الإسمنت مثلا..

عاطف داهود *

TT

من أخطاء الاقتصاد العربي المؤسفة، غياب التخطيط الجماعي والرؤيا الشمولية للاقتصاد وتغليب التنافس غير المدروس الذي يعود علينا بخسائر فادحة، ليس على الصعيد الفردي فحسب، بل أيضا على الصعيد العام، وطنيا وعربيا. فالاقتصاد الناجح ينبغي ان يبتعد عن الأنانية ويتوفر فيه حد أدنى من المصلحة العليا. ولكي لا يظل الكلام عموميا مبهما، أسوق مثلا من سوق الإسمنت في الأردن للدلالة على الفكرة. ففي هذا البلد العزيز يوجد اليوم مصنعان اثنان للاسمنت تابعان لـ«شركة الاسمنت الأردينة»، وهي من مجموعة «لافارج» الفرنسية، وينتجان معا 4 ملايين طن سنويا. المصنع الأول في الفحيص وينتج مليوني طن والثاني يقع في منطقة «الرشادية» جنوبي الأردن وينتج المقدار نفسه. وبما ان الأردن يشهد نهضة عمرانية، فإنه يحتاج الى زيادة في الانتاج بمقدار نصف مليون طن في السنة، ابتداء من العام 2008. وقد خططت الشركة المذكورة لمضاعفة انتاج مصنعها في الرشادية خلال السنتين القادميتين. مما يعني ان السوق الأردنية ستتشبع من انتاج الإسمنت بل سيفيض انتاجها من الإسمنت في السنة القادمة.

لكن ثلاث شركات انتاج جديدة للاسمنت ظهرت فجأة وحصلت على تراخيص لاقامة مصانع اسمنت جديدة، الأولى هي الشركة الحديثة للتعدين، من مجموعة شركات المناصير التي تستهلك حوالي 30% من احتياجات السوق المحلية في الأردن، وهي بصدد اقامة مصنع على مشارف عمان الجنوبية (الدامخي)، وشركة اسمنت الراجحي السعودية التي باشرت في اقامة مصنعين لها أحدهما في منطقة المفرق على مسافة 60 كيلومترا عن عمان، وقد حصلت على التراخيص اللازمة له والثاني في القطرانة، جنوبي الأردن، وهي بصدد الحصول على ترخيص له، والشركة الثالثة هي شركة الإسمنت العربية وحصلت على تراخيص اقامة مصنع في منطقة الجنوب بجوار مصنع اسمنت الراجحي، وكلاهما قريب من منطقة المصنع الكبير للشركة الأردنية في الرشادية.

إذا حسبنا كمية الانتاج المتوقعة لهذه المصانع مجتمعة في العام 2008 ـ 2009، سنجد انها ستصل في الحد الأدنى الى عشرة ملايين طن سنويا، في حين لا تزيد حاجة الأردن عن 4 ـ 4.5 ملايين طن من الاسمنت. وكما جاء في أبحاث مؤتمر «انتر سيم» في دبي نهاية شهر فبراير (شباط) الماضي، فإن ذلك يعني اغراقا لسوق الإسمنت الأردنية، مع كل ما يعنيه ذلك من خسائر للاقتصاد. فالإغراق يؤدي ليس فقط الى زيادة التنافس وتخفيض الأسعار بشكل حاد، ما قد يعود بفائدة مؤقتة على المستهلك، وإنما يؤدي أيضا الى انحدار حاد في الأرباح من شأنه أن يؤدي إلى اغلاق مصانع والقذف بمئات العمال الى سوق البطالة ورخص الأيدي العاملة وفوضى انتاجية عارمة تفتح الباب أمام الغش لتخفيض تكاليف الانتاج وستلحق الضرر في كل هذا الفرع، ليصبح البناء والتعمير باب آفة بدلا من أن يكون فاتحة خير وازدهار.

لكن الأنكى من ذلك، هو أن الأنباء عن فتح ثلاثة مصانع جديدة للإسمنت في الأردن، فتحت شهية شركات أخرى للاستثمار في هذا الفرع في الأردن نفسها، وهناك أكثر من شركة عربية من خارج الأردن، تخطط للانضمام الى هذه السوق. وقد يكون وراء هذه المبادرة بعض السماسرة الذين لا يعملون إلا وفق الربح السريع، فيخدعون بعض الشركات العربية ويوهمونها بأن هناك امكانيات ربح هائلة من هذه السوق في الأردن، فتصرف تلك الشركات لهم شيكا مفتوحا لمباشرة بناء مصانع أخرى، ليصبح الاغراق طوفانا يجرف الجميع.

فهل هكذا تدار العمليات الاقتصادية؟ هل يمكن ان يحدث أمر كهذا في دول متطورة، يجري تخطيط اقتصادها وانتاجها بشكل سليم؟ أين وزارات التخطيط وأين خبراء الاقتصاد وأين المؤسسات الحكومية المسؤولة عن سياسة التخطيط السليم؟

والسؤال الأكبر: هل هذه المشكلة قائمة فقط في الأردن وفقط في مجال الإسمنت، أم انها طامة وعامة في حياتنا الاقتصادية العربية؟!

* مهندس متخصص في شؤون الإسمنت في الأردن