إسطنبول تؤسس نواة لـ«وول ستريت» على وادي مرمرة

كلفة مشروع المركز المالي 2.6 مليار دولار

جانب من مدينة إسطنبول (رويترز)
TT

إنه أكثر من مجرد قطعة أرض متربة في حي أتاسيهير العصري في الجانب الآسيوي من إسطنبول، ففي غضون ثلاث سنوات سوف تنتشر المباني الإدارية الفاخرة إذا سارت الأمور بحسب الخطة الموضوعة، لتمثل نواة لـ«وول ستريت» على شاطئ مرمرة ويخرج مركز إسطنبول المالي العالمي إلى الوجود. وتعد فكرة إنشاء هذا المركز المالي الذي يقع على مساحة ميل مربع، مثل الكثير من أفكار رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ومن ضمنها دفعه باتجاه بدء تركيا، ذات الأغلبية المسلمة، محادثات رسمية خاصة بشأن عضويتها في الاتحاد الأوروبي، فكرة جريئة، بحسب ما تذكر مجلة «بلومبيرغ ماركتس» في عددها الصادر في شهر أكتوبر (تشرين الأول).

ويرسم أردوغان، الذي فاز حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه بالانتخابات خلال العام الماضي، صورة لتركيا كقوة اقتصادية وسياسية صاعدة في الشرق الأوسط وجنوب شرقي أوروبا. وسيكون المركز المالي العالمي، كما يعرف، تجسيدا لرؤية أردوغان في هيئة معدن وزجاج وخرسانة على حد قول كوبيلاي جينيمر، الذي تخلى عن منصبه كرئيس تنفيذي لفرع «ميريل لينش» في إسطنبول عام 2010 من أجل تأسيس شركته «فوكس ياتيريم هولدينغ إيه إس» لإدارة الصناديق الاستثمارية. وأخبر وزير البيئة والمجتمعات العمرانية، أردوغان بايراقدا، الصحافيين في بداية الشهر الحالي أنه مع بدء عمل المركز المالي العالمي بإسطنبول ستستعيد المدينة دورها التاريخي باعتبارها مركز تجارة عالميا.

وبحسب بعض المقاييس، تعد إسطنبول، التي يقع جزء منها في أوروبا والجزء الآخر في آسيا، وتضم 13 مليون نسمة، في طريقها إلى هناك بالفعل، فقد شهد القطاع المالي نموا جعل الدولة تحتل المركز السادس عشر في الاقتصاد على مستوى العالم.

واشترت كل من «ميوزهو فاينانشال غروب إنكوربوريشن» المصرفية اليابانية، وشركة «ميتسوبيشي إنكوربوريشن»، و«سبير بنك» الروسي، ومصرف «برقان» الكويتي، شركات تركية أو افتتحت فروعا لها في المدينة خلال العام الحالي منضمة إلى كيانات أخرى كبيرة سبقتها مثل مصرفي «سيتي غروب» و«إتش إس بي سي».

وبالنظر إلى وصول إجمالي الناتج المحلي التركي إلى 770 مليار دولار، بلغت نسبة نمو الاقتصاد التركي العام الماضي 8.5 في المائة، وهو ما يجعله ثالث أسرع اقتصاد في مجموعة العشرين بعد الصين والأرجنتين بحسب بيانات «بلومبيرغ». ومع ذلك حدث تباطؤ بسيط، حيث بلغ معدل النمو السنوي خلال الربع الأول من عام 2012، 3.2 في المائة.

ويقع مركز القطاع المالي التركي حاليا في حي ليفنت وماسلاك بإسطنبول على قمة تل مطل على مضيق البوسفور من الجانب الأوروبي للمدينة. وازدادت أصول جميع المصارف المصرح لها بالعمل في تركيا بمقدار ستة أمثال بحيث وصلت إلى 1.27 تريليون ليرة تركية (710 مليارات دولار) منذ عام 2002 إلى 2012 بحسب هيئة التنظيم والإشراف على القطاع المصرفي.

وساهمت المصارف القوية نسبيا في تركيا في حماية الدولة من حالة عدم الاستقرار التي سادت أوروبا. وبحسب الهيئة كانت نسبة الأصول إلى المخاطرة في المصارف التركية في يونيو (حزيران) 17 في المائة، وهي نسبة أكبر من النسبة المطلوبة قانونيا. وأصبح مؤشر بورصة إسطنبول وهو «آي إس إي ناشونال 100»، الذي يصل عمره إلى ربع قرن، واحدا من أهم مؤشرات البورصة الصاعدة في العالم. ويتجاوز حجم بورصة إسطنبول، الذي بلغ 120 مليار ليرة في 14 سبتمبر (أيلول)، قليلا بورصة فرانكفورت، التي يبلغ حجمها 51 مليار دولار، وبورصة اليونان ومصر مجتمعتين، وأكبر من بورصة دبي بنحو أربعة أمثال، في حين تبدو ضئيلة مقارنة ببورصتي نيويورك ولندن. وشهدت بورصة إسطنبول نموا نسبته 26 في المائة خلال العام الحالي وهو أكثر من ضعف حجمها في بداية عام 2009. وكذلك يشهد الاستثمار الأجنبي المباشر ازدهارا، فقد زاد حجمه خلال أول شهرين من عام 2012 بنسبة 25 في المائة مقارنة بحجمه في الفترة نفسها من العام الماضي.

لقد اشترت هيئة المطارات الفرنسية في مارس (آذار) حصة نسبتها 38 في المائة من شركة «تي إيه في هافاليمانلاري هولدينغ» لتشغيل المطارات التركية مقابل 874 مليون دولار. وتدير الشركة مطار أتاتورك الدولي، الذي يعد أهم مطار في إسطنبول ويحتل المركز الثلاثين على قائمة أكبر مطارات من حيث الحركة، وكذا مباني ركاب في لاتفيا وماسيدونيا وتونس والمملكة العربية السعودية.

ووافق مصرف «غولدمان ساكس» في أبريل (نيسان) على شراء 13 في المائة من شركة «أكسا إنيرجي أورتيم»، وهي أكبر شركة غير حكومية تعمل في مجال الطاقة الكهربائية.

ويحدث الرخاء، الذي يصاحب هذا النوع من النمو، تحولا في إسطنبول، حيث تنتشر المباني الجديدة من شقق وفيلات وفنادق في مختلف أنحاء المدينة فضلا عن محال كباب ومطاعم وحانات. وينجذب المسؤولون التنفيذيون وكبار المديرين الآخرين نحو «نادي المليارديرات»، وهو ملهى ليلي فخم متعدد الطوابق في فندق «إديشين» الذي يجمع بين الطراز العثماني وأضواء الثريات وكذا أضواء الديسكو الزرقاء.

ويقضي كبار المسؤولين التنفيذيين وقتهم في جزيرة «سوادا كلوب» التي هي من صنع الإنسان وتقع وسط البوسفور وتحتوي على حمام سباحة أولمبي وعدد من المطاعم. وهناك خطط لبناء جسر ثالث على مضيق البوسفور الصاخب، من المرجح أن تجلب المزيد من التنمية إلى بقعة متجمدة كبيرة في شمال إسطنبول.

ويعد المركز المالي العالمي في إسطنبول أداة يستطيع أردوغان استخدامها من أجل استغلال الروابط السياسية والتجارية، التي يعود بعضها إلى عصر الإمبراطورية العثمانية في البلقان ودول الخليج وشمال أفريقيا. وقدرات إسطنبول غير معروفة كما ينبغي لها أن تكون، على حد قول مارتن سبيرلينغ، الرئيس التنفيذي لمصرف «إتش إس بي سي» في تركيا في مؤتمر مالي عقد بإسطنبول في 13 يونيو. وأوضح قائلا: «لم أكن أدرك حجم إسطنبول حتى تم تعييني هنا، حيث ذهلت كثيرا. إسطنبول مرشحة بقوة لأن تكون مركزا ماليا عالميا بفضل موقعها وتاريخها وثقافتها وما تضمه من قدرات بشرية وكرم الضيافة بها، لكن علينا أن نوضح ذلك للعالم». وفي الماضي اقترح أردوغان عددا من المشاريع العملاقة توقف العمل بها.. من تلك المشاريع التي لم تكتمل إنشاء طريق سريع يربط بين إسطنبول ومدينة أزمير، التي تعد ثالث أكبر مدينة في تركيا.

وما زالت خطة أردوغان الرامية لإنشاء «قناة إسطنبول» بتكلفة 30 مليار دولار حبيسة الأدراج حتى بعد مرور أكثر من 18 شهرا من الإعلان عنها، نظرا للصعوبات التي تواجهها الحكومة في مبيعات خطوط أنابيب الغاز الطبيعي التابعة للدولة والحقوق التشغيلية لحصيلة الطرق.

ويقول بعض منتقدي المركز المالي العالمي إنه يركز على الشكل أكثر من الجوهر.. يقول مراد أوسر، الذي كان يعمل سابقا في البنك المركزي التركي: «يرجع السبب وراء عدم تحول تركيا إلى مركز مالي حتى الآن إلى مشكلة القدرة التنافسية الشاملة، ولكن تركيزنا على هذا الهدف بحد ذاته سوف يصبح بمثابة الانحراف عن المسار». ويضيف أوسر، الذي يعمل مستشارا في إسطنبول لشركة «غلوبال سورس بارتنزر»، وهي شركة استشارات اقتصادية تتخذ من نيويورك مقرا لها: «أتمنى أن يركزوا بصورة أكبر على سبل رفع القدرة التنافسية الشاملة والتصنيف المؤسسي في تركيا. ينبغي علينا القيام بالكثير من الأمور لجعل مدينة إسطنبول أكثر ملاءمة للعيش، فمن الممكن تطوير نظام التعليم ونظام الضرائب. وعلى أي حال، لا يزال أمامنا الطريق طويلا للوصول إلى هذه الأشياء».

ويؤكد أوسر أن المركز المالي العالمي ربما يعتبر نجاحا كبيرا، مضيفا أنه «ليس هدفا يستحيل تحقيقه، ولكن ينبغي علينا أن نكون أكثر واقعية بشأن هذا الموضوع، حيث ينطوي المشروع على أمور أكثر بكثير من مجرد إنشاء مبان جميلة».

ويقول بولنت علي رضا، رئيس البرنامج التركي في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن، إن أردوغان، الذي ينتمي إلى المذهب السني، لم يحظ دائما بالدعم الكامل من مجتمع الأعمال العلماني في تركيا حتى بعد مرور عقد من الزمان تقريبا في منصبه كرئيس للوزراء. وبعد تمكنه من تحقيق نمو اقتصادي مطرد في البلاد، بدأ أردوغان في استمالة الكثير من منتقديه الأكثر تأثيرا إلى صفه، مثل رحمي كوك، الرئيس الشرفي لشركة «كوك هولدينغ إيه إس»، وهي مجموعة من الشركات تمثل مبيعاتها أكثر من 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لتركيا.

وبعد ثلاثة أعوام من إعلان أردوغان عن خططه لإنشاء المركز المالي العالمي، اصطف الزعماء السياسيون والتجاريون الأتراك خلف هذا المشروع، الذي سيتكلف 2.6 مليار دولار والذي تقول الحكومة إنه سيخلق 50.000 فرصة عمل، فضلا عن توفير مقر جديد لبورصة إسطنبول.