هبوط الروبية الهندية يحولها لأضعف العملات الآسيوية

سببه العجز المالي والتجاري والتضخم

احتياطيات الهند من النقد الأجنبي تراجعت لتصل إلى 291.80 مليار دولار خلال الأسابيع الأولى من شهر مايو الجاري
TT

ما زالت العملة الهندية تواصل هبوطها، مسجلة أدنى مستوى لها على الإطلاق أمام الدولار، حيث انخفضت الروبية بشدة لتصل إلى سعر 54.91 مقابل الدولار الأميركي، لتصبح بذلك من أضعف العملات الآسيوية في العصور الأخيرة، وما زال ينتظرها المزيد من الخسائر، في ظل معاناة الهند وسط عدد كبير من التحديات الاقتصادية الإضافية، ومن بينها تراجع معدلات النمو.

وهناك كثير من العوامل وراء ذلك، منها تزايد حالات العجز المالي والتجاري والتضخم وإعراب المستثمرين عن عدم ثقتهم في قدرة الحكومة الهندية على الوفاء بالمعدلات المالية المستهدفة والتغلب على التحديات الاقتصادية التي تواجهها، علاوة على أزمة ديون اليورو في اليونان، إلى تزايد الطلب على الدولار على حساب الروبية.

وتراجعت أيضا احتياطيات الهند من النقد الأجنبي لتصل إلى 291.80 مليار دولار خلال الأسابيع الأولى من شهر مايو (أيار) الجاري، طبقا للبيان الصادر عن بنك الاحتياطي الهندي، وهو أعلى سلطة مصرفية في الهند. وانخفضت الأصول بالعملات الأجنبية، وهو البند الأكبر في سلة احتياطيات النقد الأجنبي، بمقدار 1.33 مليار دولار لتصل إلى 257.85 مليار دولار - وهذا الرقم يكفي لتغطية الصادرات لمدة لا تزيد على 6 أشهر، مما لا يدع أمام بنك الاحتياطي الهندي مجالا للتدخل في سوق العملات من أجل حماية الروبية. إلا أن البنك سبق أن ضخ بالفعل نحو 20 مليار دولار في السوق من أجل تدعيم عملة اتخذت مسارا هابطا منذ شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، لكن تراجع احتياطيات الهند من النقد الأجنبي يحد من قدرة البنك على التدخل بشكل حاسم، وإضافة إلى ذلك، فقد أصدر بنك الاحتياطي الهندي توجيهات لكل من يحققون أرباحا بالنقد الأجنبي - مثل المصدرين - تلزمهم بتحويل 50% من إجمالي مكاسبهم من النقد الأجنبي المودعة في البنوك إلى روبيات. وكان يسمح للمصدرين في السابق بالاحتفاظ بنسبة 100% من دخلهم بالدولار في حساباتهم المصرفية بالعملة الأجنبية.

وكل هذا يحيي في الأذهان ذكريات غير سعيدة أيضا، حيث كان تعرض ميزان المدفوعات لأزمة مذلة هو ما أجبر البلاد على رهن ما تملكه من الذهب من أجل دفع ثمن وارداتها، وأدى إلى فتح اقتصادها في عام 1991.

ويعتبر هذا الضعف الذي أصاب الروبية مؤشرا على وجود مزيد من المشكلات الاقتصادية المتأصلة والعميقة.

ويلقي كثير من الخبراء باللوم في اتخاذ الروبية لذلك الاتجاه الهابط على الموازنة الفيدرالية للعام المالي 2012 - 2013، التي تم إعلانها في منتصف شهر مارس (آذار) الماضي، واقترحت نسبة عجز مستهدفة تبلغ 5.1% من إجمالي الناتج المحلي، مما أثار حالة من التشكك داخل السوق. كما قدمت الحكومة أيضا مجموعة من المقترحات المثيرة للجدل بشأن نظام الضرائب التي تفرض على المستثمرين الأجانب، مما أدى إلى تراجع حصيلة رأس المال الأجنبي الذي تقف البلاد في أمس الحاجة إليه، في ظل لجوء المستثمرين الساخطين إلى سحب أموالهم بسبب مخاوف من تلك التغييرات الضريبية التي تتم مناقشتها حاليا.

على سبيل المثال، فقد سببت القاعدة العامة لمكافحة التهرب الضريبي المثيرة للجدل صدمة كبيرة للمليارديرات في الهند، حيث تهدف إلى تحصيل ضرائب من الشركات بأثر رجعي على استثماراتها السابقة. وقد تمت مطالبة مجموعة «فودافون» البريطانية بضرائب على صفقة شراء الفرع الهندي من شركة خدمات الهاتف الجوال «هاتشيسون تيليكوم»، التي تقع في هونغ كونغ، في عام 2007.

ورغم أن وزير المالية الهندي قد أعلن تعليق العمل بالقاعدة العامة لمكافحة التهرب الضريبي لمدة عام، فإن هذا العدول عن تطبيقها لم يعزز كثيرا من ثقة المستثمرين الأجانب في الحكومة الهندية. ويتوقع أن تتراجع قيمة عملة أحد أسرع اقتصادات العالم نموا لتصل إلى 56 أمام الدولار في مرحلة لاحقة من هذا العام.

ورغم أن أسس الاقتصاد الهندي تظل قوية، وأن الحكماء ما زالوا واثقين من إمكانات النمو على المدى البعيد، فإن الهند لم يعد ينظر إليها باعتبارها إحدى الأسواق الاقتصادية الناشئة التي تتمتع بقدر معقول من الحماية ضد العواصف الاقتصادية العالمية، حيث تراجع معدل النمو الاقتصادي في البلاد إلى 6.9% خلال العام المالي 2011 - 2012. بعد أن كان 8.4% في العام السابق، في ظل عدم قدرة الحكومة الائتلافية صعبة المراس على الاتفاق على خطوات ترمي إلى زيادة انفتاح الاقتصاد من أجل تحفيز التوسع.

وانخفضت احتياطيات الهند لدى صندوق النقد الدولي بمقدار 16.7 مليون دولار لتصل إلى 2.88 مليار دولار. ويلاحظ أبيشيك جونكا، الرئيس التنفيذي لشركة «مستشارين فوركس الهند»، في المقالة البحثية التي كتبها: «لقد أخذ عجز الحساب الجاري في التزايد منذ أبريل (نيسان) 2011، في ظل زيادة الواردات بشكل أسرع من الصادرات ووجود عجز في ميزان المدفوعات، مما يزيد من حجم الطلب على الدولار». ويضيف أن الروبية تتعرض لحالة من السقوط الحر، وما لم يقم بنك الاحتياطي الهندي والحكومة باتخاذ خطوات كبرى لتعزيز نفسية السوق، فسوف يكون هناك المزيد من المخاوف في انتظارهم.

وقد قامت وكالة التصنيفات الائتمانية «ستاندرد آند بورز» بتخفيض نظرتها المستقبلية للهند إلى «سلبية»، وحذرت من احتمال خفض التصنيف الائتماني للدين الهندي نتيجة لارتفاع مستويات الاقتراض الحكومي و«المأزق السياسي الراهن».

ويقول توشار بودر، العضو المنتدب لشؤون الاقتصاد الدولي والسلع والأبحاث الاستراتيجية بفرع شركة «غولدمان ساكس» في مومباي: «الوضع لا يبدو جيدا. نحن ننزلق ببطء نحو منطقة في غاية الخطورة، وهي وصول العملة إلى حالة من الضعف الشديد، مما يؤدي إلى زيادة المخاوف بشأن ديون الشركات وكذلك التضخم الناجم عن ارتفاع أسعار الواردات».

ويقول خبراء الاقتصاد إن قدرة الهند على امتصاص الصدمات الخارجية لم تعد كما كانت عليه في عام 2008.

وعلاوة على ذلك، تعد الزيادة الهائلة في واردات النفط ضمن قائمة الأسباب التي أدت إلى الإقبال الشديد على الدولار وتراجع الروبية، حيث تدفع الهند في المتوسط فاتورة يومية تصل إلى 500 مليون دولار من الصادرات النفطية. وهذا الانخفاض في قيمة العملة يجعل الواردات أكثر تكلفة، من خلال تفاقم التضخم وحالات العجز في الهند، مما يفزع المستثمرين العالميين الخائفين بالفعل.

وقد كتب ريتيكا مانكار مخريجي، خبير اقتصادي بشركة الخدمات المالية «أمبيت كابيتال» في مومباي، في مذكرة له نشرت في وقت سابق هذا الشهر، أن التاريخ يخبرنا بأن التحركات في أسعار الصرف ترتبط ارتباطا وثيقا بصافي ميزان المدفوعات الهندي.

وبحسب مخريجي، فإن ميزان المدفوعات أقوى بمعدل 8 مرات من عامل التدخل لدى بنك الاحتياطي الهندي، مما يعني في الغالب زيادة التراجع في قيمة الروبية طالما ظل ميزان المدفوعات بالسالب. ويشير تحليل مخريجي إلى أن قيمة الروبية سوف تشهد على الأرجح مزيدا من التراجع لتبلغ 55 إلى 58 في مقابل الدولار خلال العام المالي 2012 - 2013.

وهذا الانخفاض يسبب أوقاتا عصيبة أيضا بالنسبة للشركات الهندية التي اقترضت من الخارج، حيث حصلت الشركات الهندية خلال السنة الميلادية 2011 على نحو 30 مليار دولار عن طريق الاقتراض التجاري الخارجي. وتراجع قيمة الروبية بنسبة 22% يترجم إلى زيادة في العبء الواقع على عاتق الشركات الهندية في سداد تلك الديون، ويصل حجم هذا العبء الإضافي إلى 6.6 مليار دولار.

ولكن في المقابل، فقد عزا وزير المالية براناب مخريجي هبوط الروبية في معظمه إلى حالة الضعف التي أصابت اليورو وانعكاسات الأزمة الاقتصادية في اليونان، مصرا على أن تجربة النمو في الهند «لم يمسها أي أذى».

وفي غضون ذلك، وضعت الهند خططا لضبط رحلات المسؤولين الحكوميين إلى الخارج، في إطار الاتجاه نحو التقشف، وهي تقول إنها ملتزمة «التزاما قويا» بتقليص حجم الإنفاق الذي يتزايد على نحو سريع.

وإلى جانب القيود على السفر، تسعى الحكومة أيضا إلى حظر صفقات شراء السيارات الجديدة، باستثناء سيارات الجيش، وتقييد تنظيم المؤتمرات في فنادق 5 نجوم، وفرض «نظام صارم» فيما يتعلق بتعيين المستشارين.

والمؤكد أن الروبية تحتاج إلى مزيد من المنقذين لانتشالها من دوامة التراجع التي تغرق فيها، والمهم في الأمر أن حكومة رئيس الوزراء مانموهان سينغ لم تضغط بعد على زر الفزع، ولم تتحدث عن إدارة الأزمة. ويبدو أن مانموهان ومخريجي يخالجهما شعور مشترك بأن هبوط الروبية ربما يكون نعمة خفية، حيث إن تواضع قيمتها، على سبيل المثال، قد يجبر الاقتصاد الهندي على أن يصبح أكثر اعتمادا على نفسه وأكثر توجها نحو التصدير.