عندما تكون الولايات المتحدة رقم اثنين

كيشوري محبوباني

TT

سيشهد العالم في عام 2019، بعد خمس سنوات تقريبا من الآن، أحد أهم أحداثه التاريخية، فللمرة الأولى منذ 200 عام ستكون دولة غير غربية (الصين) الاقتصاد الأول في العالم، وفق قواعد تعادل القوة الشرائية، وستحتل الولايات المتحدة المركز الثاني. صحيح أن ذلك سيتطلب وقتا أطول من الاقتصاد الصيني كي يتجاوز أميركا في القيمة الاسمية، لكن مؤشر الصعود لا يقاوم. ووفق تعادل القوة الشرائية ربما يبلغ حجم الاقتصاد الصيني ضعف حجم نظيره الأميركي بحلول عام 2020.

لكن التساؤل الأبرز في الوقت الراهن هو: هل أميركا مستعدة كي تصبح الاقتصاد رقم اثنين؟ المحزن أنها ليست كذلك، على الرغم من محاولة بيل كلينتون الحصيفة لفت انتباه مواطنيه لتلك الحقيقة في عام 2003، في كلمته الذكية التي ألقاها في جامعة يال، عندما تساءل عما إذا كانت هناك ضرورة «لمحاولة خلق عالم ذي قواعد وشراكات وعادات سلوكية نود العيش دون أن نكون القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية العظمى في العالم؟!».

لسوء الحظ كان كلينتون ماكرا للغاية، فقد كان يحاول أن ينبه مواطنيه الأميركيين إلى ضرورة خلق نموذج من السلوك القائم على القواعد التي ستشكل حينئذ نموذجا للصين عندما تحتل قمة الاقتصاد العالمي. لكن هذا التلميحات جرى تجاهلها. ومن ثم، لا يدرك كثير من الأميركيين اليوم أن المصالح الوطنية الأميركية ستتغير كثيرا عندما تتراجع إلى المركز الثاني في العالم. وعندما تكون في المركز الأول، ستكون مصلحة أميركا أن ترى أن القوة الأولى في العالم لديها الحرية الكاملة للقيام بكل ما تريد. وعندما تكون الثانية، فليس من صالح أميركا أن ترى أن القوة الأولى لديها الحرية الكاملة للقيام بكل ما تريد. هل أدركت الفرق؟! لماذا فشل القادة الأميركيون في تهيئة المواطنين الأميركيين لهذا التغيير الكبير في المصالح؟ هناك ثلاثة أسباب على الأقل. أولا، إنه انتحار سياسي لأي سياسي أميركي في السلطة أن يتحدث عن تراجع أميركا إلى المركز الثاني. كما وثقت في كتابي «التقارب العظيم»، لا يستطيع أي سياسي أميركي في الخدمة استخدام عبارة «إذا كانت أميركا رقم اثنين...» أو «عندما تصبح أميركا رقم اثنين...» ففي أرض حرية التعبير، ليس هناك حرية حقيقية للسياسيين للحديث عن حقائق لا يمكن إنكارها.

ثانيا، لا يزال معظم المثقفين الأميركيين منغمسين في التفكير الحالم. فلديهم قناعة آيديولوجية عميقة بأن الديمقراطية تمثل المستقبل، والشيوعية تمثل الماضي. ونظرا لأن الصين لا تزال محكومة من قبل الحزب الشيوعي الصيني، فمعنى ذلك أنها لا تمثل سوى الماضي، وليس المستقبل. ويعتقد كثير من المفكرين الأميركيين أيضا أن حياتهم في أكثر المجتمعات حرية في العالم، تعني أنهم لا يمكن أن يكونوا سجناء لأي آيديولوجية. وهذا نوع من خداع الذات الكبير. فعندما يتعلق الأمر بفهم الصين، يسمح الأميركيون للآيديولوجيا أن تتفوق على جبال من البيانات التجريبية. وربما كان هذا هو السبب في أنهم غير قادرين على تقبل أن تصبح الصين رقم واحد.

ثالثا، وهو المحزن للغاية، أن ظهور الصين يجري في لحظة من الشلل السياسي الكبير والتفرقة في الجسم السياسي الأميركي. ولو أن نيكسون وكيسنجر يديران السياسة الخارجية الأميركية اليوم، لركزا على التحدي الأكثر أهمية الذي يواجه أميركا، وبحثوا عن وسائل وسبل متميزة لتنفيذ النصيحة الحكيمة التي عرضها بيل كلينتون في عام 2003، والإعداد لبيئة جيوسياسية جديدة. لقد ولت أيام الإدارة السياسة الخارجية الحكيمة في واشنطن العاصمة، علاوة على ما تعانيه واشنطن من انقسام تام، واستقطاب، فإن تحدي التعامل مع كونها رقم اثنين هو آخر شيء يراود عقول صناع السياسة الأميركية.

وللأسف، فإن آخر شيء يمكن أن يراود عقول صناع السياسة الأميركية سيتحقق في غضون خمس سنوات. فهل ستستيقظ أميركا على هذا الواقع الجديد قبل أم بعد حدوثه؟

* عميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية ومؤلف كتاب «التقارب العظيم: آسيا والغرب ومنطق العالم الواحد»

* خدمة «غلوبال فيوبوينت»