المسؤولون الأوروبيون يطمئنون العالم بشأن مستقبل اليورو وتجاوز أزمة الديون

عبر تصريحات مليئة بالتفاؤل في مؤتمر دافوس

TT

وقعت اشتباكات بين عناصر الشرطة البلجيكية ومتظاهرين من العمال وأعضاء النقابات العمالية بالقرب من مقر الحكومة ببروكسل، بالتزامن مع اجتماع حكومي للنظر في تداعيات أزمة إعلان أحد المصانع عن إغلاق بعض الأقسام مما يعني تسريح 1300 عامل، في وقت جرى فيه الإعلان في باريس عن ارتفاع معدل البطالة السنوي، ويحدث ذلك بينما التصريحات المتفائلة من جانب القيادات الأوروبية مستمرة منذ انطلاق أعمال منتدى دافوس الاقتصادي العالمي.

ويحاول كبار المسؤولين إعطاء دفعات تشجيعية إيجابية للرأي العام العالمي بأن العملة الأوروبية الموحدة (يورو) سوف تتواصل وتقاوم، وأن العام الجديد سيكون أفضل. ودافع رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي أمام المنتدى عن سياسته المالية، متوقعا هدوءا في تعاملات أسواق المال خلال النصف الثاني من العام، وذلك استنادا إلى ما وصفه بـ«دلائل على أن الشروط المالية المناسبة والملائمة لهذا الهدوء سوف تتوافر خلال النصف الأول من السنة». إلا أن دراغي لم يحدد ماهية تلك الدلائل المتوافرة لديه على تحسن الشروط المالية في الوقت الذي حذر فيه خبراء مصرفيون أمام المنتدى من أن وفرة السيولة المالية في البنوك الأوروبية ليست بالضرورة معيارا إيجابيا، بل ربما تؤدي إلى فقاعة مالية. في الوقت ذاته، حذر دراغي من أن التراخي في دعم عملية التكامل المالي قد يعني المطالبة بالحصول على مزيد من المال لتعويض كل تأخير عن الخسائر، إلا أن كل هذا مرتبط بالبحث عن الطريق السليم وتركيبة الإجراءات التي يجب اتباعها لضمان الوصول إلى هذا الهدف ويجب أن تكون صحيحة.

ويعتقد دراغي أن الخطوات التي يقوم بها البنك المركزي الأوروبي ستؤدي إلى تقوية الحالة المالية بشكل عام، مما سيجعل الاقتصاد الأوروبي قادرا على المنافسة على الصعيد الدولي وخلال هذا العام. وبرر دراغي هذا التفاؤل بأن «عام 2012 كان عاما شيقا ومهما يمكن وصفه بأنه عام ميلاد اليورو مجددا، ليكون عام 2013 هو عام تطبيق الإجراءات التي تم الاتفاق عليها لعمليات الإصلاح. إلا أن كل تلك التوقعات الطموحة والإيجابية مرتبطة حسب دراغي بعودة عمل الأسواق المالية بلا توترات أو قلق، وهو أمر لا يزال غير مضمون رغم أن الأجواء المتاحة حاليا توفر مناخا جيدا للتعاملات في أسواق المال. ويتوقع دراغي أن تكون سياسة البنك المركزي الأوروبي المتكيفة مع الأوضاع قد وجدت طريقها إلى اقتصاد الواقع في دول مجموعة اليورو للتمكن من الاستفادة منها خلال هذا العام.

ولم يترك دراغي مجالا لمنتقديه لاتهامه بوجود أخطاء هيكلية، فبادر بالاعتراف بوجود احتمالات خطأ تركيب العملة الأوروبية الموحدة بشكل عام أو احتمال ظهور آثار جانبية سلبية يمكن أن تظهر نتيجة اتباع سياسية مالية غير تقليدية. لكن دراغي صارح الحضور في دافوس بأن «الحكومات فقدت سيادتها على المشهد الاقتصادي تحت ضغط العولمة وجبال الديون المتراكمة عليها، في حين أن الاتحاد الأوروبي ككتلة اقتصادية واسعة تتوافر فيه عوامل صحية وقوية». ومن هذا المنطلق يرى رئيس البنك المركزي الأوروبي أن «قيام الحكومات الأوروبية بمنح المؤسسات المتعددة الجنسيات بعضا من السلطات السيادية لن يؤدي إلى إضعاف الحكومات، بل يعود بها إلى مربع المفاوضات والظهور على المشهد الاقتصادي العالمي بصورة مختلفة». وصاغ دراغي ثلاث خطوات فعالة قال إنها لازمة لسياسة الإصلاح في أوروبا، أولاها إصلاحات تعالج نقاط الضعف الواضحة في دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني ضعفا شديدا، وذلك لتمكين مقومات النمو الاقتصادي من الصعود من خلال خلق وظائف عمل. ورأى أن العنصر الثاني يتطلب إصلاح الميزانيات العامة بصورة تجعلها أكثر فعالية من دون اللجوء إلى رفع الضرائب أو تقليل النفقات المخصصة للبنى التحتية، لأن هاتين الخطوتين تمثلان عقبة أمام النمو الاقتصادي المرجو. في حين أقر بأن العنصر الثالث هو أن كل تأخير في عمليات الإصلاح ستكون له تبعات سلبية كبيرة، إذ يجب على الحكومات المتضررة الخروج من الأوضاع الخطأ التي أودت بها إلى تلك المشكلة. ووصف دراغي توجهات بعض الدول الأوروبية المتعلقة بعمليتي إعادة صياغة ميزانيات الدول ومعايير النمو الاقتصادي بأنها متناقضة تماما وتعطي انطباعات خاطئة بل تعرقل إعادة صياغة الميزانيات عمليات النمو الاقتصادي المرجوة.

من ناحيته، رأى رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي، على سبيل المثال، أن «الإصلاح يبدأ أولا عندما تقوم كل دولة أوروبية بالتعامل مع ما لديها من أخطاء من جذورها وليس بشكل سطحي». وربط مونتي بين تلك الإصلاحات وما يجب استحداثه من آلية أوروبية موحدة تسعى بالتزامن مع هذا الإصلاح إلى التحرك بجدية لأن التراخي يعني تكلفة باهظة، إذ ستتفاقم تبعات الأزمة وتتراكم لتترك بصماتها ليس على المستقبل المنظور فقط بل على أجيال أخرى. وفيما يفكر البعض في تنافسية أوروبية أمام مختلف القوى الاقتصادية العالمية، يرى مونتي أنه من الأفضل تعزيز النشاط التجاري بين دول الاتحاد الأوروبي، مشيرا على سبيل المثال إلى مجالي سوق التقنيات الرقمية وسوق الطاقة، وهما المجالان اللذان يمكنهما إنعاش الحركة الاقتصادية ولم يتم التحرك فيهما أوروبيا بالقدر الكافي.

كما روج رئيس الوزراء الإيطالي إلى «الاستثمار في مشاريع قومية عامة ذات طابع أوروبي مشترك، منها على سبيل المثال مجالات البنى التحتية التي يمكن أن تتواصل فيها مختلف الدول الأوروبية». بينما رأت رئيسة الوزراء الدنماركية هيلا تورنينغ شيمت أن «الأزمة هي جرس إنذار قوي لإيقاظ أوروبا والعمل على بعثها من جديد محتفظة بعناصرها الأساسية، وهذا يتطلب اقتصاد سوق اجتماعيا، واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية». وشرحت أن «التجربة الدنماركية مختلفة قليلا، فهي من ناحية قامت بتحجيم ميزانيتها بالحد من الزيادات التي لا طائل منها وإصلاح نظم الضرائب وتأمينات التقاعد والتعليم وكلها إجراءات ليست سهلة لكنها مهمة ومطلوبة مع مراعاة احتياجات الفئات الاجتماعية الأكثر تضررا». في المقابل، كان رئيس وزراء آيرلندا اندا كيني حذر في التعامل مع مصطلح «إصلاحات»، لا سيما أن بلاده تضررت أيما ضرر من الأزمة المالية العالمية، فكان حذرا في التعامل مع موضوعات مثل «التغيرات الجذرية لإعادة هيكلة البنوك والمؤسسات المالية وإعادة تمويلها وتخفيض معدلات الفوائد على الديون». إلا أن الأهم حسب رأيه هو «اكتساب الرأي العام لتأييد عمليات الإصلاح المطلوبة ومن ثم يمكن الانطلاق فيها بتأييد منه».

ومن هولندا، قال رئيس وزرائها مارك روت إن «الإصلاح القاسي» كان إحدى أهم الخطوات التي قامت بها حكومته من خلال سياسات تقشفية تم وصفها بأنها عمليات ترشيد إنفاق. ومن الواضح من تلك الآراء المنطلقة من دافوس أن وجهات النظر متفقة على أن الإصلاح يقود إلى الاستقرار ومنه إلى النمو ومعه يتم التخلص من البطالة ثم تبدأ الشعوب في تحقيق طموحاتها تباعا، لكن هذا يتطلب وقتا كي يتمكن اقتصاد الاتحاد الأوروبي من التعرف على أولى مراحل الاستقرار.

من جهتها، تتوقع الحكومة الإسبانية استقرار اقتصاد البلاد في الربع الثالث من العام الحالي ونموه بشكل طفيف في الربع الأخير. وذكر وزير الاقتصاد الإسباني لويس دي جيندوس، في مؤتمر صحافي على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في مدينة دافوس السويسرية، أن «الاقتصاد الإسباني في أوضاع العودة للنمو في النصف الثاني من العام الحالي». وخفض صندوق النقد الدولي مجددا توقعاته للنمو في إسبانيا بنسبة 0.1 في المائة لعام 2013 لتصل إلى 1.5 في المائة، و0.2 في المائة لـ2014، لتصل إلى 0.8 في المائة مقارنة بتوقعات أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وأعلن دي جيندوس أيضا عن اتخاذ الحكومة الإسبانية في الأسابيع المقبلة إجراءات معينة جديدة لزيادة المرونة في الرواتب وتحسين المالية العامة. وأضاف أن الحكومة الإسبانية ستتخذ إجراءات تساعد على «تشجيع تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة». وتعاني إسبانيا من أزمة مالية حادة تسببت في وصول معدلات البطالة إلى نسب تاريخية تقترب من 25 في المائة من القادرين على العمل.

يأتي ذلك بينما نرى أن عشرة في المائة هو معدل الارتفاع السنوي في فرسا لعدد العاطلين عن العمل من فئة «أ» أو أولئك المسجلين في مكتب التوظيف كأشخاص من دون وظيفة. وبين شهري ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني) سجل عدد العاطلين عن العمل ارتفاعا ليتجاوز ثلاثة ملايين شخص. وزير العمل الفرنسي شدد على أن المعركة ضد البطالة تحتاج إلى وقت طويل ليتم التغلب عليها. وحسب العديد من المحللين فإن «الأسباب الرئيسية وراء البطالة في فرنسا هي ظرفية. الاقتصاد سجل نموا بطيئا جدا غير كاف لتخفيض معدلات البطالة. نحن بعيدون عن الحد الذي يمكننا من قلب النتائج لتأمين وظائف للأجيال الجديدة وبالتالي تخفيض معدلات البطالة». المحللون يعتبرون أنه على فرنسا تسجيل نمو بين 1.5 في المائة و2 في المائة لتخفيض معدلات البطالة، فيما خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو هذا العام إلى 0.3 في المائة. ويقولون أيضا إن «الدفاع عن التوظيف هو الأولوية بالنسبة للحكومة الفرنسية. لكن كل شيء يشير إلى أن الطريق طويل للخروج من الأزمة حتى ولو أثبتت الحكومة فعالية سياستها». وفي بلجيكا، وقعت اشتباكات بين المئات من عمال شركة «آرسيلور ميتال» وأعضاء في نقابات عمالية من جهة وقوات الأمن في العاصمة البلجيكية بروكسل، على مقربة من مقر الحكومة التي كانت مجتمعة لبحث موضوع إغلاق جزء من وحدات منطقة لييغ التابعة لهذه المؤسسة المتخصصة في تحويل الفولاذ.

ويهدد قرار الإغلاق الذي أعلن مؤخرا وظائف 1300 عامل، وهو ما يثير قلقهم ويدفعهم إلى الاحتجاج. وأمام إصرار المحتجين على التقدم نحو مقر الحكومة لمطالبتها بتأميم «آرسيلور ميتال» ومحاولة آخرين سد الطرقات الرئيسية في العاصمة بروكسيل بالحواجز، استخدمت قوات الأمن خراطيم المياه لتفريقهم.