خريجو الجامعات الأميركية يتجهون إلى برامج التدريب دون أجر

في ظل ندرة الوظائف وأوضاع السوق

TT

في ظل أوضاع سوق الوظائف التي تعد الأسوأ منذ عقود، بدأ كثير من الخريجين الجامعيين، الذين كانوا يتوقعون الحصول على وظيفة بأجر، في الاتجاه نحو برامج التدريب العملي دون أجر، في محاولة لإيجاد موطئ قدم لأنفسهم داخل أي شركة من الشركات.

ورغم أن برامج التدريب العملي دون أجر بعد التخرج في الجامعة موجودة منذ زمن طويل في مجالي السينما والمنظمات غير الهادفة إلى الربح، فقد انتشرت مؤخرا في بيوت الأزياء ودور نشر الكتب والمجلات وشركات التسويق وشركات العلاقات العامة والمعارض الفنية ووكالات الموهوبين، بل وحتى بعض شركات المحاماة.

وقد تقدمت ميليسا رييس، التي تخرجت في كلية ماريست في شهر مايو (أيار) الماضي وتحمل شهادة في تسويق الأزياء، بطلبات التحاق بأكثر من 10 وظائف دون جدوى، لكنها سعدت بالحصول على منحة تدريب عملي لدى بيت أزياء «دايان فون فرستنبرغ» في حي مانهاتن. وهي تقول: «كانوا يتحدثون عن مدى فائدة هذا التدريب العملي في التعلم».

لكن رييس سرعان ما أصبحت غير سعيدة بالتجربة؛ فقد كانت تعمل في معظم الأحيان من الساعة التاسعة صباحا حتى الساعة التاسعة مساء لمدة خمسة أيام في الأسبوع. وتعقب قائلة: «كانوا يرسلونني كي أشتري لهم طعام الغداء. كانوا يسندون إليّ مهمة تنظيف الحمامات، كي أتقيأ تصميمات الموسم السابق».

ورغم أن كثيرا من برامج التدريب العملي تعتبر تجربة ذات قيمة، فإن بعض المتدربين دون أجر يشكون من أنهم يقومون بأعمال تافهة ولا يتعلمون الكثير، مما يطرح علامات استفهام حول مدى مخالفة تلك الوظائف للنظم واللوائح الفيدرالية التي تنظم مثل هذه البرامج، غير أن المتدربين يقولون إنه لا يكون لديهم في معظم الأحيان بديل جيد.

ويكشف تقرير الوظائف الشهري عن ضعف النمو في عدد الوظائف ووصول معدل البطالة بين الشباب في المرحلة العمرية ما بين 20 و24 عاما إلى 13,2 في المائة خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي.

وقد أعلنت وزارة العمل الأميركية أنه في حالة عدم رغبة أصحاب العمل في دفع أجور للمتدربين لديهم فسوف تلزمهم بأن يصمموا برامج التدريب العملي على غرار برامج التعليم المهني، وأن يعمل المتدربون تحت إشراف دقيق، وأن لا تتم الاستعانة بما يؤدونه من عمل كبديل للموظفين النظاميين، وأن لا يجرّ ذلك العمل نفعا مباشرا لصاحب العمل.

ولكن من ناحية التطبيق لا يوجد ما يمنع أصحاب العمل من استغلال المتدربين. ومن النادر أن تقوم وزارة العمل بمعاقبة المخالفين، متذرعة بأن إمكاناتها محدودة وأن المتدربين دون أجر يمتنعون عن تقديم الشكاوى خوفا من أن يؤثر ذلك على أي فرصة عمل قد تتاح لهم مستقبلا.

ولا توجد أي جهة تمتلك إحصاءات حول عدد الخريجين الجامعيين الذين يلتحقون ببرامج تدريب عملي دون أجر، غير أن هناك اتفاقا عاما على أن هذا العدد قد شهد زيادة كبيرة، ويعود هذا قبل كل شيء إلى ارتفاع معدل البطالة بين الخريجين الجامعيين دون سن 24 عاما ليصل إلى 9,4 في المائة، وهو أعلى مستوى له منذ بدأت الحكومة في الاحتفاظ بالسجلات في عام 1985 (ويقدر الخبراء في مجال التوظيف أن الطلاب الجامعيين يعملون قبل التخرج في أكثر من مليون برنامج تدريب عملي سنويا، نصفهم تقريبا دون أجر، طبقا لمؤسسة «إنتيرن بريدج» البحثية).

ويقول روس إيزنبري، نائب رئيس في معهد السياسات الاقتصادية وله دراسات كثيرة حول المتدربين: «منذ بضع سنوات لم تكن تسمع عن خريجين جامعيين يحصلون على برامج تدريب عملي دون أجر. أما الآن فقد سمعت عن أشخاص يحصلون على برامج تدريب عملي دون أجر بعد التخرج حتى من كليات إيفي ليغ».

ولم يحالف مات جيو الحظ في اقتحام عالم الموسيقى والترفيه بعد حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة باكنيل العام الماضي. وفي سبيل الحصول على خبرة عملية التحق بوظيفة دون أجر لدى إحدى وكالات الموهوبين في مانهاتن تعمل في مجال حجز حفلات نجوم الموسيقى، وهو يقول إنه كان يتولى الرد على الهاتف والبحث عن أماكن إقامة الحفلات. صحيح أنه كان أحيانا يطلب منه تولي حجز الحفلات، لكنه يقول إنه لم يكن يتلقى أي توجيه حول كيفية الوصول إلى صفقة أو الأسعار المتعارف عليها، كما أن رئيسه في العمل كان يطلب منه أحيانا قضاء بعض المهام السريعة، مثل شراء البقالة. ويتحسر الرجل قائلا: «لقد كانت في الحقيقة ثلاثة أشهر مهدرة».

ويشير إيزنبري إلى أن شركات كثيرة تستغل ضعف سوق العمل في الاستعانة بالمتدربين دون أجر لتولي الأعمال الروتينية، مثل التصوير أو قضاء المهام السريعة التي كان يقوم بها الموظفون النظاميون، مما قد يثير علامات استفهام قانونية تصعب الإجابة عليها.

ويعد إيريك غلات، الذي عمل وهو في سن الأربعين متدربا في فيلم «البجعة السوداء»، واحدا من بضعة متدربين كانت لديهم الشجاعة لرفع قضية من أجل المطالبة بأجورهم عن العمل الذي قاموا به. وكان غلات، الحاصل على ماجستير في إدارة الأعمال وماجستير آخر في الإدارة الدولية، يرغب في دخول عالم السينما، بعد أن ترك وظيفته السابقة في الإشراف على برامج التدريب بشركة «أميركان إنترناشونال غروب»، وهي شركة كبرى للخدمات المالية والتأمينية. وفي سبيل المشاركة في فيلم «البجعة السوداء» قام بإعداد الأوراق والمستندات الخاصة بأوامر الشراء وصندوق السلف، وسافر إلى المسؤولين عن الفيلم كي يحصل على توقيعاتهم، وقام بتتبع بيانات العاملين. يقول الرجل: «كنت أعرف أن هذه ستكون وظيفة اعتيادية، وأنني لن أحصل على مقابل. لكنني بدأت أحادث نفسي حول مدى ما ينطوي عليه هذا من الظلم. لقد أصبح الأمر جزءا من سوق العمل التي لا تخضع لأي نظم أو لوائح». وقام غلات برفع دعوى قضائية، متهما شركة «فوكس سيرش لايت بيكتشرز» بمخالفة الحد الأدنى للأجور، بينما تقول الشركة إنها تلتزم تماما بالقانون وإنها تقدم للمتدربين خبرة قيمة في العمل والاحتكاك المباشر.

ويتابع غلات، الذي يخطط حاليا للالتحاق بكلية الحقوق: «الغرض من إقامة هذه الدعوى القضائية هو المساعدة على وضع حد لهذا السلوك. هذا أهم بالنسبة لي من التحضير لفيلمي القادم». ويقول روس برلين، صاحب كتاب «أمة المتدربين» الذي نشر عام 2011، إن برامج التدريب العملي بعد التخرج كانت في السابق تقتصر على عدد محدود من المجالات، مثل صناعة السينما، لكنها أصبحت حاليا أكثر انتشارا بكثير. ويضيف: «المسؤولون في كثير من المجالات كانوا في يوم من الأيام متدربين قبل أن يكبروا، وبرامج التدريب العملي دون أجر طبيعية جدا بالنسبة لهم، وهم يفكرون في الحصول على المتدربين بأي وسيلة».

إلا أن بعض المتدربين يرون أن تجاربهم كانت مفيدة للغاية، فقد حصلت إيميلي ميذنر، التي درست الفنون الجميلة في جامعة هوفسترا، بعد تخرجها في عام 2010، على وظيفة دون أجر لدى موقع «غوكر»، حيث تقوم بعمل بحوث وتقارير عن الإعلام الاجتماعي لحساب الموقع الإلكتروني المتخصص في الأخبار والشائعات. وبعد شهرين انتقلت إلى برنامج تدريب عملي دون أجر لدى موقع «فليفوربيل»، وهو دليل إلكتروني على الإنترنت متخصص في الأحداث الثقافية.

وهي تؤكد أن المعلومات التي اكتسبتها من هذين المكانين كانت مهمة للغاية في حصولها على وظيفة منسق إعلام اجتماعي لدى دار نشر «سترلنغ بابلشنغ»، بأجر سنوي يبلغ 35 ألف دولار. وأضافت: «الأمر كان أكثر من المهام الفردية التي كنت أقوم بها. كان الاحتكاك بثقافة شركة كبيرة والالتقاء بالكثير من الناس»، مشيرة إلى أنه كان بمقدورها أن تعمل دون أجر لعدة أسباب، منها أنها كانت تقيم مع أسرة إحدى صديقاتها. لكن تجربة شويدان وانغ، المعروفة باسم ديانا، لم تكن إيجابية إلى هذه الدرجة، فبعد تخرجها في جامعة ولاية أوهايو عام 2010 التحقت ببرنامج تدريب عملي لدى مجلة الأزياء «هاربرز بازار»، حيث كانت تعمل من الساعة التاسعة صباحا حتى الساعة الثامنة مساء في الإشراف على ثمانية متدربين آخرين دون أجر كانوا يتجولون في أنحاء حي مانهاتن لانتقاء المنتجات من مختلف بيوت الأزياء وصالات العرض.

وقد قامت ديانا في شهر فبراير (شباط) الماضي بمقاضاة المجلة، بتهمة مخالفة الحد الأدنى للأجور. وتقول: «كانت (هاربرز بازار) مجلتي المفضلة وأنا صغيرة. كنت مبهورة بأنني سأعمل هناك. لكنه كان عملا حقيرا للغاية، وهو إحضار أشياء من مختلف الأماكن».

وتقول شركة «هيرست ماغازينز»، مالكة المجلة، إن برامج التدريب العملي بها تعزز خبرة الطلاب التعليمية وتتماشى تماما مع القانون.

وقد انتهى المطاف ببعضهم إلى التنقل ما بين سلسلة من برامج التدريب العملي، حيث انتقلت جويس لي، الحاصلة على شهادة سينمائية من جامعة ويزليان عام 2010، إلى لوس أنجليس والتحقت هناك بست وظائف تدريب عملي دون أجر، كانت إحداها لحساب سكوت رودين، أحد أكبر منتجي هوليود وبرودواي. وكانت مهامها الوظيفية تشمل قراءة نصوص الأفلام وتسلم البريد. ولكي تتمكن من دفع إيجار السكن الذي تقيم فيه اضطرت إلى العمل في أحد المقاهي وقامت بتوزيع النشرات الإعلانية لصالح إحدى شركات سيارات الأجرة.

تقول لي: «سكوت رودين في منتهى الثراء. لا أظن أنه من الصعب عليه أن يدفع الحد الأدنى من الأجور لخمسة متدربين».

وقد صرح متحدث باسم رودين بأنه لم يستطع الوصول إليه من أجل الحصول على تعليقه. وتؤكد لي، الموجودة حاليا في نيويورك تصنع فيلمها الشخصي وتحاول أن تقف على قدميها مجددا من خلال العمل في أحد المقاهي، أن المتدربين يستحقون ما هو أفضل. واختتمت قائلة: «إذا أصبحت في يوم من الأيام منتجة أفلام شهيرة، أتعهد بأن أدفع أجور المتدربين لدي».

*خدمة «نيويورك تايمز»