهر رمضان، أصاب بهوس، وأبدأ في التنقل من مطعم إلى آخر. لم يكن أحد قد رأى هذا الجانب من شخصيتي».

ويعد إقبال من ضمن عدد متزايد من الشباب المسلمين الذين يخالفون ثقافة خريجي «وول ستريت»، فالمنطقة، بالنظر إليها من زاوية معينة، قد تبدو أشبه بمشهد ثابت لا يتغير: زمرة من الذكور البيض الحاصلين على شهادات من الاتحادات الرياضية الجامعية ويحملون أسماء أرستقراطية (وينطبق هذا بصورة خاصة كلما ارتفعت إلى مستويات أعلى، فأنت لن تجد مثلا رؤساء تنفيذيين من السود أو الإناث داخل أكبر المؤسسات المصرفية في البلاد).

ولكن مع تكيف حي المال مع زيادة الإجراءات التنظيمية وتراجع الأرباح وضغط التكاليف، فهو يشهد كذلك تغييرا داخل صفوفه، حيث أدى اتجاه المصارف الكبرى منذ سنوات للتركيز على استقدام الموظفين الماليين المبتدئين إلى ظهور مجموعة متنوعة من رجال المال الطموحين.

ومن الممكن أن يواجه الشباب المسلمون، وهم من أحدث الفئات التي غزت عالم المال الأميركي، عقبات كبيرة في سبيل الدخول إلى ذلك العالم، وبعض هذه العقبات هي من بقايا عهد سابق كان أقل تقبلا لوجودهم، ولكن تبرز أيضا القيود التي يفرضها الإسلام نفسه، وهو دين يقول العاملون المسلمون إن تعاليمه تبدو في الغالب متعارضة مع ثقافة «وول ستريت»، التي تصبح أحيانا قمة في الفجور.

يقول إقبال: «أنا دوما من يشرب المياه الغازية الخالية من السكر في الحفلات».

صحيح أن العمل في وول ستريت قد لا يسبب أي مشكلة بالنسبة للمسلمين الكثيرين الذين يعيشون في نيويورك وغيرها ممن تمكنوا من التصالح مع ثقافة أكثر علمانية، كما أن المسلمين بالطبع ليسوا هم الوحيدين الذين قد تتصادم قيمهم مع الطرق السائدة في وول ستريت، فاليهود المتشددون والمسيحيون المحافظون وغيرهم من أصحاب الديانات الذين يعملون في مجال المال والاستثمار، كلهم اضطروا في لحظة ما إلى توفيق معتقداتهم وممارساتهم مع بيئة تعتبر السلطة الحاكمة فيها هي المال وليس الدين.

ولكن بالنسبة للمسلمين الملتزمين الذين يأملون في المحافظة على قيم الشريعة الإسلامية وممارساتها كما هي بينما يرتقون السلم المهني درجة درجة، فإن الحسابات قد تكون مختلطة تماما.

لقد لاقت عائشة جوكاكتو، محللة سابقة في مجال الرعاية الصحية بمؤسسة «غولدمان ساكس»، تحديات إضافية عند دخولها عالم المال، فهي ترتدي الحجاب منذ كانت في الحادية عشرة من عمرها، وتحرص، مثل الكثيرين من المسلمات المحافظات، على تحاشي ملامسة الرجال من غير الأقارب (لكنها تستثني من ذلك مصافحة من يمد إليها يده في إطار العمل، حتى لا يكون ذلك تصرفا غير لائق منها).

تقول جوكاكتو عن مصافحة الرجال باليد: «هذا ليس أمرا أريد أن أفعله. لكن هذه هي الطريقة الأميركية الشائعة في المعاملات الرسمية».

وخلال فترة عملها في «غولدمان ساكس»، التي امتدت من عام 2006 إلى عام 2008، اكتسبت عادة يومية جعلتها تحافظ على معتقداتها الدينية وفي نفس الوقت لا تؤثر على عملها، فكانت تستيقظ قبل شروق الشمس في شقتها التي تقع في منطقة «باتيري بارك سيتي»، وتؤدي أولى صلواتها اليومية الخمس، ثم تعود إلى النوم حتى نحو الساعة 8:30 صباحا، وهو موعد توجهها إلى العمل.

وكانت تحرص أثناء فترة عملها في المصرف على ارتداء ملابس أكثر احتشاما من معظم زميلاتها، كما عثرت على غرفة في المركز الصحي التابع للشركة تستطيع الصلاة فيها أثناء النهار.

وفي أحد الأعوام، أثناء شهر رمضان، أشفق عليها أحد مديري الموارد البشرية حين رأى حجم التعب الذي بدا عليها بعد انتهائها من كمّ هائل من العمل وهي بمعدة خاوية.

تقول جوكاكو، التي تعمل حاليا مستشارة مالية خارجية: «قال لي: (لا تثقلي على نفسك في الأسبوعين المقبلين. الأمر ليس مزحة بالنسبة لك)».

تعد مثل هذه المفاوضات الدقيقة جزء من حياة الكثير من المسلمين في عالم المال. يقول علي أكبر، مدير تنفيذي في «أر بي سي كابيتال ماركتس» يبلغ من العمر 34 عاما، إنه على الرغم من التزامه بصيام رمضان، لا يواظب على أداء الصلوات الخمس يوميا ولا يصلي في مكتبه حتى لا يلفت أنظار زملائه في العمل. وعندما تتعارض متطلبات عمله مع تعاليم دينه، كثيرا ما يضطر إلى اتخاذ اختيار صعب. ويوضح قائلا: «لا يمكنك أن تنهض خلال اجتماع يتم لعقد صفقة وتقول إن عليك قضاء ساعتين في المسجد». العمل في عالم المال مريح عندما يكون في دولة إسلامية، حيث يكون هناك أوقات مخصصة للصلاة ويحصل العاملون على إجازات عيد الفطر، في حين لا يكون الوضع يسيرا في هذا الشأن بالنسبة للمصرفيين المسلمين في الولايات المتحدة، حيث لا يوجد أماكن مخصصة للصلاة ويمكن أن يعني مغادرة المكتب لأداء صلاة الجمعة في مسجد إسناد مهام في العمل إلى زميل.

يقول رشدي صديقي، رئيس المعاملات المالية الإسلامية في «تومسون رويترز»: «لدينا مفهوم يسمى مبدأ الضرورة. عليك الالتزام إلى حد ما بالقوانين المعمول بها في الدولة التي تقيم بها، سواء كانت قوانين رسمية أو عرفية. ربما يكون العائق الأكبر الذي يحول دون مشاركة المسلمين في «وول ستريت» هو تحريم الربا في القرآن، بحسب بعض التفسيرات. وقدم بعض علماء الدين المسلمين تفسيرا أكثر رحابة في هذا الشأن ليتلاءم مع المعاملات المالية في العصر الحالي، بحيث ينظر إليه في إطار نظام تقبله الشريعة الإسلامية يعرف بالصكوك في محاولة لجسر تلك الهوة. مع ذلك لا تتناسب أغلب معاملات «وول ستريت» مع الشريعة الإسلامية، لذا كثيرا ما يُضطر المسلمون الملتزمون بدينهم، الذين يعملون في المصارف التقليدية إلى تعديل حدودهم. وتقول عائشة عن عملها في «غولدمان»: «لم يكن ما أقوم به مطابقا للشريعة الإسلامية تماما، لكن بعد فترة أعتقد أن المرء يكف عن الشعور بالذنب». كوّن ثلاثة من المسلمين في العشرينيات من العمر عام 2006 جماعة لمساعدة الشباب الذين يعملون في هذا المجال على مناقشة ما يطرأ من قضايا. وبدأت منظمة «إربان بروفيشنالز» الإسلامية كمجموعة تتكون من 50 عضوا، تبادلوا فيما بينهم الرسائل الخاصة بفرص العمل وإعلانات الشقق المعروضة للإيجار وحفلات عشاء جماعية. ووصل عدد الأعضاء إلى 1000 حول العالم، أي نحو نصف العاملين في مجال المال بحسب إقبال، الذي يعمل في صندوق تحوط، والذي تولى منصبا إداريا في الجماعة حاليا. ومع تزايد عدد أعضاء الجماعة، بدأت تطفو أسئلة عن أمور خاصة على السطح. في بداية العام الحالي، أرسل أحد الأعضاء الذي كان على وشك بدء العمل في إحدى الشركات الاستشارية الشهيرة، رسالة بالبريد الإلكتروني إلى الجماعة طلبا للنصيحة. وسأل عما إذا كان في مقدوره تحقيق النجاح في هذه الوظيفة الجديدة من دون التخلي عن مبادئ وقيم دينه. وتلقى عددا كبيرا من الردود على رسالته التي كانت بعنوان «تجنب تناول الكحول ومصافحة الجنس الآخر في عالم المؤسسات». وتباينت الردود فيما يتعلق بأمر الكحول، حيث تراوحت بين التحرر والاعتدال والتشدد، فقد كان هناك من يرى أن ارتياد الحانات مع زملاء العمل مسموح به، ومن يرى أنه من غير المستحب حضور الحفلات التي يعد أساسها تناول الخمور، دون أن يرى بأسا في حضور حفلات عشاء يقدم خلالها خمور، ومن يرى أن الذهاب إلى الأماكن التي تقدم خمور حرام. وكتب المستشار: «الرأي الغالب هو أنه من المستحب مغادرة أي تجمع يتم تقديم الخمور فيه، لكن يرى الكثيرون أن الجلوس في هذا الجمع مباح». أما فيما يتعلق بأمر مصافحة الجنس الآخر، فرأى البعض أن مصافحة النساء مباح إذا كانت المرأة هي من مدت يدها لمصافحته، لكن لا ينبغي أن يمد الرجل يديه لمصافحتها. ورأى البعض الآخر ضرورة التوصل إلى «طريقة لتفادي» المصافحة مثل التظاهر بالمرض أو ارتداء قفاز. وكتب المستشار معبرا عن رأيه: «أعتقد أن المسلمين مفرطو الحساسية ويقللون من شأن زملائنا. يتفهم الناس في مجتمعنا هذه الأمور، لكننا نهلع عندما نفكر في رأيهم فينا إذا امتنعنا عن مصافحة امرأة. ثق في الله وهو سيهديك ويرشدك ويعوضك بخير من ذلك».

كذلك تعتمد منظمة «إربان بروفيشنالز» على شبكة من المستشارين الأكبر سنا والأكثر خبرة في عالم المال والاستثمار. من هؤلاء افتخار أحمد، أحد الشركاء في «أوك إنفيستمنت بارتنرز»، التي تقول إن المنظمة تلبي حاجة ملحة في المجتمع.

وقال أحمد: «إنهم يخبرونك بأنك تستطيع أن تعيش نمط حياة أميركيا، دون أن يتعارض ذلك مع هويتك كمسلم».

وقال محمد العريان، الرئيس التنفيذي لشركة «بيمكو» العملاقة التي تعمل في مجال السندات، وأحد أبرز المسلمين العاملين في عالم المال، في مقابلة عن طريق البريد الإلكتروني، إنه لم يواجه أي «عوائق متعلقة بالدين» طوال سنوات عمله في هذا المجال، التي تمتد لعقود. وقال إنه ينصح الشباب المسلم بالبحث عن فرص عمل وشركات تتواءم مع قيمهم وتجربتهم ومشاعرهم.

ما لم يقله الكثير من المسلمين البارزين، لكن يفهمه الكثير من أعضاء المنظمة، هو أن المسلم يستطيع أن يكون ملكا لصاحب العمل والعملاء. على سبيل المثال، ربما يُضطر مصرفيون مسلمون إلى مغادرة العمل في الواحدة ظهرا يوم الجمعة للصلاة في المسجد، لكنهم لن يتمكنوا في تلك الحالة أن يصلوا إلى مرتبة مرتفعة في الشركة، في الوقت الذي يستطيعون فيه أن يصلوا إلى مكانة أفضل في أسواق الدول العربية.

*خدمة «نيويورك تايمز»