كيفية جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى لبنان

TT

نسمع الكثير عن الخطوات الواجب اتخاذها لجذب الاستثمارات الاجنبية المباشرة الى لبنان نظراً للآمال المعقودة على التدفقات الاستثمارية للمساهمة في تقليص الدين العام، من خلال عملية التخصيص، ودفع عجلة النمو الاقتصادي عبر تحسين ميزان المدفوعات وتقليص العجز في مالية الحكومة من جهة، وخلق فرص عمل من جهة اخرى. لكن ما يجب النظر فيه بامعان هو ما تتوخاه الشركات الاجنبية في بلد ما لتظهر اهتماما بالاستثمار في احد قطاعاته. ولنا في النظريات الاقتصادية التي عنيت بدرس ظاهرة الاستثمارات الاجنبية المباشرة، وبالتحديد النموذج الانتقائي (EclecticModel) الذي طوره الاقتصادي جون داننغ، افضل شرح للاحتياجات والظروف التي تحيط بقرار أي شركة بدء نشاطات انتاجية في بلد مضيف. يحدد داننغ ثلاثة انواع من الميزات التفاضلية التي يجب توفرها للشركة المعنية حتى يصبح قرارها بالاستثمار في بلد مضيف ذا جدوى اقتصادية. الميزة الاولى تترتب على ملكية الشركة لعناصر تفاضلية يمكن استغلالها ضمن المنافسة مع الشركات المحلية، وهذه تتضمن الخبرات التكنولوجية ومهارات التسويق وغيرها. الميزة الثانية تؤدي الى الاستثمار الاجنبي المباشر عندما ترى الشركة انه من الاجدى اقتصادياً ابقاء الخبرات ونتائج البحث والتطوير ضمن اروقة الشركة بدل تقديمها الى شركة محلية من خلال رخصة انتاج . غير ان هاتين الميزتين تحتاجان الى الميزة الثالثة التي تتعلق بالبلد المضيف والمنافع المترتبة على بدء الانتاج فيه بدل اختيار بلد آخر. هذه المنافع قد تتضمن حرية الوصول الى مصادر الثروات الطبيعية والاسواق، ووفرة عناصر الانتاج بكلفة تنافسية، وامكانية تجاوز الحواجز التجارية مثل التعرفة الجمركية العالية وتحديد الحصص من الصادرات. واذا ما كانت الميزتان ـ او الشرطان ـ الأولان يتعلقان بالشركة المستثمرة، ويمكن توفرهما بسهولة مقارنة بالشركات المحلية، فان ما يحتاجه البلد المضيف الحريص على استقدام الاستثمارات الأجنبية هو تحسين موقعه بالنسبة للشرط الثالث، أي ميزة الموقع.

في لبنان ـ وحتى يومنا هذا ـ لا توجد ثروات طبيعية جديرة بالذكر، فلبنان لا يملك مخزوناً نفطياً ولا ثروات معدنية تستقطب شركات التنقيب. أما بالنسبة للأسواق، فإن حجم السوق اللبنانية صغير جداً، وبالرغم من ان الناتج المحلي للفرد يناهز 5000 دولار اميركي في السنة فان عدد السكان (حوالي 4 ملايين) لا يساعد على خلق الفرص للشركات التي تعنى بالنشاطات الانتاجية ذات الحجم. تصاحب هذا الضيق في حجم السوق المحلية صعوبة الوصول الى الأسواق المجاورة: السوق الاسرائيلية لا سبيل اليها في حين ان الاتفاقات التجارية مع سورية لم تؤتِ النتائج المرجوة بعد.

ان كلفة عناصر الانتاج مشكلة اخرى تواجه الاستثمارات الاجنبية ـ والمحلية ايضاً، وهذه تتضمن الارض، واليد العاملة، ورأس المال. للاسف، لبنان لا يملك أي ميزة تفاضلية على أي من هذه الجبهات الثلاث. اذا ما نظرنا الى عامل الارض نجد ان صغر مساحة لبنان والطلب المتزايد على قطاع الاسكان، اديا الى ارتفاع سعر الارض بشكل خيالي مقارنة بالبلدان المجاورة. اما بالنسبة لليد العاملة ـ الماهرة والرخيصة في آن ـ فإن نقصها يسبب مشكلة اخرى تواجه المستثمرين في قطاعي الصناعة والخدمات. فحيث تتوفر اليد العاملة الماهرة تكون كلفتها عالية وغير تنافسية. العامل الاخر المتعلق برأس المال ليس بافضل حال، فكلفة الاستدانة في لبنان عالية جدا نظراً للفوائد المرتفعة. اما العقبات الاخرى المتأتية من سوء الادارة، والبيروقراطية المضنية، وغياب الاطر القانونية التي توضح حقوق وواجبات المستثمرين، بالاضافة الى غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي، فانها تخفض من فرص لبنان في استقطاب الاستثمارات المباشرة. يجب الاعتراف اذن بضعف مركز لبنان ضمن المنافسة الإقليمية لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وعلينا أن لا نتوهم أن زوال حالة اللاستقرار السياسي ـ التي نالها الكثير من اللوم ـ من خلال حل سلمي اقليمي، سيؤدي بالضرورة الى تحسين تنافسية لبنان. لذا، فالحكومة اللبنانية مطالبة بتطوير استراتيجية شاملة وطويلة الامد لتحسين تنافسية لبنان. ولقد تحركت حكومة الرئيس رفيق الحريري في هذا السياق من خلال خطوات شملت تخفيض الجمارك، وتطوير قانون الملكية للأجانب، وإحداث قانون تشجيع الاستثمار. غير ان هذه الخطوات غير كافية لأن المشكلة الاساسية تكمن في امرين: صغر حجم السوق المحلية وكلفة عناصر الانتاج المرتفعة.

على صعيد حجم السوق، يتوجب على الحكومة اللبنانية توقيع اتفاقات تجارة حرة مع كل دولة او اتحاد دول يظهر اهتماما بالتعاون مع لبنان. وهذا يشمل الاسراع في تنفيذ اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي التي وقعت مؤخراً وتطوير الاتفاقات الموقعة مع الدول العربية لأن ضمان حرية الوصول الى اسواق مجاورة من خلال السوق اللبنانية يحسن وضع لبنان التنافسي لجذب الاستثمارات المباشرة. لكن تبقى الاستثمارات بحاجة الى عناصر الانتاج بكلفة تنافسية. وبالرغم من ان الصورة تبدو قاتمة فانه بالامكان تخفيض كلفة الأرض واليد العاملة بشكل يشجع على الاستثمار. وللوصول الى هذه النتيجة يتوجب على الحكومة اللبنانية ان تحول اهتمامها باتجاه المناطق النائية، لأن كلفة الأرض في هذه المناطق ما زالت منخفضة. وبالإمكان في هذا المجال الاقتراح على الحكومة اللبنانية بتغيير الخطة العقيمة الملحوظة لإنشاء مناطق صناعية حرة في منطقتي رياق والقليعات من مشاريع يبنيها مستثمرون على طريقة الـBOT الى مشاريع تشرف عليها الدولة مباشرة. بمعنى آخر، لقد عُرض هذان المشروعان منذ اكثر من ستة سنوات دون ان يستقطبا الاهتمام المطلوب من القطاع الخاص الأجنبي او المحلي، وهذا امر متوقع لأن عائدات بناء مدينة صناعية غير مضمونة بالنسبة للقطاع الخاص. لذلك، على الحكومة الغاء فكرة الـBOT واستبدالها بخطة حكومية يتم من خلالها تجهيز هاتين المنطقتين بالبنى التحتية المطلوبة ومن ثم تقسيم الأرض وعرضها على الصناعيين ـ محليين وأجانب ـ مقابل رسم ايجار رمزي لفترات تشجيعية تتراوح بين 10 و15 سنة. وبدل انشاء مدن صناعية اسمنتية يصعب التخلص منها بعد زوال الحاجة اليها يمكن بناء المصانع في عنابر يمكن تفكيكها.

بالتأكيد، هذه المناطق النائية بحاجة الى شبكة مواصلات وخطة الحاق مطاري رياق والقليعات بهاتين المنطقتين الصناعيتين لن تؤدي الى خفض الكلفة لأن قطاع النقل الجوي ليس أرخص خيارات النقل. ومن الافضل اعادة احياء شبكة السكك الحديدية التي يحتاجها لبنان في قطاعي نقل البضائع والركاب لربط هذه المناطق بالعاصمة والمرافئ البحرية، بالاضافة الى ربطها بالشبكة السورية التي سيساعد تطويرها على الوصول الى الأسواق الاخرى. وعندما يسهل الوصول الى هذه المناطق يصبح بالامكان تشجيع اليد العاملة الماهرة على ترك بيروت ومحيطها باتجاه فرص العمل الجديدة. كما ان هذه المناطق ستوفر نسبة كبيرة من اليد العاملة غير الماهرة المتدنية الكلفة، ويمكن للحكومة تشجيع المستثمرين على تدريبها حسب احتياجاتهم من خلال منحهم تخفيضات ضريبية. ونعتقد ان على الحكومة اللبنانية العمل الجاد لتوفير القروض الطويلة الأجل بفوائد متدنية للصناعات المحلية التي يمكنها ان تنافس في الأسواق الخارجية. علينا أن نتذكر ان كثيراً من الاستثمارات الأجنبية يفضل الدخول في شراكة مع ـ او شراء ـ الشركات المحلية الناجحة، ولنا في حالة استحواذ شركة نستلة Nestle التدريجي على شركة «صحة» خير مثال. لبنان ليس حالة ميئوس منها، غير ان تحديث الاطر القانونية لا يكفي. ان تأمين حرية الوصول الى اسواق اكبر، وتوفير عناصر الانتاج بكلفة اقل، امران لا بد منهما.