100 مليار دولار.. حجم التبادل التجاري المتوقع بين الصين وأفريقيا بحلول 2020

نظرة بالأرقام إلى التحدي الأصفر الجديد لهيمنة واشنطن

TT

إبان حِقبة الحرب الباردة، كانت قضية «التحرر من نير الاستعمار» بوجهيه القديم (الأوروبي) والجديد (الأميركي) جزءاً أساسياً من استراتيجية دخول الصين إلى أسواق القارة الأفريقية. غير أن الأولويات الصينية في مجال العلاقات الخارجية، بما في ذلك الاقتصاد والتجارة الخارجية، تبدلت إبان مرحلة الانفتاح التي قادها دينغ هسياو بينغ بين عامي 1981 و1997 وأخذت تنحو في المجال الاقتصادي ـ داخلياً وخارجياً ـ باتجاه براغماتي واقعي. أما الولايات المتحدة، فأخذت تقتحم أسواق القارة السمراء بوتيرة متسارعة منذ مطلع عقد الستينات مع غروب شمس قوى الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا وبلجيكا بالذات)، وكان من أهم الدول التي تنامى فيها الحضور الأميركي الكونغو (زائير سابقا) في عهد الرئيس موبوتو سيسي سيكو، بينما استفادت الصين من الأنظمة الاشتراكية في كل من تنزانيا وأنغولا وموزمبيق وغيرها. وفي العقدين الأخيرين، ازداد تغلغل واشنطن التجاري ليس فقط في المستعمرات البريطانية السابقة كنيجيريا وكينيا وأوغندا وطبعاً جنوب أفريقيا، بل في المستعمرات الفرنسية السابقة أيضاً مما ولّد حالة من التنافس بل والصراع السياسي المستتر بين باريس وواشنطن وكان تتويج هذا العهد الجديد من الاهتمام الأميركي بالقارة جولة الرئيس السابق بيل كلينتون في مارس (آذار) 1998. بيد أن استراتيجية واشنطن، ولا سيما في عهد الرئيس الحالي جورج بوش (الابن)، سقطت في مستنقع الشعارات الآيديولوجية والاقتصادية التي طالما رفعتها واشنطن في معاركها ضد المعسكر الاشتراكي؛ وفي مقدمها الديمقراطية والحرية الاقتصادية وحقوق الإنسان إلخ. وها هي هذه الشعارات تعرقل اليوم سعي الشركات الأميركية الكبرى إلى تعزيز حضورها في القارة بسبب المقاطعة التي تفرضها واشنطن على بعض الدول الأفريقية التي تناوئ حاكميها وحكوماتها، في حين أن ما تفعله السلطات الصينية هو النقيض تماماً لتعنت واشنطن وإملاءاتها. فبكين تنتهج حالياً نهج الانفتاح التام على الدول الأفريقية من دون تحفظ على سياساتها، وترتبط مع العديد منها راهناً بعقود نفطية واستثمارية وإنشائية ضخمة. وهنا تجدر الإشارة إلى حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الأفريقية بلغ العام الماضي 39.7 مليار دولار، أي ما يعادل أربعة أضعاف ما كان عليه عام 2000، وتزمع السلطات الصينية زيادة هذا الرقم إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2020 وفتح أسواق الصين للصادرات الأفريقية. وفي ما يخص النفط ثمة توسع ملموس لأعمال شركات النفط الصينية التابعة للدولة في أفريقيا، حيث وقعت اتفاقيات مع عدة دول؛ منها نيجيريا وأنغولا والسودان، كذلك توسع الشركات الصناعية الصينية شبكة أعمالها في عدد من الدول الأفريقية. هذا، وكانت صحيفة «يو إس ايه توداي» الأميركية قد نشرت في وقت سابق من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري بالتزامن مع انعقاد قمة بكين، تقريراً أشار بالأرقام إلى أن حاجة الصين المتزايدة إلى النفط والمواد الخام ـ في ظل نموها الصناعي والاستهلاكي الضخم ـ وراء التوسع الجديد في الاندفاع الصيني باتجاه أفريقيا. ولكن في المقابل، انتقد التقرير بصورة مباشرة ما وصفه بـ«البراغماتية» الصينية المفرطة في تعاملها مع أفريقيا، مدعياً أن هذا التوسع يتجاهل عمداً ظروف العمل اللاإنسانية والتلوث البيئي والفساد المستشري في معظم الدول الأفريقية، ومعلوم أن بعض جماعات حقوق الإنسان في الغرب تتنتقد سلطات بكين على التعاون مع حكومات دول تتهمها الدوائر الغربية بانتهاك حقوق الإنسان منها السودان وزيمبابوي. كما رأى التقرير أن ما يساعد الصين أيضاً في التغلب على منافسيها الغربيين أنها لا تفرض رسوم استيراد على منتجات 28 دولة في أفريقيا.

الصين تستورد 40 % من احتياجاتها النفطية: في مجال النفط، يشكل ما تستورده الصين من النفط حالياً 40 % من مجموع ما تستهلكه، والتوقعات تشير إلى الواردات النفطية سترتفع بحلول 2020 إلى نسبة 60 % من إجمالي استهلاكها من النفط في ضوء تنامي حاجاتها، وهي لذا تعتبر صفقاتها النفطية الخارجية استثمارات في خدمة أمنها القومي. ورغم أن المشتريات ليست رخيصة الثمن ولا بد من دفعها بالدولار، نشطت شركات النفط الصينية في البحث عن مصادر جديدة. وفي أفريقيا وجدوا ضالتهم المنشودة في انغولا وتشاد والكونغو وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى.

ووفق تقديرات مؤسسة كارنيغي للسلام بلغ حجم الاستثمارات الصينية في النفط الأفريقي نحو 15 مليار دولار. كذلك انطلاقاً من الاعتبارات الصينية لمسألة الأمن القومي، فإن بكين تتعايش بواقعية، ومن دون إملاء شروط سياسية أو اقتصادية، مع الدول الأفريقية مكتفية بأن تكون مواقف هذه الدول مؤيدة لسياسة بكين من تايوان.

وبالتالي، ليس لديها تحفظات عن السياسات الداخلية للدول الأفريقية التي تتعامل معها بعكس الولايات المتحدة التي تتشدد في قضايا مثل حقوق الإنسان والفساد ونقص الشفافية المالية. وعلى سبيل المثال، بينما تفرض واشنطن على السودان، بسبب الوضع في إقليم دارفور، عقوبات اقتصادية صارمة، تشتري الصين حالياً ثلثي إجمالي النفط السوداني، بل دأبت الصين حتى اليوم على معارضة صدور عقوبات ضد السودان في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. أيضاً قدمت الصين وتقدم تسهيلات وإعانات سخية في أفريقيا شملت حتى الآن 26 دولة بينها غانا وجمهورية الكونغو التي حصلت من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على إعفاءات وإعانات ديون. من ناحية ثانية، تشتري الصين اليوم من أفريقيا ما نسبته 25 % من إجمالي نفطها المستورد، وثمة اهتمام رسمي برفع هذه النسبة إلى 30 %، في حين يشكل النفط الأفريقي نسبة لا تزيد على 14 % من إجمالي ما تستورده الولايات المتحدة من النفط. التناقض في المنظور السياسي: هذا التعاطي من قبل الصين لا يريح أوساطاً غربية، منها بول وولفويتز رئيس البنك الدولي وأحد «صقور» الإدارة الأميركية سابقاً، الذي انتقد صراحة قبل بضعة أسابيع الممارسات التسليفية التي تنتهجها البنوك الصينية، زاعماً أنها لا تلتزم بالمعايير الاجتماعية والبيئية التي يقرها 80 % من البنوك التجارية العالمية. غير أن بكين لا تتردد في الرد متهمة البنك الدولي بالتركيز تحت قيادة وولفويتز على قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان (وفق منظوره) وهو ما لا ترى أنه أمر ملزم لها. بل على العكس لا ترى بكين غضاضة في ترويج مفهوم الدور الريادي للقطاع العام في الشأن الاقتصادي داخل الدول الأفريقية التي تعاني وطأة نمط اقتصاد السوق الحر الذي يروج له صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأميركية. ومن المفارقات هنا أن الصين، التي أضحت اليوم عملاقاً اقتصادياً واستثمارياً، تسعى بطريقة أخرى من تعزيز علاقاتها الأفريقية التي كانت قد باشرتها خلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي مشجعة الدول النامية في القارة السمراء على انتهاج نمط الاقتصاد الاشتراكي الموجه. والواضح أن الصين تعتزم مواصلة تعزيز علاقاتها وزيادة استثماراتها الإفريقية في سباق مفتوح مع الولايات المتحدة والشركات النفطية والصناعية الأميركية. .... واختلاف في المقاربة: الصين تجتهد أيضاً في كسب ود الأفارقة عبر إنشاء تجمعات ومنتديات حوارية وتعاونية تسهم في خلق أجواء «سلام مع تنمية» بعيدا عن لغة التهديد والوعيد. ولا شك أن هذا النوع من المقاربة نجح في فتح أفريقيا أبواب مواردها من النفط والغاز الطبيعي، إلى المناجم والمحاصيل، مروراً بالمشاريع الإنشائية أمام الشركات الصينية. والحصيلة البينة أن حجم العلاقات التجارية الصينية ـ الأفريقية وصلت الآن إلى نصف حجم العلاقات التجارية القديمة التي تربط الدول الأفريقية بالولايات المتحدة. وهنا تلفت بعض التقارير الاقتصادية واشنطن إلى ضرورة التنبه إلى جدية التحدي الصيني، مع أنه على الصعيد النفطي على الأقل ليس ثمة ما يقلق الأميركيين حتى الآن. ففي حين تستثمر بكين أسلوب الانفتاح اللا مشروط والنيات الحسنة مع القيادات الأفريقية تواصل واشنطن الضغط على القادة الأفارقة لقبول فكرة إنشاء قواعد عسكرية أميركية فوق أراضيهم، والمشاركة في حرب واشنطن على «الإرهاب» والتشدد في مسائل احترام حقوق الإنسان (من المنظور الأميركي طبعاً).

وفي هذا المجال، يشير أحد التقارير إلى أن الاضطرابات التي تهدد عدة مناطق أفريقية والتي تهدد بأن تجعل منها ملاذات آمنة للحركات الإرهابية، تدفع واشنطن إلى مضاعفة ضغطها «لتعميم الديمقراطية» في القارة. ولهذا الغرض رصدت إدارة الرئيس بوش مبلغ 100 مليون دولار لمساعدة دول شرق أفريقيا على تدريب قواتها المسلحة وتحسين مستوى حماية الحدود وقطع طرق تمويل الحركات الراديكالية وتعزيز إجراءات الأمن الجوي. وعبر ما يسمى «حساب تحديات الألفية»، عرضت إدارة بوش مساعدة الحكومات الأفريقية على تطوير مستويات أدائها، ودعم مشاريع التنمية لمكافحة الفقر وترويج النمو الاقتصادي، أمام خلفية آفات فظيعة تجتاح منطاق واسعة من القارة مثل الآيدز والمجاعات والجفاف والتصحر والتلوث والمديونية وغيرها. وتوجد حالياً 22 دولة أفريقية على قائمة الدول المؤهلة لتقديم طلبات تمويل بينها غانا وبنين وبوركينا فاسو ومدغشقر وموزمبيق والسنغال والمغرب ومالي، وثمة 17 دول أخرى وقعت بالفعل على اتفاقية «عتبة» الدعم بينها تنزانيا وزامبيا وبروكينا فاسو وملاوي. ويركز «الحساب» على أن العلاقة مع الدول المستفيدة من التمويل علاقة «شراكة» لا «أبوة» من قبل واشنطن، وأن هذا التمويل يغطي البنى التحتية المتصلة بمسائل النمو الاقتصادي ومكافحة الفقر، ومنها بناء الموانئ وشبكات الطرق والجسور وتطوير شبكات المياه والصرف الصحي والري وما إلى ذلك. ووفق «الحساب» سيكون قد رصد بحلول نهاية السنة الحالية مبلغ 3 مليارات للدعم والإعانة في أفريقيا.

من ناحية ترزح الدول الأفريقية اليوم تحت مديونية ثقيلة، وعليها رغم مصاعبها الهائلة تسديد نحو 15 مليار دولار سنوياً للدول الغنية الدائنة لخدمة الديون فحسب، وهذا المبلغ المدفوع لخدمة الدين أكبر مما تنفقه هذه الدول على القطاعين الصحي والتعليمي فيها. وحتى الآن برغم تفاهم الدول الصناعية الكبرى (مجموعة الثماني) على شطب ديون الدول الأفقر في إفريقيا، لم يحصل أي تقدم فعلي على هذا الصعيد، بسبب اختلاف التصورات والحلول العملية بين الدول الاعضاء، حتى بين الحليفين الحميمين الولايات المتحدة وبريطانيا.

وعودة إلى «حساب تحديات الألفية»، كان الرئيس بوش قد اقترح عام 2002 زيادة حجم الإعانات الأميركية الخارجية خلال ثلاث سنوات بـ 10 مليارات دولار إضافية بحيث يصل ما تنفقه الولايات المتحدة بحلول عام 2007 إلى أكثر من 50 % (15 مليار دولار سنوياً) عن العام السابق. إلا أن «الحساب» يسير ببطء، وهو يتخلف عن الهدف المحدد له فعام 2004 خصص له مبلغ مليار دولار، وللعام 2005 ارتفع المبلغ بنسبة ضئيلة إلى 1.25 مليار، وهو ما يعني نصف ما طلبه البيت الأبيض. اضف إلى ذلك أن مبلغ كهذه أدنى بكثير مما باستطاعة الولايات المتحدة وأدنى اكثر بكثير مما تحتاج إليه دول أفريقيا.

* وحدة أبحاث «الشرق الأوسط»