التكنولوجيا.. «سيف ذو حدين» للبورصات

حسنت أداءها ولكن جعلتها أكثر عرضة للكوارث

جانب من التداولات في بورصة فرانكفورت (رويترز)
TT

شهدت الأسواق المالية تحسنا كبيرا على مدى الربع الأخير من القرن الماضي، حيث تراجعت تكلفة التداول بشدة سواء بالنسبة لصغار المستثمرين أو المؤسسات الكبرى. وتراجعت الأجزاء المقتطعة التي يحصل عليها الوسطاء، وأصبحت الكثير من الأسواق في أغلب الأوقات أكثر عمقا وبها قدر أكبر من السيولة أكثر من أي وقت مضى، لكن للأسف الأسواق التي شهدت تحسنا هي الأكثر عرضة لكارثة، حيث أبعد استخدام الكومبيوتر وتزايد المنافسة، اللذين يعدان من أسباب تحسنها بالأساس، من هم ملتزمون بالتدخل واتخاذ إجراء في أوقات التوتر والاضطراب ومحوا تقريبا قدرة الأفراد والمؤسسات على إبطاء أو إيقاف التداول في الأسواق في حالة اتخاذ الأمور منحى غير صحيح. وفي ظل الخطى السريعة المستمرة للابتكارات في مجال التكنولوجيا، ربما تزداد المخاطر. ويمكن أن يطلب المنظمون تغييرات تحول دون تكرار أي كارثة بعينها، كما فعلوا في الانهيار المفاجئ للبورصة الذي حدث في 6 مايو (أيار) 2012، لكن يبدو أنه لا توجد أي طريقة للتكهن بالسبب المباشر للمشكلة المقبلة. وربما تكون هذه المشكلة ضخمة، ففي يوم الأربعاء، حدث خلل في أجهزة الكومبيوتر في شركة «نايت كابيتال غروب»، التي تتولى تنفيذ عمليات تداول في البورصة بملايين الدولارات يوميا أدى إلى إصدار أوامر غير مطلوبة وحدث تداول سريع للأسهم هبوطا وصعودا. واستغرق إغلاق أجهزة الكومبيوتر من الشركة ما يقرب من ساعة. ويوم الخميس بلغت قيمة الخسائر بحسب تقدير الشركة 440 مليون دولار. وصرحت شركة «نايت»، التي تعد من أكبر الشركات العاملة في البورصة، بأنها تستكشف البدائل الاستراتيجية، وهي طريقة مهذبة لقول إنها تبحث باستماتة عن مشترٍ. ربما يكون من الجدير بالعناء التفكير فيما كان قد يحدث منذ بضعة عقود إذا فعل جهاز الكومبيوتر الأمر نفسه. كانت الأوامر ستتدفق نحو مسؤولين متخصصين في بورصة نيويورك، وهم المسؤولون عن القيام بعمليات التداول، أو لهؤلاء المسؤولين في بورصة «ناسداك» الذين يقومون بالمهمة نفسها. وربما كان سيتم تنفيذ بعض الأوامر الغبية، لكن كان سيتم إيقاف التداول في البورصات المتأثرة في غضون دقائق قبل أن تكتشف الناس ما حدث. ربما كانت وجوه مسؤولي الشركة ستتلون بحمرة الإحراج، لكن سيغيب لون الحبر الأحمر. لقد رحل أكثر هؤلاء المسؤولين الآن، بعد تبدد مصادر أرباحهم، التي تتمثل في الفرق بين سعر شرائهم للسهم وسعر بيعهم له، في ظل التنافس وتغير القواعد المنظمة التي تسمح بتغيير أسعار الأسهم بقيمة واحد سنت أو أقل لا ثُمن دولار أو 12,5 سنت وهو الحد الأدنى لتعديل السعر الذي كان معتادا. وحل متداولون يقومون بعمليات تداول سريع عبر الكومبيوتر يتجاوبون مع الأوامر في جزء من الثانية محل مسؤولي التداول إلى حد كبير. إنهم يرسلون الأوامر ويلغونها على نحو أسرع مما يأمل أي إنسان.

ونظرا لعلم البورصات بحاجتها إلى مسؤولي تداول تقليديين يتلقون أوامر العملاء، تقدم البورصات تخفيضا لمسؤولي التداول السريع الذين يستطيعون التعامل مع الكثير من الأوامر. وتكون النتيجة في الأحوال الطبيعية هي سيولة وسرعة الأسواق. منذ عقود، كان حجم الأمر الذي يمكن تنفيذه محدودا برأس المال المتاح لمسؤول البورصة المتخصص، وكان من الضروري لمؤسسات «وول ستريت» مثل «غولدمان ساكس» و«سالمون براذرز» أن تتعامل مع أوامر المؤسسات الكبرى. ويوجد حاليا عدد من شركات التداول السريع يكفي للتعامل مع كم هائل من الأوامر سريعا وبتكلفة أقل.

مع ذلك ليس على مسؤولي التداول السريع أي التزام بالتوقف ويستمرون في تنفيذ عمليات التداول عندما تتجه الأمور نحو الخطر. كان المسؤولون المتخصصون ومسؤولو التداول التقليديون يواجهون الكثير من الانتقادات في الماضي. وتقترب الذكرى الخامسة والعشرون للانهيار المفاجئ الذي حدث عام 1987 وأدى إلى ذعر مسوؤلي التداول في «ناسداك» دفعهم إلى اتخاذ قرار بعدم الرد على الهواتف ظنا منهم أن هذا هو الحل الآمن.

مع ذلك بوجه عام يضطلع مسؤولو التداول بمسؤولياتهم، فإذا لم يكونوا راغبين في ذلك، على الأرجح بسبب فيض أوامر بيع سهم بعينه، سيتم إيقاف تداول السهم لفترة من الوقت وهو ما يمنح الآخرين وقتا لإدراك ما يحدث ويمكن لأي شخص يرى أن الإجراء الذي اتخذته السوق غير منطقي، أن يتدخل ويعرض شراء السهم. الآن برمج الكثير من مسؤولي التداول السريع، الذين ليست لديهم سلطة إيقاف التداول حتى إذا كانت أجهزة الكومبيوتر توصلت إلى أن هذا هو الإجراء الحكيم، أجهزة الكومبيوتر الخاصة بهم بحيث تخرج من السوق في حالة حدوث اضطراب. والنتيجة هي انخفاض السيولة عن الأسواق في وقت هي فيه بحاجة ماسّة إلى تلك السيولة. للحصول على المزايا التي تُمنح مع إدراج المؤسسة لتعمل في تداول الأوراق المالية، عادة ما يُطلب من المؤسسات التي تعمل في مجال التداول السريع نشر عروض بشراء وبيع الأسهم التي يتداولونها. وأدت هذه القاعدة إلى ما يسمى بعرض بسعر منخفض، فإذا اتخذت الأمور منحى مضطربا، تعرض الشركة سهما بقيمة 40 دولارا بسعر دولار واحد. وتفي الشركات بهذا الشرط، لكن ليست أي منها بالغباء الذي يجعلها تبيع السهم بهذا السعر، إلا إذا كان أحدهم جهاز كومبيوتر.

وعند حدوث انهيار مفاجئ للبورصة، تفوق أوامر بيع بعض الأسهم طلبات شرائها. وتبحث أجهزة الكومبيوتر عن أفضل عرض ويكون في النهاية هو عرض الواحد دولار. لذا يتم التداول بهذا السعر. ولقد تم حظر هذه العروض، لكن لا يزال هناك الكثير من الأمور التي يمكن أن تسير على نحو غير صحيح. وأصبحت البورصات أقل حيوية حاليا، فقد كانت أسواق السلع تعجّ يوما بالمتداولين الذين يصرخون ويرفعون أصابعهم ويحاولون جذب انتباه متداول آخر يعرض بيع ما أراد هذا المتداول شراءه. وانخفض حاليا عدد المتداولين المتواجدين في الحيز المكاني للبورصة بافتراض وجود حيز مكاني للبورصة، وحتى هذا العدد القليل ينفذون الأوامر عبر أجهزة الـ«آي باد» الخاصة بهم وكأنهم يتعاملون مع إنسان آخر.

مع ذلك عاد الماضي على الأقل من خلال طريقة واحدة غريبة. كان في الماضي من الضروري الذهاب إلى مبنى البورصة من أجل القيام بالتداول، فقد أظهر رسم للمنطقة المالية خلال الذعر الذي حدث عام 1873 ونشر في «هاربرز ويكلي» عدد هائل من الأسلاك بين المباني. إذا لم تكن متصلا بشكل فوري، كنت ستفتقد ميزة هامة للغاية، وهذا هو الحال الآن. يمكن أن يتواجد الأشخاص، الذين يبرمجون ويشغلون أجهزة الكومبيوتر لمسؤولي التداول السريع، في أي مكان، لكن يجب أن تكون أجهزة الكومبيوتر الخاصة بهم أقرب ما يكون من أجهزة الكومبيوتر في البورصة التي يقومون بالتداول بها. ويدفع بعض المتداولين مقابل هذا القرب، وبهذه الطريقة يستطيعون معرفة الأوامر أسرع من منافسيهم بمقدار جزء من الثانية وبالتالي سحب أوامرهم على نحو أسرع عندما تشير برامج الكومبيوتر إلى ضرورة القيام بذلك.

وبدأ التداول السريع في البورصات، لكنه انتشر وامتد إلى سوق السلع مما أدى إلى تغيير أنماط التداول هناك. وتبحث أجهزة الكومبيوتر عن العلاقات التي تربط بين الأسواق المختلفة وتحاول الاستفادة منها قبل الآخرين. والنتيجة هي أن الأسواق التي كانت تميل إلى التداول في الاتجاه نفسه أغلب الوقت، أصبحت تسير في هذا الاتجاه طوال الوقت تقريبا خاصة عندما تتجه إحدى الأسواق نحو التحرك. واتضح هذا جليا يوم الخميس، فعندما انهارت البورصات كرد فعل على الأنباء المحبطة الآتية من البنك المركزي الأوروبي، انخفضت أسعار النفط والنحاس فورا. وارتفعت أسعار السندات. وكانت أقل إلى الحد الذي جعل أي شخص يتخذ موقفا سلبيا من النحاس، وأكبر إلى الحد الذي جعل حسابات أجهزة الكومبيوتر تستنتج أن السوقين تسيران وستسيران في الاتجاه نفسه.

ما الذي يمكن القيام به من أجل الحفاظ على مزايا التكنولوجيا وتفادي وقوع كوارث؟

ربما لا يكون هناك الكثير ممل يمكن عمله، حيث يمكن للمنظمين أن يضعوا القواعد ومصممي البرامج إعداد برامج من أجل تفادي تكرار الخطأ الذي وقع يوم الأربعاء. مع ذلك ربما تكون نتائج إصلاح بعينه غير متوقعة في الأنظمة المعقدة، وقد تؤدي الأرباح التي تعود على أول من يضع نظاما جديدا إلى استخدام برامج تحتوي على عيوب لم يتم رصدها. إذا كانت أخطاء اليوم تتجاوز الحد الذي يمكن تقبله، ربما علينا التنازل عن بعض مزايا التكنولوجيا. وقد يعني هذا تباطؤ الأسواق مع تزايد احتمال تدخل العنصر البشري أو اتخاذ قرار بزيادة تكلفة التداول إلى الحد الذي يزيد من تكلفة بعض الاستراتيجيات، التي تعتمد على التداول السريع، وهو ما يجعلها لا تستحق العناء.

* خدمة «نيويورك تايمز»