«دروس» الأزمة العالمية تدفع للمطالبة بتغيير طريقة تدريس الاقتصاد في الجامعات

وسط حذر من أكاديميين لدعوات تحديث جذري للمناهج

TT

«العالم يتغير، أما مناهج التعليم فلا». هذه هو شعار «جمعية اقتصاد ما بعد الانهيار»، التي أسسها مجموعة من الطلبة الدارسين في جامعة مانشستر والذين يطالبون بإدخال إصلاحات على طرق تدريس الاقتصاد للطلاب الجامعيين في ضوء ما كشفته الأزمة الاقتصادية العالمية من نقائص في مناهج التدريس القديمة. وهناك أيضا الكثير من الأنشطة المماثلة التي يجري تنظيمها من قبل نخبة من جمعيات الطلبة الجامعيين، مثل «خطاب مفتوح إلى غريغ مانكيو» الذي قدمته مجموعة ذائعة الصيت تضم طلبة الاقتصاد في المرحلة التمهيدية في جامعة هارفارد في ذروة الأحداث التي نظمتها حركة احتلوا وول ستريت. وفي السياق ذاته، أطلقت الكثير من المؤسسات مثل «معهد فكر اقتصادي جديد»، ومقره نيويورك، برامج تجريبية تهدف إلى إصلاح مناهج الاقتصاد التي يدرسها الطلاب الجامعيين.

غير أن أساتذة الاقتصاد يردون على تلك المطالبات بتغيير وإصلاح مقررات الاقتصاد التعليمية بالقول: إنه رغم أن الأزمة الاقتصادية العالمية قد فرضت تحديات فريدة من نوعها، فإنه يبقى هناك مجموعة أساسية من المعارف في مجال الاقتصاد يحتاج الطلبة إلى دراستها. أما إذا كان الطلبة يرغبون في تعلم المزيد، فبإمكانهم الالتحاق بصفوف تعليمية متقدمة حيث يجري دراسة مواد توفر مواضيع اقتصادية مختلفة قليلا عن تلك التي تُدرس رسميا في الجامعات. بيد أن هؤلاء الطلبة ينبغي عليهم تعلم الأساسيات حتى يكون بمقدورهم تحليل الأشياء المتعلقة بالاقتصاد، سواء فيما يتعلق بفروع دراسة الاقتصاد أو حتى خارجها.

ولوجهة نظر أساتذة الاقتصاد هؤلاء وجاهتها. وتنطوي فكرة تغيير مناهج تعليم الاقتصاد على مخاطر أيضا، حيث تُعتبر المصطلحات المستخدمة في الاقتصاد لغة خطاب النخبة، وبالتالي فإن إدخال أي تغييرات على مقررات تعليم الاقتصاد للطلبة الجامعيين من المحتمل أن تؤدي إلى تحولات عميقة في طرق فهم الأجيال القادمة للاقتصاد وأزماته، سواء بشكل أفضل أو بأسلوب أسوأ.

وبالتالي فهناك مشكلة مؤقتة تواجه مناهج الاقتصاد في المراحل التمهيدية، وهي أنه ينبغي دراستها بشكل عكسي. وربما يكون عكس الترتيب الذي يجري من خلاله تعليم مناهج الاقتصاد التمهيدية هو الأسلوب الأسهل لمواجهة أزمة التعليم الجامعي. فضلا عن ذلك، فإن تاريخ كيفية تعليم تلك المناهج الآن يعد أمرا مشوقا ومتعلقا بالسياسة أكثر مما يعتقد المرء.

وفي الوقت الحالي، يبدأ طلبة السنة الأولى الجامعية كما هو معتاد بدراسة الاقتصاد الجزئي، أو دراسة أسواق الأفراد، حيث يجري تدريس الأسواق بشكل مجرد وبعيدا عن أي سياقات، حيث يعمل كل من العرض والطلب بتناغم تام، ويعمل الأفراد بشكل منعزل، ويتبادلون التجارة من دون مجهود يُذكر وبمعزل عن المجتمع والقانون والسياسة. يُطلب من الطلبة في السنة الأولى أن يتخيلوا «روبنسون كروزو»، بطل الرواية الشهيرة التي كتبها دانيال ديفو ونُشرت للمرة الأولى عام 1719. وهو عالق على جزيرته يصنع خياراته الخاصة فيما يتعلق بالعمل والطعام واللهو. ثم تمضي مناهج الدراسة التمهيدية حتى تصل في نهاية الأمر إلى تدريس الأوضاع التي لا تعمل فيها الأسواق بشكل مثالي، على سبيل المثال، عندما يفرض تلوث البيئة تكاليف على البعض، أو عندما تتوفر لشخص ما السلطة لوضع قائمة أسعار محددة.

أما في السنة الدراسية الثانية، فيبدأ الطلبة في دراسة الاقتصاد الكلي، أو بالأحرى ما يحدث عندما يجري التفاعل بين كل تلك الأسواق. وبعد تعلم كل ما يتعلق بأساسيات الاقتصاد، يتحول الطلبة لدراسة مفهوم النمو على المدى الطويل أولا. ورغم أن الإجابات الجامدة تبدو غير مفهومة حتى بالنسبة لخبراء الاقتصاد، يبدو هذا الفرع من الدراسة مهتما بفهم كيفية تغير الأشياء على المدى الطويل. ثم إذا تبقى وقت في العام الدراسي، فربما يجري تدريس القضايا الاقتصادية قصيرة الأمد، لا سيما تلك المواضيع الخاصة بدورة الأعمال وحالات الركود والبطالة الاضطرارية.

لاحظ كيف أن ذلك يساهم في توجيه اهتمامات الطالب العادي غير المتخصص والذي سوف يواجه الاقتصاد مرة واحدة خلال دراسة تلك المناهج البحثية. فالطلبة يبدأون بدراسة السوق المجرد التي تعمل دائما من دون أي مشاكل، وفي المقابل يطلعون على النواحي التي تسبب اضطرابا في عمل تلك الأسواق. ثم ينتقلون إلى دراسة مفهوم النمو طويل الأمد، وبعد كل ذلك، يدرسون الأسباب التي تجعلهم يفهمون لماذا ترتفع معدلات البطالة بهذا الشكل الكبير بين خريجي الجامعات. ساعتها فقط ربما يناقشون قضية المؤسسات التي تساعدهم في الانضمام إلى سوق العمل، هذا إذا لم يُعرضوا عن مناقشة تلك القضية من الأساس.

والسؤال الآن: ماذا لو جرى دراسة كل تلك المواضيع بطريقة عكسية؟

ماذا لو درس الطلبة الاقتصاد الكلي أولا قبل دراسة الاقتصاد الجزئي؟ وإذا كان هناك من سبيل لتدريس المناهج النمطية بطريقة عكسية، فإن أول شيء سيواجهه الطلبة الجامعيون لن يكون النظريات المجردة، لكن بالأحرى سيكون فكرة البطالة الاضطرارية وفكرة أن الاقتصاد من الممكن أن تجري إدارته حتى بأقل الإمكانيات المتاحة. وسيدرس الطلبة أيضا الاقتصاد من حيث قضايا النمو قصيرة الأجل ثم ينتقلون بعد ذلك إلى النمو طويل الأجل، مع شرح الأساتذة للنظريات التي توضح كيفية ارتباط نوعي النمو بعضهما البعض، مما يستدعي مفاهيم غاية في الأهمية مثل التلكؤ أو (hysteresis).

ثم وفي الصف الدراسي التالي، يدرس الطلبة الاقتصاد الجزئي. بيد أن ذلك المجال سيجري دراسة محتوياته نفسها بشكل عكسي، حيث سيبدأ الطلبة بدراسة المؤسسات وفهم ما العوامل التي تؤدي إلى خلق اقتصاد السوق. ثم ينتقلون بعد ذلك إلى مسألة الشركات التي تتميز بقدرتها على قيادة السوق وتأثيراتها الخارجية على العوامل الاقتصادية المختلفة، ثم أخيرا التأكيد على ما يُطلق عليه نموذج روبنسون كروزو المنعزل والأمثل.

وخلال عملية الدراسة العكسية، لن يجري تجاهل أيا من عناصر الأبحاث الحالية في مجال دراسة الاقتصاد. بيد أنه سيجري تغيير المحتوى، وتغيير الأولويات الدقيقة والمواضيع ذات الأهمية القصوى التي تُدرس للطلبة في كيفية ترتيب تلك المواد. وبالتالي سيجري استبعاد دراسة الاقتصاد المجرد واقتصاد الأفراد والاقتصاد الجزئي، وبدلا من ذلك سيبدأ الطلبة بدراسة الاضطراب الذي يحدث في دورة الأعمال، وما إذا كان للاقتصاد الكلي فائدة أم لا، وكذلك المؤسسات التي تساعد في جعل تلك الأشياء ممكنة.

ومن الممكن أن يكون لذلك الأسلوب أهمية كبيرة. وهذا ما يتفق معه خبير الاقتصاد البريطاني سيمون ورن لويس الذي يشير إلى أن ما يمكن تسميته «كتيب الاقتصاد الاسترشادي» لا يحتوي على ما يُسمى بالتقشف. لكن تخيل الاختلاف الكبير بالنسبة لطالب يقضي فصلا دراسيا كاملا في دراسة الفكرة (الخاطئة) أن نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي العالية ربما تؤثر على النمو الاقتصادي، فقط ليكون بمقدوره الحصول على نموذج سريع عن قضية معدلات البطالة الكبيرة حاضر في ذهنه خلال الأسبوع الذي يسبق الاختبارات النهائية مباشرة.

وربما يدور في ذهنك الآتي: «انتظر لحظة، أنا متأكد من ذلك، فبما أن الاقتصاد علم، فهذا الترتيب هو بالكامل نتاج عمل أولئك الأشخاص الذين يرتدون المعاطف البيضاء في معامل الأبحاث الذين يواصلون النظر في المجهر والأشياء العلمية الأخرى حتى يستنبطوا الطريقة المثلى لفهم تلك المواد العلمية». وهذا الكلام مضحك جدا، لأن ذلك الترتيب هو في جزء منه نتاج التاريخ والسياسة.

وقد كان تفسير الترتيب الذي يسير به تدريس العلوم مختلفا دائما. فقد قال الخبير الاقتصادي العبقري بول سامويلسون ذات مرة «لا يهمني أن أعرف من الذي يضع قوانين الأمة، أو من الذي يبرع في صياغة لوائحها، إذا كان باستطاعتي تأليف كتب في الاقتصاد». وقد ظل سامويلسون يضع الكثير من الكتب لفترة طويلة من الزمن. وفي الإصدار الأول لكتابه الأشهر «الاقتصاد» الذي صدر في عام 1948، أورد سامويلسون دراسة الاقتصاد الكلي أولا. أما مؤسسات عصرنا الحالي، فتدرس الاقتصاد الجزئي المجرد أولا. وتعد مسألة «مغالطة التعميم» من أهم الأفكار الأساسية فيما يتعلق بفكرة دراسة الاقتصاد بشكل عكسي، حيث توضح تلك الفكرة أن ما ينطبق على بعض الأشخاص أو الأسواق لا ينطبق بالضرورة على مجموع السلوك في النظام الاقتصادي.

وفي الوقت الحالي، ورغم ذلك، تراعي أحدث الإصدارات من هذا الكتاب الترتيب العادي للمناهج التعليمية. والسؤال الآن هو: متى حدث ذلك التغيير في ترتيب أجزاء الكتاب؟ من خلال الاطلاع على الإصدارين الثالث عشر والرابع عشر من الكتاب، اللذين جرى طباعتهما في عامي 1989 و1992. يتضح لنا أن الاقتصاد الكلي يأتي أولا في الإصدار الثالث عشر، بينما جرى عكس الترتيب في الإصدار الرابع عشر.

وتوضح مقدمة الإصدار الرابع عشر بشكل واضح السبب وراء التغيير، حيث ذُكر في هذا الإصدار أنه يحتوي على «فكرة هامة متكررة» جديدة فيما يتعلق «بإعادة اكتشاف السوق». وفي ضوء الاحتفاء بنهاية الاتحاد السوفياتي، كانت الدول في أوروبا الشرقية تسارع إلى الترويج لمذهب الرأسمالية، في حين كانت نظيرتها الغربية تعمل على تحرير وخصخصة الصناعات المختلفة. ويصف سامويلسون هذه الأحداث السياسية بأنها علامة على «نهاية العالم»، فهي تعتبر «كمعادل لوضع الاقتصاد الجزئي أولا في تسلسل تدريس الاقتصاد». كان يُنظر إلى الاقتصاد الجزئي على أنه مقدم على وضروري في ذات الوقت بالنسبة للاقتصاد الكلي، طارحا بين ثناياه المفهوم الخاص بمغالطة التعميم. ولا يقتصر الأمر على هذا فحسب، بل كان التأكيد الجديد على الاقتصاد الجزئي المجرد، الذي يجري تناوله خارج سياقه، يعني أن المؤلفين «حذفوا جزءا كبيرا من المادة الأساسية الأقل أهمية من أجل فهم الاقتصاد الحديث».

وفي كتاب (عصر الانكسار)، الكتاب الرائع لدانيال رودجرز خلال الثلاثين عاما الماضية، جرى استخدام هذا التغيير في كتاب سامويلسون من أجل وصف التحول الرئيس في فهم علم الاقتصاد منذ سبعينات القرن الماضي، وكذلك كيف أن الاستخدام المجازي لكلمة «سوق» قد ترسخ في العقل الجمعي. وفي النموذج القديم، الذي ما زال موجودا حتى أواخر عام 1989. جاءت «إشكاليات العالم الحقيقي عن الاقتصاد الإجمالي الذي يعج بالمؤسسات ويشتمل على قطاعات مشاركة بين القطاع الخاص والعام في بداية الكتاب. ورغم ذلك، فبحلول أوائل تسعينات القرن الماضي، كان من المتوقع أن يكون تدريس جميع علوم الاقتصاد مجرد «سلسلة من التوضيحات والمهارات فيما يخص فكرة المنافسة المثالية». (ويمكن أن يُقال نفس الشيء بخصوص المجال ككل).

وللأسف، ظهر أن أشياء مثل المؤسسات واللوائح وتوزيع الدخل والطريقة التي جرى من خلالها الترويج لاقتصاد السوق في دول الاتحاد السوفياتي السابق وفساد دورة الأعمال والنسبة الكبيرة من البطالة هي جميعها أمور واقعية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: من كان يعرف ذلك؟ إن هذا الأمر لن يقدم لنا جميع الحلول للمشكلة، حيث ستحتاج الكثير من المواضيع الاقتصادية إلى إعادة تفعيلها مرة أخرى على المستوى المتوسط. بيد أنها بداية تحدث بالكامل داخل علم الاقتصاد السائد. ورغم تناسي علم الاقتصاد لجميع هذه الأشياء عند شرحه للطلبة الصغار في خضم الشعور بالابتهاج والسرور في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي، أو ما يطلق عليه «نهاية العالم»، فمن الممكن أن يكون الوقت الحالي توقيتا رائعا لإعادة توجيه مجال دراسة الاقتصاد بالنسبة لطلبة الجامعة.

* خدمة «نيويورك تايمز»