ديترويت تواجه أزمة جديدة من نوعها

20 مليار دولار دين.. ولا خارطة طريق لإنعاشها

TT

بعد سعي ديترويت، أكبر مدينة أميركية لطلب الحماية من الدائنين في المحكمة، يزداد حجم المعاناة التي تواجهها هذه المدينة وضوحا، فقد اعترض الدائنون بشدة على محاولة ديترويت تسديد قدر ضئيل للغاية من أموالهم وممثلي عمال المدينة، الذين يواجهون خفض مخصصاتهم، الذين قالوا: إن المدينة فشلت في التفاوض بشكل صحيح قبل لجوئها إلى المحكمة.

ويقول ريك سيندر، حاكم الولاية، خلال تصديقه على قرار لجوء ديترويت إلى المحكمة لطلب الإفلاس بعد توصية من كيفن دي أور، المدير المالي الطارئ الذي عينه سيندر لحل الموقف المالي المتأزم: «الحقائق المالية التي تواجه ديترويت تم تجاهلها طويلا. أنا أتخذ هذا القرار الصعب حتى يحظى أبناء ديترويت بالخدمات الأساسية التي يستحقونها ومن ثم يمكننا أن نبدأ في وضع ديترويت على أرض مالية صلبة تسمح لها بالنمو والازدهار في المستقبل».

قال الكثير من سكان في هذه المدينة بما في ذلك القادة المنتخبون إن الإفلاس يبدو مؤسفا لكنه كان أمرا حتميا. لكن أولئك الذين يمثلون عشرات الآلاف من موظفي المدينة والمتقاعدين قالوا: إنهم ينوون تولي القضية وبخاصة آلاف المتقاعدين الذين يعتمدون على معاشات المدينة.

وقال لي سوندرز، رئيس الاتحاد الأميركي لموظفي الولاية والمقاطعة والبلديات: «يبدو واضحا أن الحاكم سيندر وكيفن أور يريدون لموظفي الخدمة العامة في ديترويت أن يعتمدوا على أبنائهم في الطعام والمأوى، أو أن يضطروا إلى العمل حتى توافيهم المنية».

ترقى الخطوة إلى الإفلاس التي قامت بها قادة ديترويت، مهد صناعة السيارات الأميركية والتي كانت في السابق رابع أكثر المدن الأميركية كثافة سكانية، أيضا إلى أضخم إفلاس لبلدية في التاريخ الأميركي من حيث الدين.

لا يتفق الجميع على مقدار ديون ديترويت، لكن أور، مدير الطوارئ قال: إن الدين يتوقع أن يكون 18 مليار دولار وربما 20 مليارا.

يأتي الإفلاس بالنسبة لديترويت، كتذكير مؤلم بنهضة وسقوط المدينة.

وقالت ترينسي تايسون، عاملة بالمدينة علمت بالإفلاس وهي تترك عملها في مبنى بلدية ديترويت يوم الخميس: «إنه لأمر محزن، لكن المؤشرات كانت واضحة منذ فترة طويلة».

توسعت ديترويت بمعدل مذهل في النصف الأول من القرن العشرين مع وصول صناعة السيارات، ثم انكمشت بوتيرة ملحوظة خلال العقود الأخيرة. فالمدينة التي كان يقطن بها 1.8 مليون في عام 1950. انخفض عدد سكانها الآن إلى 700000 شخص، فضلا عن عشرات الآلاف من المباني المهجورة، والأماكن الشاغرة والشوارع غير المضاءة.

في الوقت الراهن لا توجد خارطة طريق لانتعاش ديترويت، لأن حالات إفلاس البلديات أمر نادر. وقال مسؤولون في الولاية إن الأعمال التجارية العادية ستمضي على ما كانت عليه من قبل، رغم نقل قادة المدينة القضية إلى القضاء، أولا لإثبات أن المدينة متعثرة ماليا بشكل كبير حتى تكون مؤهلة للحصول على الإفلاس، ثم للتأكيد على ضرورة توصل دائني ديترويت وممثلي عمال المدينة ومتقاعدي البلدية إلى تسوية للحصول على أقل مما كان متوقعا في السابق.

وأبدى بعض الخبراء الإفلاس وقادة المدينة أسفهم على التداعيات المحتملة للإفلاس، وما سيخلفه من آثار. وبالإضافة إلى خفض رواتب عمال المدينة والمتقاعدين، يتوقع تراجع الخدمات المقدمة للسكان، وهو ما سيكون له تأثير ضار على الاقتراض.

وتقول ديان روبنسون، سكرتيرة عملت في مجلس المدينة لـ20 عاما: «يمكنني أن أقتنع بإمكانية إفلاس عائلة، لكن بالنسبة لمدينة كبيرة كهذه، هل يمكن أن تنفع أصلا؟ ماذا سيحدث للمتقاعدين ذوي الدخول الثابتة؟».

لكن آخرين، من بينهم بعض قادة الأعمال في ديترويت التي شهدوا زيادة في حجم الاستثمارات الخاصة رغم الصعوبات الأكبر التي تواجهها المدينة، قالوا: إن الإفلاس بدا الخيار الوحيد المتبقي - وواحدة قد تؤدي في النهاية إلى إجراء إصلاحات ضرورية لخدمات المدينة وإلى خطة لسداد بعض نسخة المخفضة من الديون الساحقة. باختصار، بداية جديدة.

وقالت ساندي بارواه، رئيسة الغرفة الإقليمية في ديترويت: «أسوأ ما يمكننا القيام به هو تجاهل المشكلة. نحن في النهاية ننفذ إصلاحا».

قرار اللجوء إلى المحكمة يشير إلى انهيار بعد أسابيع من المفاوضات المشحونة التي حاول فيها أور إقناع الدائنين بالتخلي عن جزء من ديونهم والنقابات العمالية بقبول خفض المستحقات.

في البداية، حمل قرار تدخل الولاية - بما في ذلك سنايدر لإرسال إدارة الطوارئ - آثارا عنصرية، لتحدث موجة من القلق بالنسبة للبعض في ديترويت الذين اعتقدوا أن حكومة الولاية التي يسيطر عليها الجمهوريون البيض تحاول السيطرة على المدينة، وهي مدينة ديمقراطية، أكثر من 80% من السكان من السود.

طبيعة الوضع في ديترويت يؤكد على أنها ستكون موضع رقابة سوق سندات البلدية، من خلال نقابات القطاع العام، وقادة المدن الأخرى التي تواجه تحديا ماليا في جميع أنحاء البلاد. وقد تقدمت ما يزيد على 60 من المدن والبلدات والقرى والولايات إلى المحكمة للحماية من الدائنين، بموجب الفصل 9. تلك العملية القضائية التي تستخدمها البلديات، منذ منتصف الخمسينات.

وقد أصدر قادة واشنطن ولانسنغ، عاصمة الولاية بيانات في وقت متأخر من يوم الخميس أعربوا فيها عن قلقهم. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض إن الرئيس أوباما وفريقه يراقبون الوضع عن كثب.

وقال آمي برونداغ، المتحدثة باسم البيت الأبيض في بيان لها: «رغم تفهم المسؤولين في ميتشغان ودائني المدينة بضرورة التوصل إلى حل للمأزق المالي العصيب الذي تواجهه ميتشغان، سنظل ملتزمين باستمرار شراكتنا القوية مع ديترويت خلال سعيها للتعافي واستعادة نشاطها والحفاظ على مكانتها كواحدة من أعظم المدن الأميركية».

يفوق دين ديترويت على دين مقاطعة جيفرسون في ولاية آلاباما، التي كانت أضخم بلدية تفلس في عام 2011 بدين بلغ 4 مليارات دولار. ويبلغ تعداد سكان ديترويت، أضخم مدينة في ولاية ميتشغان، ضعف سكان بلدية ستوكتون في كاليفورنيا التي أفلست عام 2012 وكانت أكثر مدينة من حيث الكثافة السكانية تقوم بذلك.

وكانت هناك مدن رئيسة أخرى مثل نيويورك وكليفلاند في السبعينات وفيلادلفيا في التسعينات، التي تقف على شفير الهاوية المالية لكنها تمكنت في النهاية من العثور على حلول دون اللجوء إلى المحكمة الفيدرالية. ويرى الخبراء أن صراع ديترويت صعب للغاية لأنه لا يقتصر على حدث واحد أو صفقة مالية فاشلة، مثل نظام الصرف الصحي المتعثر والذي أسهم بشكل كبير في سقوط مقاطعة جيفرسون.

بل كانت هناك الكثير من العوامل على مر السنوات التي أوصلت ديترويت إلى هذه المرحلة، من بينها قاعدة ضريبة مضمحلة لكنها لا تزال ضخمة، ومدينة بحجم 139 ميل مربع ينبغي الحفاظ عليها ونظام رعاية صحية مكلفة وتكلفة المعاشات والجهود المتواصلة لإدارة الديون المتراكمة في ظل اقتراض متزايد، وعجز مالي في ميزانية المدينة التشغيلية منذ عام 2008، وخدمات المدينة التي تعيقها أنظمة الكومبيوتر المتهالكة وأنظمة حفظ السجلات الرديء والخلل الوظيفي المتفشي.

كل ذلك يجعل من الإفلاس - عملية قد تستغرق شهورا إن لم يكن سنوات، ويتوقع أن تكون مكلفة في حد ذاتها - ومعقدة إلى حد بعيد.

وقال جيمس سبيوتو، الخبير في إفلاس البلديات في شركة «تشابمان وكولتر» للمحاماة في شيكاغو: «لا يكفي القول: إننا بحاجة إلى خفض الدين. بل أنت بحاجة إلى خطة تعافي حقيقية، وإلا فسوف تكرر نفس الخطأ مرة أخرى.

وستولي سوق سندات البلدية اهتماما خاصا لديترويت بسبب ما قد يعنيه للاستثمار في سندات الالتزام العام. وكان مسؤولو ديترويت قد اقترحوا خلال الأسابيع الأخيرة، سداد قدر محدود من ديون المدينة، حيث أشاروا إلى أنهم ينوون إلى معاملة المستثمرين الذين يملكون سندات الالتزام العام بنفس الأولوية يولونها للعاملين في المدينة، على سبيل المثال - وهي الفكرة التي تتعارض مع اتفاقيات السوق، حيث كان ينظر إلى سندات الالتزام العام على أنها أكثر الاستثمارات أمانا وأنها تسدد بالكامل.

كذلك يترقب قادة النقابات في القطاع العام والمتقاعدين البلدية في مختلف أنحاء البلاد لمعرفة ما إذا كان سيسمح لديترويت بخفض استحقاقات المعاشات التقاعدية، رغم الحكم الوارد في دستور الدولة الذي يقول زعماء الاتحادات إنه يمنع مثل هذه التخفيضات.

يقول بعض الخبراء إن مسؤولي المدن الأخرى المتعثرة ماليا قد يشعرون بالحماسة لانتهاج مسار ديترويت. لكن الاندفاع نحو إعلان الإفلاس البلديات لا يبدو محتملا، وسوف ينتظر قادة المدن الأخرى ما ستسفر عنه هذه القضية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالمعاشات التقاعدية وتكاليف الرعاية، بحسب كارول دينيستون، محامية الإفلاس بشركة «شيف هاردن» التي تقدم المشورة لمجموعة دافعي الضرائب التي تكونت في ستوكتون بعد إفلاسها.

وأضافت: «إذا انتهى الأمر بسابقة تسمح بإعادة هيكلة استحقاقات التقاعد في محكمة الإفلاس، فإن هذا من شأنه أن يجعل منها خيارا جذابا للمدن. ولذا فإن ديترويت اختبار بالنسبة لهم».

يسود نوع من عدم اليقين على نطاق واسع في هذه المدينة حول ما قد يعنيه الإفلاس حقا، سواء في الوقت الراهن أو على المدى البعيد. وقال مسؤولون إن العاملين في المدينة تلقوا رسائل لإعلامهم أن الأعمال النشاط التجاري في المدينة سيمضي قدما كما هو معتاد، من فواتير إلى تصاريح. ويخطط المسؤولون لإنشاء خط ساخن للمقيمين وغيرهم من الأسئلة والمخاوف.

بالنسبة لبعض أبناء ديترويت، عملت الذكريات الأخيرة لإفلاس كرايسلر وجنرال موتورز - وعودة ظهور تلك الشركات - على ما يبدو على تهدئة مخاوفهم. ولكن الخبراء يقولون: إن إجراءات إفلاس الشركات تختلف اختلافا كبيرا عن إفلاس البلديات.

ففي إفلاس البلديات على سبيل المثال تكون قدرة القضاة على التدخل في كيفية إدارة المدينة محدودة بشكل كبير. ويأتي إفلاس البلديات كنوع من أشكال التسوية المتصلة بعبء الديون بدلا من التصفية أو إعادة التنظيم.

من المرجح أن يشهد سكان ديترويت تغييرات فورية محدودة عن الطريقة التي تدار بها المدينة منذ مارس (آذار) عندما تولى أور الإشراف على القرارات الكبرى. ومن المتوقع على نطاق واسع أن يستمر أور، بحكم عمله كمحام إفلاس، في إدارة ديترويت خلال العملية القانونية. ولا يزال العمدة ديف بينغ وأعضاء مجلس مدينة ديترويت المنتخبين يتلقون رواتبهم لشغل الوظائف، والسماح لهم اتخاذ قرارات لتسيير المدينة بشكل يومي، رغم قدرة أور على إلغاء تلك السلطات.

وأعرب أور عن رغبته، كمشارك في أي إعادة هيكلة، في إنفاق 1.25 مليار دولار على تطوير البنية التحتية والخدمات في المدينة. لكن القلق الأكبر بالنسبة لسكان ديترويت لا يزال إمكانية تقلص الخدمات، التي يفتقدونها بشدة بالفعل بسبب الإفلاس.

فأشار تقرير من مكتب أور إلى أن نحو 40% من مصابيح الشوارع في المدينة لا تعمل، وأن أكثر من نصف باحات رصف السيارات في ديترويت مغلقة منذ عام 2008.

* خدمة «نيويورك تايمز»