حاكم المصرف المركزي اللبناني: نمر بظروف اقتصادية صعبة ونحتاج لمبادرات لإعادة النشاط

رياض سلامة في حديثه لـ الشرق الاوسط: الحرب أتت بنتائج كارثية ونتطلع للمؤتمر الدولي

TT

أكد حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة أن لبنان يمر بظروف اقتصادية صعبة بعد سلسلة الأحداث الدامية التي مرت عليه بدءا من اغتيال الرئيس رفيق الحريري الى الاعتداء الاسرائيلي في شهر يوليو (تموز) الماضي، وقال سلامة في حوار خاص مع «الشرق الأوسط» أثناء مروره في باريس إن هناك مبادرات دولية أطلقت لإعمار لبنان، والى جانب ذلك فإن الدول العربية تسعى لأن تعيد للبنان نموه الاقتصادي من خلال عدد من المشاريع. يذكر أن مؤسسة «يوروماني» قاد اختارت أخيرا رياض سلامة «أفضل» حاكم لمصرف مركزي في العالم.

ويقول سلامة إن اختياره يشرفه شخصيا، لكنه بالدرجة الأولى «اعتراف» بما يقوم به البنك المركزي للمحافظة على الاستقرار المالي والنقدي في لبنان في ظروف الحرب وبالتقدم الذي حققه النظام المصرفي في لبنان. وفي حديثه الشامل لـ«الشرق الأوسط» تناول سلامة مجمل الوضع المالي والمصرفي في لبنان بعد الحرب الإسرائيلية في لبنان ونتائجها الكارثية، مركزا على المشاورات الجارية حاليا لعقد المؤتمر الدولي الموعود الذي لم يعرف بعد لا تاريخ ولا مكان انعقاده.

> الوضع الاقتصادي في لبنان مترد بعد الحرب: ركود اقتصادي، بطالة، إفلاس شركات، خوف من المستقبل... هل المؤتمر الاقتصادي الدولي الموعود لدعم لبنان هو الترياق؟

ـ لبنان مر بظروف اقتصادية صعبة خلال العام الماضي بسبب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري فكانت الحركة الاقتصادية معدومة في الأشهر الستة الأولى. كذلك اجتزنا ظروفا صعبة هذا العام بسبب الاعتداء الإسرائيلي، لذا فنحن بحاجة الى مجموعة من المبادرات لإعادة إطلاق النمو الاقتصادي وتحقيق الاستقرار الاجتماعي اللذين يبحث عنهما لبنان. وليس سرا أن لبنان عانى من مشاكل متتالية، جزء منها تقع مسؤوليته على عاتق اللبنانيين أنفسهم والجزء الآخر وهو كبير تم تصديره إلينا حيث استخدم لبنان ميدانا لحروب الآخرين.

> هل يمكنك توضيح المطلوب من مبادرات؟

ـ المؤتمر الدولي لدعم لبنان جزء من هذه المبادرات. ففي اجتماعات سنغافورة الأخيرة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كرس اجتماع لدعم لبنان، وجاء ذلك بعد أن أصدرت مجموعة الدول السبع الغربية توصية بتوفير دعم مالي للبنان. والى جانب هذه المجموعة، فإن الدول العربية تسعى لأن تعيد للبنان النمو الاقتصادي الذي شهده في الأشهر الستة الأولى من هذا العام، إذ كان من المفترض أن يصل النمو الى 6 في المائة. والحال أن ما نتوقعه اليوم هو أن يكون النمو صفرا في المائة. أضف الى ذلك أن الحرب أضرت بالنشاط الاقتصادي الذي بلغت خسائره بحدود ملياري دولار، تضاف اليها 3 مليارات دولار خسائر البنية التحتية. ولذا فان ثمة حاجة لعقد المؤتمر الدولي.

> هل ثمة حاجة لمبادرات أخرى؟

ـ ثمة مبادرات إصلاحية يجب أن تنفذ في لبنان لجهة إعادة تنظيم المالية العامة وضبط العجز. ونحن ننطلق من مبدأ أن الأموال التي يمكن أن تمنح للبنان والتي نتمنى ونسعى لأن تكون هبات، لا يجب أن تذهب لتغطية العجوزات التي ستكرر في السنوات القادمة. ولذا، يجري العمل على إعداد مقترحات وبرنامج يجب أن يحظى بموافقة الحكومة وقبل أن نذهب الى المؤتمر الاقتصادي. > تريد أن تؤكد على الحاجة الى ورقة عمل؟

ـ نعم. وزير المالية يقوم بتحضير ورقة عمل بمشاركة مصرف لبنان، وهذه الورقة بحاجة الى قرار من الحكومة اللبنانية. وإذا لم تقم الحكومة بذلك، فلن يستطيع لبنان تقديم مشروع إصلاحي ذي مصداقية، وبالتالي لن يفضي المؤتمر الى النتيجة التي نطمح اليها.

> هذا يعني أن التوافق السياسي الداخلي لا بد منه لإنجاح المؤتمر؟ ـ أكيد. التوافق السياسي ضروري ومن دونه لا قرار من مجلس الوزراء. غير أنه ثمة حاجة الى مبادرات أخرى، منها ما يتعلق بالبنك المركزي وتتناول التعاطي مع نتائج الحرب التي تحملتها بعض القطاعات الإنتاجية.

> مثلا؟

ـ قدّر أحد المكاتب الخاصة الذي كلف مهمة تقدير الأضرار التي لحقت بالقطاعات الصناعية والزراعية والخدماتية الخسائر بـ 385 مليون دولار. وستظهر هذه الخسائر حتما في القطاع المصرفي على شكل مزيد من الديون على الشركات والمؤسسات المعنية. لذا نحن بصدد اتخاذ قرارات لتجاوز هذا الوضع عبر مبادرة سنقوم بها الشهر الجاري لمساعدة المصارف على إيجاد حلول للحسابات التي تضررت مباشرة وللحسابات التي يمكن أن تتأثر من الآن وحتى عام أو عام ونصف.

وفي باب المبادرات، ثمة سعي لتوفير خطوط ائتمانية للقطاع المصرفي من مؤسسات مالية دولية تعطي تسليفات بعيدة الأجل وبسعر الفائدة العالمية للمصارف التي بدورها يمكن أن تسلف القطاع الخاص. وبالطبع، هذا الأمر لا علاقة له بموضوع الديون العامة لأنها ديون تجارية وتهم القطاع الخاص.

وفي إشارتك للديون، أريد أن أقول إننا طلبنا أن يعطى لبنان منحا وليس قروضا وتحديدا لتفادي تفاقم الديون.

> ولكن ما سيكون دور مصرف لبنان المركزي في هذه الآلية؟ هل ستكفلون الخطوط الائتمانية؟

ـ نحن لا نكفل بل نلتزم دور التنظيم، إذ ثمة خطوط ائتمانية تتم مباشرة بين المصارف ومنها ما يمر بمؤسسات الكفالة للقروض التي لا تتخطى سقف ألف دولار.

> المسؤولون الفرنسيون يقولون إن المؤتمر قد يعقد في بيروت وقد لا يعقد في بيروت. ما الذي يقوله حاكم مصرف لبنان؟

ـ مكان المؤتمر لم يحدد بعد، وتحديد المكان سيتم على ضوء سعينا لتوفير أوسع مشاركة وأرفع تمثيل، ولذا نحن نجري اتصالات بغرض الوصول الى اتخاذ قرار، وعلينا أن نطلع على رأي الدول والجهات المانحة ولما تريده أغلبيتها، علما أنه ليس هناك تشدد من قبلنا لجهة أن يتم المؤتمر في بيروت. وحتى الآن، لم يتقرر بعد مكان الاجتماع.

وفي هذا السياق ذهبت لجنة فرنسية الى لبنان وقامت باتصالات أولية. ومهمة البعثة جمع كل المعطيات اللازمة حتى ترفع توصيات الى الرئيس شيراك والحكومة الفرنسية في موضوع مقاربة المؤتمر الموعود. > من ستكون الجهة الداعية؟

ـ لبنان والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وحاليا، هناك بعثة من صندوق النقد في لبنان وهي تعمد الى جمع كل الإحصائيات عن الواقع الاقتصادي والمالي بعد الحرب. ومن المفترض أن يعقد المؤتمر قبل نهاية العام ولكن كل هذه التفاصيل لم تحدد بعد.

> والحضور؟ ـ ثمة دول عربية مهتمة (السعودية، الكويت، الإمارات، قطر، مصر وغيرها) ودول غربية وصناديق مالية عربية وأجنبية. اجتماع سنغافورة حضرته عدة دول غربية، منها الولايات المتحدة وألمانيا والسويد وفرنسا وبريطانيا... أريد أن أؤكد على وجود مناخ تعاطفي إيجابي لمساعدة لبنان وإرادة دولية لترجمة ذلك الى دعم مالي.

> ولكن ما هو المرجو من هذا المؤتمر؟ وهل الأطراف المانحة مستعدة لتقديم الدعم في ظل انقسام سياسي كبير في لبنان؟ ـ علينا أن نميز بين أمرين: المنح التي أعطتها الدول العربية (السعودية، الكويت، الإمارات، قطر) الى لبنان بمعزل عن أي وضع سياسي داخلي بمعزل عن أية مطالبة بإصلاحات. وهذه المنح ظهر جزء منها في مؤتمر استوكهولم الأخير، وجزء آخر قدم مباشرة للدولة اللبنانية، وبعض هذه المنح قيد الصرف. وفي استوكهولم، قدمت للبنان وعود بمساعدات قيمتها 950 مليون دولار. يضاف اليها 500 مليون دولار من السعودية و300 مليون دولار من الكويت. وكانت الدولة تسلمت مساعدات قيمتها 105 ملايين دولار. أما بخصوص المؤتمر المرجو، فإنه مرهون بقرار من مجلس الوزراء حول برنامج الإصلاحات.

> أي بكلام مباشر، قيمة المساعدات مرهونة بقدرة الحكومة على إقناع الدول والجهات المانحة وببرنامجها الإصلاحي وبورقة العمل التي ستقدمها؟

ـ تماما. وللوصول الى الإقناع، ينبغي أن يكون هناك توافق على البرنامج الإصلاحي.

> عدنا إذا الى السياسة؟

ـ أكيد. من يدير البلد هم السياسيون الذين اختارهم الشعب اللبناني للاهتمام بشؤونه.

> كيف يمكن توصيف الوضع الاقتصادي في لبنان اليوم؟

ـ بعد الحرب الأخيرة، تحسن الوضع الاستهلاكي وعاد بعض النشاط الى قطاع الخدمات. حركة الاستثمارات الجديدة لم تنطلق بعد. أما النمو فلن يعلو عن الصفر في المائة، فيما التضخم يرجح أن يصل الى 7 في المائة. ومن الأمور المشجعة أن ميزان المدفوعات إيجابي (1.6 مليار دولار) لغاية نهاية أغسطس (آب) وهذا أمر يريح لبنان. وفي فترة الحرب خرج من لبنان 2.2 مليار دولار عاد منها حتى الآن مليار دولار. ونتوقع أن تستعيد المصارف كل ما خرج من لبنان خلال الشهرين القادمين. كذلك فإن حركة الودائع ما زالت ناشطة، إذ أنها هذا العام تحسنت بنسبة 5 في المائة وهي تبلغ حاليا 63 مليار دولار.

هذه المعطيات تظهر أنه بمجرد أن يحصل ضبط لمكامن الضعف الناتجة عن المالية العامة والتجاذبات السياسية، فإن لبنان سيعرف نموا قويا. ونحن نتوقع لـ2007، إضافة الى اشتداد حركة الاستهلاك، حركة إعمار مهمة، وإذا توافرت الأجواء ستعود حركة الاستثمار، إذ أن لبنان كان قد استقطب ملياري دولار من الاستثمارات المباشرة في اقتصاده في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي. ولبنان سيكون مجددا جاذبا للاستثمار.

> رغم الظروف المعروفة؟

ـ حاليا، هناك بطبيعة الحال مرحلة ترقب.

> بعضهم يرى في استقرار صرف الليرة نتائج عوامل خارجية مثل الودائع المالية العربية وخلافها...

ـ قوة الليرة تقوم على عامل الثقة. > ولكن أيضا على المعطيات الاقتصادية؟

ـ المعطيات الاقتصادية أحد العناصر. لكن عنصر الثقة هو الأهم. ثمة دول في العالم أوضاعها الاقتصادية ممتازة وعملاتها ضعيفة. لا أريد إعطاء أسماء. الأكيد أننا ما كنا لنستطيع خلال 14 عاما المحافظة على سعر صرف مصطنع لليرة. ومرور الزمن يظهر أن سعر العملة مبني على أسس متينة طورناها نحن في البنك المركزي ومنها قبولنا ودائع. العملة الوطنية صمدت عام 2004 لدى الاستحقاق الرئاسي كما صمدت عام 2005 مع اغتيال الرئيس الحريري وكذلك مع الحرب الإسرائيلية الأخيرة. وكل ذلك يظهر أن سعر الصرف يعبر عن سعر حقيقي وناتج عن الثقة بالسوق.

> هل زادت الدولرة إبان الاعتداء الإسرائيلي؟

ـ ارتفعت من 72 في المائة الى 76 في المائة، بينما كانت قد ارتفعت من 70 إلى 80 في المائة عقب اغتيال الحريري. أريد أن أضيف أن ثمة ترابطا بين العملة والفوائد. فالليرة القوية هي التي حافظت على استقرار الفوائد وتوفر الثقة لتستقطب المصارف الودائع، ومن المعترف به عالميا أن سعر الصرف واقع وليس مصطنعا. وبالمناسبة، أريد أن أشكر المملكة السعودية والملك عبد الله والحكومة على مساعدتهم. وأشكر كذلك إخواننا في الكويت والإمارات وقطر على المساعدات التي تلقيناها. مساعداتهم بينت عن تضامن وكان لها صدى وساهمت في صمود اللبنانيين خلال الاعتداء الإسرائيلي.

> كيف تقييمك للمشهد السياسي الحالي في لبنان؟ وهل أنت مرشح لرئاسة الجمهورية؟

ـ اليوم لبنان منقسم، وهناك جدل وتجاذب بين فريقين كل منهما يمثل نصف البلد. أنا أفضل البقاء خارج الجدل لأنني أعتبر أن المصرف المركزي يجب أن يبقى على مسافة واحدة من كل الفرقاء السياسيين، وهذا لمصلحة لبنان وحتى لا يتصور أي فريق أننا طرف. وبالطبع هذا الخط يوفر لنا المرونة في التحرك ويبعد المصرف عن التشكيك بنوايا المصرف ومنطلقاته. نحن نعرف أن هذا هو لبنان وهذا واقعه ونتعاطى معه بواقعية، ونحن نحتاط لذلك، بمعنى أن سياستنا تأخذ بعين الاعتبار احتمال التأزم السياسي في لبنان. أما من حيث الترشيح والانتخابات، فأنا يشرفني أن اسمي يطرح.

أنا لست من عائلة سياسية. وإذا برز اسمي فبسبب العمل الذي أضطلع به ونشوء تفكير بأنني قادر على تحمل المسؤوليات الكبيرة في لبنان. لكن الموضوع غير مطروح اليوم وعندما نصل الى موضوع الانتخابات يمكن أن نبحث هذا الأمر.