البنك الدولي يحذر من أزمة عالمية في تمويل الرعاية الصحية

أكد أن هناك حاجة إلى ما يتراوح بين 25 و70 مليار دولار أميركي من المعونات الخارجية الإضافية

TT

حذر تقرير جديد أصدره البنك الدولي إلى أن أنظمة الرعاية الصحية في كافة أنحاء العالم تكافح من أجل مواجهة التكاليف المتصاعدة بشدة، في نفس الوقت الذي تسعى فيه البلدان جاهدة للتصدي لأزمة فيروس ومرض الإيدز وتفادي احتمال تحول إنفلونزا الطيور إلى وباء بشري عالمي، بينما تستمر الفجوة الهائلة في مجال الرعاية الصحية بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة. وعلى الرغم من التركيز العالمي الذي لم يسبق له مثيل على الرعاية الصحية باعتبارها قضية إنسانية ومتعلقة بالأمن القومي، ومن الزيادات الكبيرة في المعونات الإنمائية الموجهة للرعاية الصحية، فقد توفي ثلاثة ملايين شخص نتيجة فيروس ومرض الإيدز في العام الماضي وحده. ويبلغ متوسط العمر المتوقع في أفريقيا حاليا 47 سنة. ولولا الخراب الذي أحدثه فيروس ومرض الإيدز، لكان ذلك المتوسط قد بلغ الآن 62 سنة. كما أن مرض السل (الدرن) قابل للشفاء بأدوية منخفضة التكلفة، ومع ذلك يموت بسببه 5000 شخص كل يوم، ويصدق نفس الشيء على الملاريا التي تودي يوميا بحياة 3000 شخص معظمهم من الصغار. ويثير التقرير الجديد الذي صدر امس بعنوان «إعادة بحث تمويل الرعاية الصحية ـ دليل للممارسين» بواعث قلق خطيرة تتعلق بالجهود العالمية الحالية لتوسيع نطاق وصول أنظمة الرعاية الصحية من أجل تحسين الحالة الصحية للملايين من أشد سكان العالم فقرا بحلول عام 2015، كما تدعو إلى ذلك الأهداف الإنمائية للألفية الجديدة.

ويقول التقرير الذي تلقت «الشرق الأوسط» نسخة منه إن المجتمع الدولي، من جانبه، يجب أن يفي بوعده بإحداث زيادة كبيرة في معوناته الإنمائية في نفس الوقت الذي يجعل من الممكن فيه التنبؤ بحجمها وجعلها مستدامة. كما أن التمويل من المؤسسات (الخيرية) الخاصة والشراكات العالمية، الذي كان زهيدا جدا في عام 1990، يمثل حاليا حوالي 20 في المائة من مجموع المعونات المقدمة للرعاية الصحية. غير أن كثيرا من جهود المانحين شوهت أولويات الإنفاق القطرية، وزادت تكاليف المعاملات، وجزأت تقديم خدمات الرعاية الصحية.

ومن ناحية أخرى، فإن البلدان النامية هي التي يتعين عليها في نهاية المطاف التصدي لتحديات إصلاح أنظمة تمويل الرعاية الصحية لديها من أجل إيجاد موازنات تشغيل كافية، وضمان حصول جميع مواطنيها على رعاية صحية فعالة، مع حماية شعوبها من الفقر نتيجة المصروفات الطبية الهائلة الناجمة عن كوارث صحية والنكسات الأخرى مثل التعطل عن العمل أو الكوارث الطبيعية.

وأوضح التقرير أن الإنفاق العالمي على الرعاية الصحية في عام 2002 بلغ 3.2 تريليون دولار أميركي، أي حوالي 10 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، غير أن حوالي 12 في المائة فقط من هذا المبلغ أنفق في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. ومن ناحية أخرى، قال التقرير، ان البلدان المرتفعة الدخل على الرعاية الصحية تنفق بنسبة الفرد أكثر مما تنفقه البلدان المنخفضة الدخل بحوالي مائة مرة، على الرغم من أن الفقراء في البلدان النامية محاصرون بنسبة 90 في المائة من عبء المرض في العالم، مؤكدا أن الأسوأ من ذلك أن معظم الإنفاق الهزيل على الرعاية الصحية في البلدان النامية يدفعه الفقراء أنفسهم لأن معظم البلدان الفقيرة لا تستطيع أن توفر لمواطنيها ولو الحد الأدنى من خدمات الرعاية الصحية الأساسية الضرورية.

وقال جان لويس ساربيب، النائب الأول لرئيس البنك الدولي المسؤول عن شبكة التنمية البشرية، التي أعدت التقرير الجديد، إن «هذا التقرير يبين لنا كيف يواجه الفقراء في بلدانهم النامية الخراب المالي شبه المؤكد عند التصدي للأمراض الكبرى دون الحماية المالية التي تقدمها بطريقة عادية أنظمة الرعاية الصحية الفعالة في بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. ولهذا الشكل من عدم المساواة والعدالة عواقب وخيمة بالنسبة للحالة الصحية لفقراء العالم نظرا لأنه يعني أن تعرضهم لمرض كبير، والاضطرار إلى دفع أتعاب الطبيب من جيوبهم، يمثل وصفة تلقائية للوقوع في براثن الفقر». وعلى المستوى الوطني، تؤدي هذه المشاكل أيضا إلى الحد من الإنتاجية والنمو الاقتصادي، في نفس الوقت الذي تشهد فيه بلدان نامية كثيرة زيادات مستمرة في أعداد سكانها، وارتفاعا في متوسط العمر المتوقع. ويقول التقرير إن سكان العالم سيزيدون من 6 مليارات نسمة حاليا إلى رقم متوقع يبلغ 7.5 بليون نسمة بحلول عام 2020 وإلى 9 مليارات نسمة بحلول عام 2050. وستحدث كل هذه الزيادة تقريبا في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، إذ سيتضاعف عدد السكان في 50 من أشد بلدان العالم فقرا بحلول عام 2050. وستؤدي هذه التغيرات الديموغرافية وحدها على مدى العشرين عاما القادمة إلى أن تواجه معظم البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل زيادات سنوية تتراوح بين 2 و3 في المائة في نفقات الرعاية الصحية. اما على المستوى الإقليمي، فسيؤدي هذا إلى زيادة الاحتياجات الكلية للإنفاق على الرعاية الصحية بنسبة 14 في المائة في منطقة أوروبا وآسيا الوسطى، وبنسبة 37 في المائة في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، وبنسبة 45 في المائة في منطقة جنوب آسيا، وبنسبة 47 في المائة في منطقة أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، وبنسبة 52 في المائة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وبنسبة 62 في المائة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ونتيجة لهذا الزخم في النمو السكاني، ستدخل أعداد أكبر من الأشخاص قوة العمل.

ويقول جاسكو بودوي، مدير إدارة الصحة والتغذية والسكان التابعة للبنك الدولي، التي رعت الدراسة الجديدة، إنه «سيتوقف ما إذا كانت هذه ستكون «نعمة ديموغرافية» تتمثل في إسراع خطى النمو الاقتصادي، أو «نقمة ديموغرافية» تتمثل في زيادة معدلات البطالة والقلاقل الاجتماعية، على السياسات الحكومية التي تشجع النمو الاقتصادي ونمو قوة العمل».

ويشير التقرير الجديد الى إن إصلاح قطاع الرعاية الصحية في أي مكان في العالم مهمة معقدة، وبينما تظهر التجارب الدولية أن هناك نماذج كثيرة يمكن الاختيار من بينها ـ سواء أكانت في شكل أنظمة الخدمة الصحية الوطنية، أو الصناديق الاجتماعية للتأمين الصحي، أو التأمين الصحي الاختياري الخاص، أو التأمين الصحي المستند إلى المجتمعات المحلية، أو شراء المستهلكين للخدمات الصحية مباشرة ـ فإنه لا يوجد طريق واحد ووحيد تسير فيه البلدان الراغبة في تقديم رعاية طبية جيدة المستوى لمواطنيها بأقل تكلفة للأسر وللاقتصادات الوطنية. وبين التقرير المعونات الإنمائية للرعاية الصحية زادت زيادة كبيرة على مدى السنوات القليلة الماضية، إلى أكثر من 10 مليارات دولار أميركي في عام 2003. وقد تركزت معظم الزيادات في الآونة الأخيرة على منطقة أفريقيا وعلى أمراض وإجراءات تدخلية منفردة، مما أثار أسئلة هامة بشأن مدى تشويه مثل هذه المعونات لأنظمة الرعاية الصحية حين توجه بمثل هذه الطريقة الضيقة والمحددة. ويقول التقرير إن تخصيص المعونات الإنمائية لأمراض محددة يمكن أن يكون فعالا حين لا تتوفر لدى البلدان النامية أموال كافية لتمويل موازناتها الصحية. ولكن مع تطور أنظمتها الصحية، فإن وجود أنظمة صحية مصغرة منفصلة لكل مرض بعينه يعتبر وصفة للهدر وعدم الكفاءة. وعلاوة على ذلك، وبالنظر إلى النقص الحاد في العاملين الصحيين المدربين في كثير من البلدان الأفريقية، فإن هذه البرامج تتنافس مع بعضها البعض على توظيف المهنيين المهرة القلائل اللازمين لتشغيل أنظمة الرعاية الصحية العامة. ويقول التقرير إن للبلدان المرتفعة الدخل تاريخا حافلا بإصلاحات تمويل أنظمة الرعاية الصحية حيث تطورت أنظمتها من ترتيبات تأمينية اختيارية مستندة إلى المجتمعات المحلية إلى صناديق تأمين عامة رسمية ثم إلى أنظمة تمويل مستندة إلى تأمين صحي اجتماعي أو وطني. وقد حققت كل البلدان المرتفعة الدخل تقريبا، ما عدا الولايات المتحدة، التغطية الصحية الشاملة أو القريبة من الشاملة. وتطبق منذ فترة من الوقت أنظمة تمول من الضرائب، بينما بدأت تطبق في عهد أحدث أنظمة تأمين اجتماعي. وكانت الإرادة السياسية حاسمة الأهمية في تحقيق التغطية الشاملة، جنبا إلى جنب مع النمو الاقتصادي.

وعلى الرغم من أن البلدان المرتفعة الدخل تعمل في أطر مختلفة جدا عن الأطر التي تعمل فيها البلدان المنخفضة الدخل، فإن تجاربها تقدم مع ذلك بعض الدروس للبلدان الأقل دخلا والبلدان المتوسطة الدخل:

ـ النمو الاقتصادي هو أهم عامل في التحرك نحو تحقيق التغطية الشاملة.

ـ تحسين الإدارة والقدرات الإدارية أمر حاسم الأهمية في توسيع نطاق التغطية، مثله مثل الالتزام السياسي القوي.

ـ بالنسبة للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل التي تجتاز مرحلة التحول إلى التغطية الشاملة، يمثل الإنفاق العام والمساهمات في أنظمة التأمين الصحي الاجتماعي المصدرين الرئيسيين للتمويل العام. وكلاهما يجمّع إيرادات عامة في مجمع واحد أو عدة مجمعات. ونظرا لأن القضيتين الحاسمتي الأهمية هما تجميع الإيرادات والدفع المسبق، فإن اختيار نظام تأمين صحي اجتماعي أو نظام خدمات صحية وطني، في نهاية المطاف، يعتبر أمرا ثانوي الأهمية.