كيف خلطت «العولمة» حسابات مؤسسي العملة الأوروبية الموحدة؟

المنافسة العالمية الشرسة أزاحت بعض أعضاء منطقة اليورو إلى هامش الاقتصاد العالمي

منطقة اليورو وعملتها الموحدة على المحك
TT

تستعد شركة «بيجو» الفرنسية لصناعة السيارات لخفض الآلاف من فرص العمل في ضواحي باريس، كما تكافح صناعة الغزل والنسيج البرتغالية للدفاع عما تبقى من مصانعها القليلة في مواجهة المنافسة الآسيوية الشرسة، في الوقت الذي يقوم فيه المستثمرون الألمان بضخ مليارات الدولارات في دول أوروبا الشرقية مثل بولندا المجاورة، ويقللون من استثماراتهم في اليونان التي تكافح بشدة للخروج من أزمة الدين.

وبينما يقاتل القادة الأوروبيون من أجل الحفاظ على العملة الموحدة، فإنهم يواجهون عقبة لم يكن مؤسسو منطقة اليورو يتوقعونها على الإطلاق، وهي العولمة، حيث أدت المنافسة الشرسة من أوروبا الشرقية والصعود الآسيوي وغيره من قوى التجارة الحرة إلى دفع بعض أعضاء منطقة اليورو إلى هامش الاقتصاد العالمي وتقويض دول كبرى بحجم فرنسا وإيطاليا.

وكان من المفترض أن تسفر تجربة العملة الموحدة التي تعود لربع قرن من الزمن عن حالة من التوازن بين الدول الأعضاء، وأن يكون مستوى الإنتاجية والتنافسية قريبا بينها، لكنها أدت بدلا من ذلك إلى حالة من عدم التوازن بين دول المنطقة، فأصبح هناك عدد قليل من الدول التي تنمو وتزدهر بقوة، في الوقت الذي تعاني فيه دول أخرى وتحتاج للدعم المستمر.

ويعد هذا الاختلاف، علاوة على مشاكل الديون والقطاع المصرفي التي تؤرق دول المنطقة، السبب الرئيسي في الأزمة الحالية، وربما يكون هو المشكلة الأكثر تعقيدا والتي يصعب حلها. ويرى الساسة أن «التقارب» سيظل موجودا بين دول المنطقة، في ظل وجود حزمة ملائمة من السياسات وقروض الإنقاذ التي تمتد لبضع سنوات، لكن الدراسات الصادرة عن البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من المؤسسات قد عززت فكرة تقسيم منطقة اليورو بشكل أساسي إلى دول كبرى مثل ألمانيا التي تقود النظام العالمي الجديد، والدول التي فقدت أسهمها في السوق العالمية - بما في ذلك فرنسا وإيطاليا.

وفي تعليقه على أزمة منطقة اليورو، قال محمود برادان، وهو نائب مدير القسم الأوروبي بصندوق النقد الدولي، في مؤتمر عبر الهاتف الشهر الماضي «لم نر بعض الدول في منطقة اليورو تحافظ على قدرتها التنافسية». وأصبحت النقود تتحرك بسهولة أكبر عقب تبني الدول الأوروبية للعملة الموحدة، وهو ما أزال مخاطر تقلبات أسعار الصرف، لكنه أدى في الوقت نفسه إلى ما وصفه برادان بأنه «تنمية منحرفة عن المسار» - فقاعات عقارية في أماكن مثل إسبانيا وآيرلندا - بدلا من الاستثمار الذي من شأنه أن يؤدي إلى تنمية مستدامة على المدى الطويل.

وأشارت ورقة بحثية صادرة عن صندوق النقد الدولي في وقت سابق إلى أن دول جنوب منطقة اليورو - بما في ذلك فرنسا - كانت تخسر بشكل مطرد في ظل النظام التجاري العالمي، كما أشارت ورقة صادرة عن البنك المركزي الأوروبي في فصل الربيع إلى «عدم وجود دليل» عن وجود حالة من التقارب بين دول منطقة اليورو من حيث إنتاجية العمل. وتعد هذه القضية مهمة للغاية لقوة تحمل منطقة اليورو واستمرارها على المدى الطويل.

وفي أعقاب اختفاء العملات الأوروبية السابقة، أصبح اليورو والدول المستخدمة له في مأزق، فمن جهة نجد أن الدول الأعضاء في منطقة اليورو غير تابعة بشكل كامل لنظام فيدرالي مثل المعمول به في الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى نجد أنها تقوم بوضع العديد من السياسات الاقتصادية الخاصة بها، بما في ذلك الميزانية والسياسات الضريبية. ومع ذلك، تنازلت تلك الدول عن السيطرة على أموالها ومعدلات الفائدة وسعر الصرف وغيرها من الأمور المالية إلى السلطة المركزية التي ستضع سياسة موحدة لـ17 دولة.

وفي الحقيقة، كان مؤسسو منطقة اليورو يدركون جيدا وجود بعض المخاطر المتمثلة في محاولة إخضاع مجموعة مختلفة من الدول تحت مظلة واحدة، ودخلوا في مناقشات على مدى سنوات حول ما إذا كان يتعين عليهم تأجيل العمل بالعملة الموحدة حتى الانتهاء من الوصول إلى التزام شامل بنظام فيدرالي اقتصادي. وكانت الدول الأغنى، مثل ألمانيا بعملتها القوية وقاعدتها الصناعية العملاقة، تشعر بالقلق من الدخول في اتحاد مع دول لا تتمتع بنفس القوة الإنتاجية التي ستحتاج للمساعدة والدعم في نهاية المطاف. ولم تكن دول أخرى ترغب في الخضوع لسلطة مركزية من شأنها أن تسيطر على وضع الضرائب، وبيع الديون، أو - أقصى اختصاص سياسي - إنفاق المال العام.

ويعد التقارب بين دول المنطقة وسيلة مهمة لتحقيق المستحيل، حيث كان المغزى الرئيسي من وراء هذه النظرية يتمثل في الاعتقاد أن استخدام عملة موحدة سوف يشجع المستثمرين على البحث عن العوائد الأعلى، والتي عادة ما تكون مرتبطة بمرحلة بناء الدول الأقل نموا - مثل اليونان أو البرتغال - بدلا من ضخ المزيد من الأموال في الدول شديدة التطور مثل ألمانيا. وسوف يؤدي تدفق رؤوس الأموال بدوره إلى رفع إنتاجية العمال ومساعدة كل دولة على صنع منتجات يمكن بيعها داخل منطقة اليورو أو شتى أنحاء العالم.

وما بين الإيمان بهذه العملية وبنود المعاهدة - التي تعد غير قابلة للتنفيذ من الأساس - كان هناك اعتقاد سائد بأنه يمكن التحكم في التحديات المتمثلة في التعامل مع الدين العام والمخاطر الناشئة عن اتحاد نقدي نصف مكتمل.

ولم تحقق منطقة اليورو أي شيء سوى هذا التقارب، حيث ارتفعت معدلات الدخل بشكل مطرد في اليونان - وهو الأمر الذي كان ينظر إليه في السنوات الأولى لمنطقة اليورو على أنه مثال على تحقيق التقارب وإشارة إلى نجاح المنطقة. ولكن اتضح في ما بعد أن معدلات الدخل كانت ترتفع لأسباب خاطئة، حيث دأبت الحكومة اليونانية على زيادة عدد الموظفين ورفع الرواتب العامة ودعم القروض الميسرة، مما تسبب في زيادة إنفاق المستهلكين.

وكانت السياسة المالية الموحدة، التي وضعها المصرف المركزي الأوروبي، تهدف إلى خفض معدلات الفائدة والتكامل السريع بين الأنظمة المالية في المنطقة - فضلا عن زيادة الاقتراض في البلدان التي لم تستطع توظيف الأموال بشكل فعال.

ويقول كارل فاينبرغ، كبير الخبراء الاقتصاديين في شركة «هاي فريكونسي إيكونوميكس» للاستشارات «لقد خدعنا جميعا في ما يسمى بـ(تجارة التقارب)»، مضيفا «كان الجميع في أوروبا على قناعة بأن هناك حكومة واحدة وأننا سنقف جميعا إلى جوار بعضنا البعض.. لكن عندما وقفت اليونان في ربيع عام 2010 لتقول (نحن في ورطة) ورد عليها الجميع بالقول (اذهبي بعيدا)، أدركنا وقتها أن تجارة التقارب قد تهاوت».

وكمثال على ما كان من المتوقع حدوثه، أدى تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى دول أوروبا الشرقية من ألمانيا والصين وغيرهما من البلدان إلى خفض تكلفة العمالة وزيادة الإنتاجية في بولندا وجمهورية التشيك وغيرهما من الدول التي كانت بعيدة نسبيا في الوقت الذي كانت تتم فيه مناقشة موضوع منطقة اليورو.

لقد أدركنا بعد فوات الأوان أن دول أوروبا الشرقية تمتلك بعض المميزات الطبيعية، حيث إنها كانت تمر بمرحلة تحول اقتصادي شامل من التخطيط المركزي في الحقبة السوفياتية إلى السوق الرأسمالية، وبدأت هذه العملية بمعدلات أجور أدنى بكثير من نظيراتها في أوروبا الغربية. لقد كانت هذه البلدان مبتدئة في ما يتعلق بقواعد العمل واللوائح الأخرى التي اشتكى منها المصنعون في اليونان وإسبانيا وغيرهما من الأماكن في منطقة اليورو.

وفي إطار مساعيهم الحالية لإبقاء الاتحاد النقدي متماسكا، يواجه الساسة الأوروبيون تساؤلا مهما يتمثل في ما إذا كانوا يستطيعون القيام بذلك الأمر من دون تقديم التنازلات السياسية والاقتصادية التي ينطوي عليها ذلك النوع المتكامل من الاتحادات الاقتصادية، حيث تقوم الدول بالتنازل عن سيادتها في مقابل مشاركة الأعباء بصورة أوسع. ولا تزال هناك بعض الخطوات قيد التنفيذ، حيث من المتوقع أن تعتمد منطقة اليورو قواعد مصرفية جديدة من شأنها أن تؤدي إلى مركزية الرقابة المالية والتأمين على الودائع، وهو ما سيسمح بدوره بانتشار اللوائح والمخاطر الخاصة بالنظام المالي في منطقة اليورو بين كل الدول الأعضاء بدلا من ترك كل دولة لتقف بمفردها أمام المصاعب، وهو الموقف الذي أدى إلى غرق آيرلندا ويمثل حاليا تهديدا كبيرا لإسبانيا. وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه تجري الآن مناقشة فرض المزيد من السيطرة المركزية على ميزانيات الحكومات في منطقة اليورو.

لكن حتى هذه السيطرة قد لا تكون كافية، حيث يؤكد المحللون أن الأقاليم التي تقوم بتداول العملة نفسها دائما ما تكون لديها وسائل لتحويل الأموال من البلدان الأكثر غنى إلى البلدان الأكثر فقرا وضمان حرية انتقال العمال إلى البلدان ذات معدلات التوظيف الأعلى أو مستويات الأجور الأعلى.

فعلى سبيل المثال، أحيانا ما يقل حجم الضرائب الفيدرالية التي تدفعها بعض الولايات الأميركية عن تكاليف الرعاية الصحية أو الضمان الاجتماعي أو غيرهما من المزايا التي يحصل عليها سكانها. لكن هذا الأمر لا يتسبب في حدوث مشاكل على الإطلاق، نظرا لترسخ جذور النظام الفيدرالي في الولايات المتحدة الأميركية. وشهدت الولايات المتحدة الأميركية أيضا عدة موجات من الهجرة المرتبطة بالبحث عن العمل - مثل الطفرات التي شهدتها صناعة الذهب أو النفط أو صعود مراكز تكنولوجية مثل وادي السليكون - وهو الأمر غير المعتاد في أوروبا، حيث ما زالت الحواجز الثقافية واللغوية تمثل عائقا كبيرا حتى وإن كانت الحدود مفتوحة من الناحية القانونية.

وإذا لم تستطع بعض البلدان مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا العثور على طريقة لاستعادة معدلات النمو، فقد تبرز الحاجة هنا لكلا النوعين من التحويلات لإبقاء العملة الموحدة على قيد الحياة.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»